الباحث القرآني

﴿ولا تُطِعِ الكافِرِينَ والمُنافِقِينَ﴾ نَهْيٌ عَنْ مُداراتِهِمْ في أمْرِ الدَّعْوَةِ ولِينِ الجانِبِ في التَّبْلِيغِ والمُسامَحَةِ في الإنْذارِ، كُنِّيَ عَنْ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنْ طاعَتِهِمْ مُبالَغَةً في النَّهْيِ والتَّنْفِيرِ عَنِ المَنهِيِّ عَلَيْهِ بِنَظْمِها في سِلْكِها وتَصْوِيرٍ بِصُورَتِها، وحَمَلَ غَيْرُ واحِدٍ النَّهْيَ عَلى التَّهْيِيجِ والإلْهابِ مِن حَيْثُ إنَّهُ ﷺ لَمْ يُطِعْهم حَتّى يُنْهى، وجَعَلَهُ بَعْضُهم مِن بابِ: إيّاكَ أعْنِي واسْمَعِي يا جارَةُ، فَلا تَغْفُلُ. ﴿ودَعْ أذاهُمْ﴾ أيْ لا تُبالِ بِإيذائِهِمْ إيّاكَ بِسَبَبِ إنْذارِكَ إيّاهم واصْبِرْ عَلى ما يَنالُكَ مِنهُمْ، قالَهُ قَتادَةُ فَأذاهم مَصْدَرٌ مُضافٌ لِلْفاعِلِ، وقالَ أبُو حَيّانَ: الظّاهِرُ أنَّهُ مَصْدَرٌ مُضافٌ لِلْمَفْعُولِ لَمّا نُهِي ﷺ عَنْ طاعَتِهِمْ أُمِرَ بِتَرْكِ إيذائِهِمْ وعُقُوبَتِهِمْ، ونُسِخَ مِنهُ ما يَخُصُّ الكافِرِينَ بِآيَةِ السَّيْفِ، ورُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ مُجاهِدٍ والكَلْبِيِّ، والأوَّلُ أوْلى. ﴿وتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ﴾ في كُلِّ ما تَأْتِي وتَذْرُ مِنَ الشُّؤُونِ الَّتِي مِن جُمْلَتِها هَذا الشَّأْنُ فَإنَّهُ (p-47)عَزَّ وجَلَّ يَكْفِيهِمْ ﴿وكَفى بِاللَّهِ وكِيلا﴾ مَوْكُولًا إلَيْهِ الأُمُورُ في كُلِّ الأحْوالِ، وإظْهارُ الِاسْمِ الجَلِيلِ في مَوْقِعِ الإضْمارِ لِتَعْلِيلِ الحُكْمِ وتَأْكِيدِ اِسْتِقْلالِ الِاعْتِراضِ التَّذْيِيلِيِّ، ولَمّا وُصِفَ ﷺ بِنُعُوتٍ خَمْسَةٍ قُوبِلَ كُلُّ واحِدٍ مِنها بِخِطابٍ يُناسِبُهُ خَلا أنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ ما قابَلَ الشّاهِدَ صَرِيحًا، وهو لِأمْرٍ بِالمُراقَبَةِ ثِقَةٌ بِظُهُورِ دَلالَةِ المُبَشَّرِ عَلَيْهِ وهو الأمْرُ بِالتَّبْشِيرِ حَسْبَما ذُكِرَ آنِفًا وقابَلَ النَّذِيرَ بِالنَّهْيِ عَنْ مُداراةِ الكافِرِينَ والمُنافِقِينَ والمُسامِحَةِ في إنْذارِهِمْ، وقُوبِلَ الدّاعِي بِإذْنِهِ بِالأمْرِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ مِن حَيْثُ إنَّهُ عِبارَةٌ عَنِ الِاسْتِمْدادِ مِنهُ تَعالى والِاسْتِعانَةِ بِهِ عَزَّ وجَلَّ وقُوبِلَ السِّراجُ المُنِيرُ بِالِاكْتِفاءِ بِهِ تَعالى، فَإنَّ مَن أيَّدَهُ اللَّهُ تَعالى بِالقُوَّةِ القُدْسِيَّةِ ورَشَّحَهُ لِلنُّبُوَّةِ وجَعَلَهُ بُرْهانًا نَيِّرًا يَهْدِي الخَلْقِ مِن ظُلُماتِ الغَيِّ إلى نُورِ الرَّشادِ حَقِيقٌ بِأنْ يَكْتَفِيَ بِهِ تَعالى عَمَّنْ سِواهُ، وجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ مُقابِلَ الشّاهِدِ (وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ) ومُقابِلَ الإعْراضِ عَنِ الكافِرِينَ والمُنافِقِينَ (اَلْمُبَشَّرَ) أعْنِي المُؤْمِنِينَ، وتَكَلَّفَ في ذَلِكَ. وقالَ الطِّيبِيُّ طَيَّبَ اللَّهُ تَعالى ثَراهُ: نَظِيرُ هَذِهِ الآيَةِ ما رَوى البُخارِيُّ: والإمامُ أحْمَدُ عَنْ عَطاءِ بْنِ يَسارٍ قالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ العاصِ، فَقُلْتُ: أخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في التَّوْراةِ قالَ: واَللَّهِ إنَّهُ لَمَوْصُوفٌ في التَّوْراةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ في القُرْآنِ ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ إنّا أرْسَلْناكَ شاهِدًا ومُبَشِّرًا ونَذِيرًا﴾ وحِرْزًا لِلْمُؤْمِنِينَ أنْتَ عَبْدِي ورَسُولِي سَمَّيْتُكَ المُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ ولا غَلِيظٍ ولا صَخّابٍ في الأسْواقِ ولا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، ولَكِنْ يَعْفُو ويَصْفَحُ ولَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ تَعالى حَتّى يُقِيمَ بِهِ المِلَّةَ العَوْجاءَ ويَفْتَحَ بِهِ أعْيُنًا عُمْيًا وآذانًا صُمًّا وقُلُوبًا غُلْقًا، ورَوى الدّارِمِيُّ نَحْوَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ. فَقَوْلُهُ: حِرْزٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مُقابِلٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وداعِيًا إلى اللَّهِ بِإذْنِهِ﴾ فَإنَّ دَعْوَتَهُ ﷺ إنَّما حَصَلَتْ فائِدَتُها فِيمَن وفَّقَهُ اللَّهُ تَعالى بِتَيْسِيرِهِ وتَسْهِيلِهِ فَلِذَلِكَ آمَنُوا مِن مَكارِهَ الدُّنْيا وشَدائِدِ الآخِرَةِ فَكانَ صَلَواتُ اللَّهِ تَعالى وسَلامُهُ عَلَيْهِ بِهَذا الِاعْتِبارِ حِرْزًا لَهُمْ، وقَوْلُهُ: سَمَّيْتُكَ المُتَوَكِّلَ إلخ مُقابِلٌ لِقَوْلِهِ: ﴿وسِراجًا مُنِيرًا﴾ فَعُلِمَ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ وكَفى بِاللَّهِ وكِيلا﴾ مُناسِبٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وسِراجًا مُنِيرًا﴾ فَإنَّ السِّراجَ مُضِيءٌ في نَفْسِهِ ومُنَوِّرٌ لِغَيْرِهِ فَبِكَوْنِهِ مُتَوَكِّلًا عَلى اللَّهِ تَعالى يَكُونُ كامِلًا في نَفْسِهِ فَهو مُناسِبٌ لِقَوْلِهِ: أنْتَ عَبْدِي ورَسُولِي سَمَّيْتُكَ المُتَوَكِّلَ إلى قَوْلِهِ: يَعْفُو ويَصْفَحُ، وكَوْنُهُ مُنِيرًا يَفِيضُ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ يَكُونُ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ وهو مُناسِبٌ لِقَوْلِهِ: حَتّى يُقِيمَ بِهِ المِلَّةَ العَوْجاءَ الخ، ثُمَّ قالَ: ويُمْكِنُ أنْ يُنْزِلَ المَراتِبَ عَلى لِسانِ أهْلِ العِرْفانِ، فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنّا أرْسَلْناكَ شاهِدًا ومُبَشِّرًا ونَذِيرًا﴾ [اَلْفَتْحِ: 8] هو مَقامُ الشَّرِيعَةِ ودَعْوَةُ النّاسِ إلى الإيمانِ وتَرْكِ الكُفْرِ، ونَتِيجَةُ الإعْراضِ عَمّا سِوى اللَّهِ تَعالى، والأخْذُ في السَّيْرِ والسُّلُوكِ والِالتِجاءِ إلى حَرِيمِ لُطْفِهِ تَعالى، والتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ عَزَّ وجَلَّ، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿وسِراجًا مُنِيرًا﴾ هو مَقامُ الحَقِيقَةِ ونَتِيجَتُهُ فَناءُ السّالِكِ وقِيامُهُ بِقَيُّومِيَّتِهِ تَعالى اه، ولا يَخْفى تَكَلُّفُ ما قَرَّرَهُ في الحَدِيثِ، واَللَّهُ تَعالى أعْلَمُ بِمُرادِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب