الباحث القرآني

﴿وما كانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذا قَضى اللَّهُ ورَسُولُهُ أمْرًا أنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أمْرِهِمْ ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا﴾ ﴿وإذْ تَقُولُ لِلَّذِي أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وأنْعَمْتَ عَلَيْهِ أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتَّقِ اللَّهَ وتُخْفِي في نَفْسِكَ ما اللَّهُ مُبْدِيهِ وتَخْشى النّاسَ واللَّهُ أحَقُّ أنْ تَخْشاهُ فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنها وطَرًا زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ في أزْواجِ أدْعِيائِهِمْ إذا قَضَوْا مِنهُنَّ وطَرًا وكانَ أمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ ﴿ما كانَ عَلى النَّبِيِّ مِن حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ في الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وكانَ أمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾ ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ ويَخْشَوْنَهُ ولا يَخْشَوْنَ أحَدًا إلّا اللَّهَ وكَفى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ ﴿ما كانَ مُحَمَّدٌ أبا أحَدٍ مِن رِجالِكم ولَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وخاتَمَ النَّبِيِّينَ وكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ ﴿وسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وأصِيلًا﴾ ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكم ومَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكم مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ وكانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ ﴿تَحِيَّتُهم يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وأعَدَّ لَهم أجْرًا كَرِيمًا﴾ ﴿ياأيُّها النَّبِيُّ إنّا أرْسَلْناكَ شاهِدًا ومُبَشِّرًا ونَذِيرًا﴾ ﴿وداعِيًا إلى اللَّهِ بِإذْنِهِ وسِراجًا مُنِيرًا﴾ ﴿وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ بِأنَّ لَهم مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا﴾ ﴿ولا تُطِعِ الكافِرِينَ والمُنافِقِينَ ودَعْ أذاهم وتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ وكَفى بِاللَّهِ وكِيلًا﴾ . (p-٢٣٣)قالَ الجُمْهُورُ، وابْنُ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ، ومُجاهِدٌ، وغَيْرُهم: خَطَبَ الرَّسُولُ ﷺ لِزَيْدٍ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، فَأبَتْ وقالَتْ: لَسْتُ بِناكِحَةٍ، فَقالَ: «بَلى فَأنْكِحِيهِ فَقَدْ رَضِيتُهُ لَكِ»، فَأبَتْ، فَنَزَلَتْ. وذَكَرَ أنَّها وأخاها عَبْدَ اللَّهِ كَرِها ذَلِكَ، فَلَمّا نَزَلَتِ الآيَةُ رَضِيا. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: وهَبَتْ أُمُّ كُلْثُومِ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أبِي مُعَيْطٍ، وهي أوَّلُ امْرَأةٍ وهَبَتْ لِلنَّبِيِّ نَفْسَها، فَقالَ: «قَدْ قَبِلْتُكِ وزَوَّجْتُكِ زَيْدَ بْنَ حارِثَةَ»، فَسَخِطَتْ هي وأخُوها، قالا: إنَّما أرَدْناهُ فَزَوَّجَنا عَبْدَهُ، فَنَزَلَتْ، والسَّبَبُ الأوَّلُ أصَحُّ. ومُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ لَمّا ذَكَرَ تِلْكَ الأوْصافَ السّابِقَةَ مِنَ الإسْلامِ فَما بَعْدَهُ، عَقَّبَ ذَلِكَ بِما صَدَرَ مِن بَعْضِ المُسْلِمِينَ، إذْ أشارَ الرَّسُولُ ﷺ بِأمْرٍ وقَعَ مِنهُمُ الإباءُ لَهُ، فَأُنْكِرَ عَلَيْهِمْ، إذْ طاعَتُهُ، عَلَيْهِ السَّلامُ، مِن طاعَةِ اللَّهِ، وأمْرُهُ مِن أمْرِهِ. و(الخِيَرَةُ) مَصْدَرٌ مِن تَخَيَّرَ عَلى غَيْرِ قِياسٍ، كالطِّيَرَةِ مِن تَطَيَّرَ. وقُرِئَ: بِسُكُونِ الياءِ، ذَكَرَهُ عِيسى بْنُ سُلَيْمانَ. وقَرَأ الحَرَمِيّانِ، والعَرَبِيّانِ، وأبُو جَعْفَرٍ، وشَيْبَةُ والأعْرَجُ، وعِيسى: ”أنْ تَكُونَ“، بِتاءِ التَّأْنِيثِ؛ (p-٢٣٤)والكُوفِيُّونَ، والحَسَنُ، والأعْمَشُ، والسُّلَمِيُّ: بِالياءِ. ولَمّا كانَ قَوْلُهُ: ﴿لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ﴾ يَعُمُّ في سِياقِ النَّفْيِ، جاءَ الضَّمِيرُ مَجْمُوعًا عَلى المَعْنى في قَوْلِهِ: (لَهم) مُغَلَّبًا فِيهِ المُذَكَّرُ عَلى المُؤَنَّثِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كانَ مِن حَقِّ الضَّمِيرِ أنْ يُوَحَّدَ، كَما تَقُولُ: ما جاءَنِي مِن رَجُلٍ ولا امْرَأةٍ إلّا كانَ مِن شَأْنِهِ كَذا. انْتَهى. لَيْسَ كَما ذُكِرَ؛ لِأنَّ هَذا عَطْفٌ بِالواوِ، فَلا يَجُوزُ إفْرادُ الضَّمِيرِ إلّا عَلى تَأْوِيلِ الحَذْفِ، أيْ: ما جاءَنِي مِن رَجُلٍ إلّا كانَ مِن شَأْنِهِ كَذا، وتَقُولُ: ما جاءَ زَيْدٌ ولا عَمْرٌو إلّا ضَرَبا خالِدًا، ولا يَجُوزُ إلّا ضَرَبَ إلّا عَلى الحَذْفِ، كَما قُلْنا. ﴿وإذْ تَقُولُ﴾ الخِطابُ لِلرَّسُولِ، عَلَيْهِ السَّلامُ. ﴿لِلَّذِي أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ﴾ بِالإسْلامِ، وهو أجَلُّ النِّعَمِ، وهو زَيْدُ بْنُ حارِثَةَ الَّذِي كانَ الرَّسُولُ ﷺ تَبَنّاهُ. ﴿وأنْعَمْتَ عَلَيْهِ﴾ وهو عِتْقُهُ، وتَقَدَّمَ طَرَفٌ مِن قِصَّتِهِ في أوائِلِ السُّورَةِ. ﴿أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ﴾ وهي زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ، وتَقَدَّمَ أنَّ الرَّسُولَ ﷺ كانَ خَطَبَها لَهُ. وقِيلَ: أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِصُحْبَتِكَ ومَوَدَّتِكَ، وأنْعَمْتَ عَلَيْهِ بِتَبَنِّيهِ. «فَجاءَ زَيْدٌ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أُرِيدُ أنْ أُفارِقَ صاحِبَتِي، فَقالَ: ”أرابَكَ مِنها شَيْءٌ ؟“ قالَ: لا واللَّهِ ولَكِنَّها تَعْظُمُ عَلَيَّ لِشَرَفِها وتُؤْذِينِي بِلِسانِها، فَقالَ: ”﴿أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ﴾“، أيْ: لا تُطَلِّقْها، وهو أمْرُ نَدْبٍ، ”﴿واتَّقِ اللَّهَ﴾ في مُعاشَرَتِها“ . فَطَلَّقَها، وتَزَوَّجَها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، بَعْدَ انْقِضاءِ عِدَّتِها» . وعَلَّلَ تَزْوِيجَهُ إيّاها بِقَوْلِهِ: ﴿لِكَيْ لا يَكُونَ عَلى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ﴾ في أنْ يَتَزَوَّجُوا زَوْجاتِ مَن كانُوا تَبَنَّوْهُ إذا فارِقُوهُنَّ، وأنَّ هَؤُلاءِ الزَّوْجاتِ لَيْسَتْ داخِلاتٍ فِيما حَرَّمَ في قَوْلِهِ: ﴿وحَلائِلُ أبْنائِكُمُ﴾ [النساء: ٢٣] . وقالَ عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ: كانَ قَدْ أوْحى اللَّهُ إلَيْهِ أنَّ زَيْدًا سَيُطَلِّقُها، وأنَّهُ يَتَزَوَّجُها بِتَزْوِيجِ اللَّهِ إيّاها. فَلَمّا شَكا زَيْدٌ خُلُقَها، وأنَّها لا تُطِيعُهُ، وأعْلَمَهُ بِأنَّهُ يُرِيدُ طَلاقَها، قالَ لَهُ ”﴿أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتَّقِ اللَّهَ﴾“، عَلى طَرِيقِ الأدَبِ والوَصِيَّةِ، وهو يَعْلَمُ أنَّهُ سَيُطَلِّقُها. وهَذا هو الَّذِي أخْفى في نَفْسِهِ، ولَمْ يُرِدْ أنَّهُ يَأْمُرُهُ بِالطَّلاقِ. ولَمّا عَلِمَ مِن أنَّهُ سَيُطَلِّقُها، وخَشِيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنْ يَلْحَقَهُ قَوْلٌ مِنَ النّاسِ في أنْ يَتَزَوَّجَ زَيْنَبَ بَعْدَ زَيْدٍ، وهو مَوْلاهُ، وقَدْ أمَرَهُ بِطَلاقِها، فَعاتَبَهُ اللَّهُ عَلى هَذا القَدْرِ في شَيْءٍ قَدْ أباحَهُ اللَّهُ بِأنْ قالَ؛ (أمْسِكْ) مَعَ عِلْمِهِ أنَّهُ يُطَلِّقُ، فَأعْلَمَهُ أنَّ اللَّهَ أحَقُّ بِالخَشْيَةِ، أيْ: في كُلِّ حالٍ. انْتَهى. وهَذا المَرْوِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ، هو الَّذِي عَلَيْهِ أهْلُ التَّحْقِيقِ مِنَ المُفَسِّرِينَ، كالزُّهْرِيِّ، وبَكْرِ بْنِ العَلاءِ، والقُشَيْرِيِّ، والقاضِي أبِي بَكْرِ بْنِ العَرَبِيِّ وغَيْرِهِمْ. والمُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿وتَخْشى النّاسَ﴾ إنَّما هو إرْجافُ المُنافِقِينَ في تَزْوِيجِ نِساءِ الأنْبِياءِ، والنَّبِيُّ مَعْصُومٌ في حَرَكاتِهِ وسَكَناتِهِ. ولِبَعْضِ المُفَسِّرِينَ كَلامٌ في الآيَةِ يَقْتَضِي النَّقْصَ مِن مَنصِبِ النُّبُوَّةِ، ضَرَبْنا عَنْهُ صَفْحًا. وقِيلَ؛ قَوْلُهُ ﴿واتَّقِ اللَّهَ وتُخْفِي في نَفْسِكَ ما اللَّهُ مُبْدِيهِ﴾ خِطابٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، أوْ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ لِزَيْدٍ، فَإنَّهُ أخْفى المَيْلَ إلَيْها، وأظْهَرَ الرَّغْبَةَ عَنْها، لَمّا تَوَهَّمَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أرادَ أنْ تَكُونَ مِن نِسائِهِ. انْتَهى. ولِلزَّمَخْشَرِيِّ في هَذِهِ الآيَةِ كَلامٌ طَوِيلٌ، وبَعْضُهُ لا يَلِيقُ ذِكْرُهُ بِما فِيهِ غَيْرُ صَوابٍ مِمّا جَرى فِيهِ عَلى مَذْهَبِ الِاعْتِزالِ وغَيْرِهِ، واخْتَرْتُ مِنهُ ما أنِصُّهُ. قالَ: كَمْ مِن شَيْءٍ يَتَحَفَّظُ مِنهُ الإنْسانُ ويَسْتَحْيِي مِن إطْلاعِ النّاسِ عَلَيْهِ، وهو في نَفْسِهِ مُباحٌ مُتَّسِعٌ وحَلالٌ مُطْلَقٌ، لا مَقالَ فِيهِ ولا عَيْبَ عِنْدَ اللَّهِ. ورُبَّما كانَ الدُّخُولُ في ذَلِكَ المُباحِ سُلَّمًا إلى حُصُولِ واجِباتٍ، لِعِظَمِ أثَرِها في الدِّينِ، ويَجِلُّ ثَوابُها، ولَوْ لَمْ يُتَحَفَّظْ مِنهُ، لَأطْلَقَ كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ فِيهِ ألْسِنَتَهم، إلّا مَن أُوتِيَ فَضْلًا وعِلْمًا ودِينًا ونَظَرًا في حَقائِقِ الأشْياءِ ولُبابِها دُونَ قُشُورِها. ألا تَرى أنَّهم كانُوا إذا طَمِعُوا في بُيُوتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، بَقَوْا مُرْتَكِزِينَ في مَجالِسِهِمْ لا يُدِيمُونَ مُسْتَأْنِسِينَ بِالحَدِيثِ. وكانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُؤْذِيهِ قُعُودُهم، ويُضِيقُ صَدْرَهُ حَدِيثُهم، والحَياءُ يَصُدُّهُ أنْ يَأْمُرَهم بِالِانْتِشارِ حَتّى نَزَلَتْ: ﴿إنَّ ذَلِكم كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكم واللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ﴾ [الأحزاب: ٥٣] . ولَوْ أبْرَزَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَكْنُونَ (p-٢٣٥)ضَمِيرِهِ، وأمَرَهم أنْ يَنْتَشِرُوا، لَشَقَّ عَلَيْهِمْ، ولَكانَ بَعْضُ المَقالَةِ. فَهَذا مِن ذَلِكَ القَبِيلِ؛ لِأنَّ طُمُوحَ قَلْبِ الإنْسانِ إلى بَعْضِ مُشْتَهِياتِهِ، مِنَ امْرَأةٍ أوْ غَيْرِها، غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِالقُبْحِ في العَقْلِ ولا في الشَّرْعِ. وتَناوُلُ المُباحِ بِالطَّرِيقِ الشَّرْعِيِّ لَيْسَ بِقَبِيحٍ أيْضًا، وهو خِطْبَةُ زَيْنَبَ ونِكاحُها مِن غَيْرِ اسْتِنْزالِ زَيْدٍ عَنْها، ولا طَلَبٍ إلَيْهِ. ولَمْ يَكُنْ مُسْتَنْكَرًا عِنْدَهم أنْ يَنْزِلَ الرَّجُلُ مِنهم عَنِ امْرَأتِهِ لِصَدِيقِهِ، ولا مُسْتَهْجَنًا إذا نَزَلَ عَنْها أنْ يَنْكِحَها الآخَرُ. فَإنَّ المُهاجِرِينَ حِينَ دَخَلُوا المَدِينَةَ، آثَرَتْهُمُ الأنْصارُ بِكُلِّ شَيْءٍ، حَتّى أنَّ الرَّجُلَ مِنهم إذا كانَتْ لَهُ امْرَأتانِ نَزَلَ عَنْ إحْداهُما وأنْكَحَها المُهاجِرَ. وإذا كانَ الأمْرُ مُباحًا مِن جَمِيعِ جِهاتِهِ، ولَمْ يَكُنْ فِيهِ وجْهٌ مِن وُجُوهِ القُبْحِ، ولا مَفْسَدَةٌ ولا مَضَرَّةٌ بِزَيْدٍ ولا بِأحَدٍ، بَلْ كانَ مُسْتَجِرًّا مَصالِحَ؛ ناهِيكَ بِواحِدَةٍ مِنها: أنَّ بِنْتَ عَمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، أمِنَتِ الأيْمَةَ والضَّيْعَةَ ونالَتِ الشَّرَفَ وعادَتْ أُمًّا مِن أُمَّهاتِ المُؤْمِنِينَ، إلى ما ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ مِنَ المَصْلَحَةِ العامَّةِ في قَوْلِهِ: ﴿لِكَيْ لا يَكُونَ﴾ الآيَةَ. انْتَهى ما اخْتَرْناهُ مِن كَلامِ الزَّمَخْشَرِيِّ. وقَوْلُهُ: ﴿أمْسِكْ عَلَيْكَ﴾ فِيهِ وُصُولُ الفِعْلِ الرّافِعِ الضَّمِيرَ المُتَّصِلَ إلى الضَّمِيرِ المَجْرُورِ وهُما لِشَخْصٍ واحِدٍ، فَهو كَقَوْلِهِ: ؎هَوِّنْ عَلَيْكَ ودَعْ عَنْكَ نَهْبًا صِيحَ في حَجَراتِهِ وذَكَرُوا في مِثْلِ هَذا التَّرْكِيبِ أنَّ ”عَلى“ و”عَنِ“ اسْمانِ، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونا حَرْفَيْنِ، لِامْتِناعِ فَكَّرَ فِيكَ، وأعْنِي بِكَ، بَلْ هَذا مِمّا يَكُونُ فِيهِ النَّفْسُ، أيْ: فَكِّرْ في نَفْسِكَ، وأعْنِي بِنَفْسِكَ، وقَدْ تَكَلَّمْنا عَلى هَذا في قَوْلِهِ: ﴿وهُزِّي إلَيْكِ﴾ [مريم: ٢٥] ﴿واضْمُمْ إلَيْكَ جَناحَكَ﴾ [القصص: ٣٢] . وقالَ الحَوْفِيُّ: ﴿وتُخْفِي في نَفْسِكَ﴾ مُسْتَأْنَفٌ ﴿وتَخْشى﴾ مَعْطُوفٌ عَلى (وتُخْفِي) . وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: واوُ الحالِ، أيْ: تَقُولُ لِزَيْدٍ: ﴿أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ﴾ مُخْفِيًا في نَفْسِكَ إرادَةَ أنْ لا يُمْسِكَها، وتُخْفِي خاشِيًا قالَةَ النّاسِ، أوْ واوُ العَطْفِ، كَأنَّهُ قِيلَ: وأنْ تَجْمَعَ بَيْنَ قَوْلِكَ: (أمْسِكْ) وإخْفاءِ قالَةِ وخَشْيَةِ النّاسِ. انْتَهى. ولا يَكُونُ ﴿وتُخْفِي﴾ حالًا عَلى إضْمارِ مُبْتَدَأٍ، أيْ: وأنْتَ تُخْفِي؛ لِأنَّهُ مُضارِعٌ مُثْبَتٌ، فَلا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الواوُ إلّا عَلى ذَلِكَ الإضْمارِ، وهو مَعَ ذَلِكَ قَلِيلٌ نادِرٌ، لا يُبْنى عَلى مِثْلِهِ القَواعِدُ؛ ومِنهُ قَوْلُهم: قُمْتُ وأصُكُّ عَيْنَهُ، أيْ: وأنا أصُكُّ عَيْنَهُ. ﴿واللَّهُ أحَقُّ أنْ تَخْشاهُ﴾ تَقَدَّمَ إعْرابُ نَظِيرِهِ في التَّوْبَةِ. ﴿فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنها وطَرًا﴾ أيْ: حاجَةً، قِيلَ: وهو الجِماعُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. ورَوى أبُو عِصْمَةَ نُوحُ بْنُ أبِي مَرْيَمَ، بِإسْنادٍ رَفَعَهُ إلى زَيْنَبَ، أنَّها قالَتْ: ما كُنْتُ أمْتَنِعُ مِنهُ، غَيْرَ أنَّ اللَّهَ مَنَعَنِي مِنهُ. وقِيلَ: إنَّهُ مُذْ تَزَوَّجَها لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الِاسْتِمْتاعِ بِها. ورُوِيَ أنَّهُ كانَ يَتَوَرَّمُ ذَلِكَ مِنهُ حِينَ يُرِيدُ أنْ يُقِرَّ بِها. وقالَ قَتادَةُ: الوَطَرُ هُنا: الطَّلاقُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿زَوَّجْناكَها﴾ بِنُونِ العَظَمَةِ؛ وجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وابْنُ الحَنَفِيَّةِ، وأخَواهُ الحَسَنُ والحُسَيْنُ، وأبُوهم عَلِيٌّ: زَوَّجْتُكَها، بِتاءِ الضَّمِيرِ لِلْمُتَكَلِّمِ. ونَفى تَعالى الحَرَجَ عَنِ المُؤْمِنِينَ في إجْراءِ أزْواجِ المُتَبَنِّينَ مَجْرى أزْواجِ النَّبِيِّينَ في تَحْرِيمِهِنَّ عَلَيْهِنَّ بَعْدَ انْقِطاعِ عَلائِقِ الزَّواجِ بَيْنَهم وبَيْنَهُنَّ. (وكانَ أمْرُ اللَّهِ) أيْ: مُقْتَضى أمْرِ اللَّهِ، أوْ مُضَمَّنُ أمْرِهِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وإلّا فالأمْرُ قَدِيمٌ لا يُوصَفُ بِأنَّهُ مَفْعُولٌ، ويَحْتَمِلُ عَلى بُعْدٍ أنْ يَكُونَ الأمْرُ واحِدَ الأُمُورِ الَّتِي شَأْنُها أنْ تُفْعَلَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (وكانَ أمْرُ اللَّهِ) الَّذِي يُرِيدُ أنْ يَكُونَهُ (مَفْعُولًا) مَكُونًا لا مَحالَةَ، وهو مَثَلٌ لِما أرادَ كَوْنَهُ مِن تَزْوِيجِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ زَيْنَبَ. ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِأمْرِ اللَّهِ المَكُونُ؛ لِأنَّهُ مَفْعُولُ يَكُونَ. ولَمّا نَفى الحَرَجَ عَنِ المُؤْمِنِينَ فِيما ذَكَرَ، وانْدَرَجَ الرَّسُولُ ﷺ فِيهِمْ، إذْ هو سَيِّدُ المُؤْمِنِينَ، نَفى عَنْهُ الحَرَجَ بِخُصُوصِهِ، وذَلِكَ عَلى سَبِيلِ التَّكْرِيمِ والتَّشْرِيفِ، ونَفى الحَرَجَ عَنْهُ مَرَّتَيْنِ، إحْداهُما بِالِانْدِراجِ في العُمُومِ، والأُخْرى بِالخُصُوصِ. ﴿فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ﴾ قالَ الحَسَنُ: فِيما خُصَّ بِهِ مِن صِحَّةِ النِّكاحِ بِلا صَداقٍ. وقالَ قَتادَةُ: فِيما أحَلَّ لَهُ. وقالَ الضَّحّاكُ: في الزِّيادَةِ عَلى الأرْبَعِ، وكانَتِ اليَهُودُ عابُوهُ بِكَثْرَةِ النِّكاحِ وكَثْرَةِ (p-٢٣٦)الأزْواجِ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: (سُنَّةَ اللَّهِ) أيْ: في الأنْبِياءِ بِكَثْرَةِ النِّساءِ، حَتّى كانَ لِسُلَيْمانَ، عَلَيْهِ السَّلامُ، ثَلاثُمِائَةِ حُرَّةٍ وسَبْعُمِائَةِ سُرِّيَّةٍ، وكانَ لِداوُدَ مِائَةُ امْرَأةٍ وثَلاثُمِائَةِ سُرِّيَّةٍ. وقِيلَ: الإشارَةُ إلى أنَّ الرَّسُولَ ﷺ جَمَعَ بَيْنَهُ وبَيْنَ زَيْنَبَ، كَما جَمَعَ بَيْنَ داوُدَ وبَيْنَ الَّتِي تَزَوَّجَها بَعْدَ قَتْلِ زَوْجِها. وانْتَصَبَ (سُنَّةَ اللَّهِ) عَلى أنَّهُ اسْمٌ مَوْضُوعٌ مَوْضِعَ المَصْدَرِ، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ؛ أوْ عَلى المَصْدَرِ؛ أوْ عَلى إضْمارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: الزَمْ، أوْ نَحْوُهُ، أوْ عَلى الإغْراءِ، كَأنَّهُ قالَ: فَعَلَيْهِ سُنَّةَ اللَّهِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقَوْلُهُ: أوْ عَلى الإغْراءِ، لَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأنَّ عامِلَ الِاسْمِ في الإغْراءِ لا يَجُوزُ حَذْفُهُ، وأيْضًا فَتَقْدِيرُهُ: فَعَلَيْهِ سُنَّةَ اللَّهِ بِضَمِيرِ الغَيْبَةِ، ولا يَجُوزُ ذَلِكَ في الإغْراءِ، إذْ لا يُغْرى غائِبٌ. وما جاءَ مِن قَوْلِهِمْ: عَلَيْهِ رَجُلًا لَيْسَنِي، لَهُ تَأْوِيلٌ، وهو مَعَ ذَلِكَ نادِرٌ. و(الَّذِينَ خَلَوْا) الأنْبِياءُ، بِدَلِيلِ وصْفِهِمْ بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ﴾ . (وكانَ أمْرُ اللَّهِ) أيْ: مَأْمُوراتُهُ، والكائِناتُ مِن أمْرِهِ، فَهي مَقْدُورَةٌ. وقَوْلُهُ: (قَدَرًا) أيْ: ذا قَدَرٍ، أوْ عَنْ قَدَرٍ، أوْ قَضاءً مَقْضِيًّا وحُكْمًا مَثْبُوتًا. و(الَّذِينَ) صِفَةُ (الَّذِينَ خَلَوْا)، أوْ مَرْفُوعٌ، أوْ مَنصُوبٌ عَلى إضْمارِهِمْ، أوْ عَلى: أمْدَحُ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ: الَّذِينَ بَلَّغُوا، جَعَلَهُ فِعْلًا ماضِيًا. وقَرَأ أُبَيٌّ: ”رِسالَةَ اللَّهِ“ عَلى التَّوْحِيدِ؛ والجُمْهُورُ: ”﴿يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ﴾“ جَمْعًا. (وكَفى بِاللَّهِ حَسِيبًا) أيْ: مُحاسِبًا عَلى جَمِيعِ الأعْمالِ والعَقائِدِ، أوْ مُحْسِبًا: أيْ: كافِيًا. ثُمَّ نَفى تَعالى كَوْنَ رَسُولِهِ ﴿أبا أحَدٍ مِن رِجالِكُمْ﴾ بَيْنَهُ وبَيْنَ مَن تَبَنّاهُ مِن حُرْمَةِ الصِّهارَةِ والنِّكاحِ ما يَثْبُتُ بَيْنَ الأبِ ووَلَدِهِ. هَذا مَقْصُودُ هَذِهِ الجُمْلَةِ، ولَيْسَ المَقْصُودُ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ولَدٌ، فَيَحْتاجُ إلى الِاحْتِجاجِ في أمْرِ بَنِيهِ بِأنَّهم كانُوا ماتُوا، ولا في أمْرِ الحَسَنِ والحُسَيْنِ بِأنَّهُما كانا طِفْلَيْنِ. وإضافَةُ (رِجالِكم) إلى ضَمِيرِ المُخاطَبِينَ يُخْرِجُ مَن كانَ مِن بَنِيهِ؛ لِأنَّهم رِجالُهُ، لا رِجالُ المُخاطِبِينَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ؛ ﴿ولَكِنْ رَسُولَ﴾ بِتَخْفِيفِ ”لَكِنْ“ ونَصْبِ ”رَسُولَ“ عَلى إضْمارِ كانَ، لِدَلالَةِ ”كانَ“ المُتَقَدِّمَةِ عَلَيْهِ؛ قِيلَ: أوْ عَلى العَطْفِ عَلى ﴿أبا أحَدٍ﴾ . وقَرَأ عَبْدُ الوارِثِ، عَنْ أبِي عَمْرٍو: بِالتَّشْدِيدِ والنَّصْبِ عَلى أنَّهُ خَبَرُ ”لَكِنَّ“، والخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: ولَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ وخاتَمَ النَّبِيِّينَ هو، أيْ: مُحَمَّدٌ. وحَذْفُ خَبَرِ لَكِنَّ وأخَواتِها جائِزٌ إذا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ. ومِمّا جاءَ في ذَلِكَ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎فَلَوْ كُنْتَ ضَبِّيًّا عَرَفْتَ قَرابَتِي ∗∗∗ ولَكِنَّ زَنْجِيًّا عَظِيمَ المَشافِرِ أيْ: أنْتَ لا تَعْرِفُ قَرابَتِي. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ: بِالتَّخْفِيفِ، ورَفْعِ ”ورَسُولُهُ“ و”خاتَمُ“، أيْ: ولَكِنْ هو رَسُولٌ، كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎ولَسْتُ الشّاعِرَ السَّقّافَ فِيهِمْ ∗∗∗ ولَكِنْ مَدَرَةَ الحَرْبِ العَوالِ أيْ: لَكِنْ أنا مَدَرَةٌ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (خاتِمَ) بِكَسْرِ التّاءِ، بِمَعْنى أنَّهُ خَتَمَهم، أيْ: جاءَ آخِرَهم. ورُوِيَ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: أنا خاتَمُ ألْفِ نَبِيٍّ، وعَنْهُ: أنا خاتَمُ النَّبِيِّينَ في حَدِيثِ ”واللَّبِنَةِ“ . ورُوِيَ عَنْهُ، عَلَيْهِ السَّلامُ، ألْفاظٌ تَقْتَضِي نَصًّا أنَّهُ لا نَبِيَّ بَعْدَهُ، والمَعْنى أنْ لا يَتَنَبَّأ أحَدٌ بَعْدَهُ، ولا يَرِدُ نُزُولُ عِيسى آخِرَ الزَّمانِ؛ لِأنَّهُ مِمَّنْ نُبِّئَ قَبْلَهُ، ويَنْزِلُ عامِلًا عَلى شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ مُصَلِّيًا إلى قِبْلَتِهِ كَأنَّهُ بَعْضُ أُمَّتِهِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وما ذَكَرَهُ القاضِي أبُو الطَّيِّبِ في كِتابِهِ المُسَمّى بِالهِدايَةِ، مِن تَجْوِيزِ الِاحْتِمالِ في ألْفاظِ هَذِهِ الآيَةِ ضَعِيفٌ، وما ذَكَرَهُ الغَزالِيُّ في هَذِهِ الآيَةِ، وهَذا المَعْنى في كِتابِهِ الَّذِي سَمّاهُ بِالِاقْتِصادِ، وتَطَرَّقَ إلى تَرْكِ تَشْوِيشِ عَقِيدَةِ المُسْلِمِينَ في خَتْمِمُحَمَّدٍ النُّبُوَّةَ، فالحَذَرَ الحَذَرَ مِنهُ، واللَّهُ الهادِي بِرَحْمَتِهِ. وقَرَأ الحَسَنُ، والشَّعْبِيُّ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، والأعْرَجُ بِخِلافٍ؛ وعاصِمٌ: بِفَتْحِ التّاءِ بِمَعْنى: أنَّهم بِهِ خُتِمُوا، فَهو كالخاتَمِ والطّابَعِ لَهم. ومَن ذَهَبَ إلى أنَّ النُّبُوَّةَ مُكْتَسَبَةٌ لا تَنْقَطِعُ، أوْ إلى أنَّ الوَلِيَّ أفْضَلُ مِنَ النَّبِيِّ، فَهو زِنْدِيقٌ يَجِبُ قَتْلُهُ. وقَدِ ادَّعى النُّبُوَّةَ ناسٌ، فَقَتَلَهُمُ المُسْلِمُونَ عَلى ذَلِكَ. وكانَ في عَصْرِنا شَخْصٌ مِنَ الفُقَراءِ ادَّعى النُّبُوَّةَ بِمَدِينَةِ مالقَةَ، فَقَتَلَهُ السُّلْطانُ ابْنُ الأحْمَرِ، مَلِكُ الأنْدَلُسِ بِغَرْناطَةَ، (p-٢٣٧)وصُلِبَ إلى أنْ تَناثَرَ لَحْمُهُ. ﴿وكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ هَذا عامٌّ، والقَصْدُ هُنا عِلْمُهُ تَعالى بِما رَآهُ الأصْلَحَ لِرَسُولِهِ، وبِما قَدَّرَهُ في الأمْرِ كُلِّهِ، ثُمَّ أمَرَ المُؤْمِنِينَ بِذِكْرِهِ بِالثَّناءِ عَلَيْهِ وتَحْمِيدِهِ وتَقْدِيسِهِ، وتَنْزِيهِهِ عَمّا لا يَلِيقُ بِهِ. والذِّكْرُ الكَثِيرُ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: أنْ لا يَنْساهُ أبَدًا، أوِ التَّسْبِيحُ مُنْدَرِجٌ في الذِّكْرِ، لَكِنَّهُ خُصَّ بِأنَّهُ يُنَزِّهُهُ تَعالى عَمّا لا يَلِيقُ بِهِ، فَهو أفْضَلُ، أوْ مِن أفْضَلِ الأذْكارِ. وعَنْ قَتادَةَ: قُولُوا: سُبْحانَ اللَّهِ، والحَمْدُ لِلَّهِ، ولا إلَهَ إلّا اللَّهُ، واللَّهُ أكْبَرُ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ. وعَنْ مُجاهِدٍ: هَذِهِ الكَلِماتُ يَقُولُها الطّاهِرُ والجُنُبُ. و(بَكْرَةً وأصِيلًا) يَقْتَضِيهِما: ”اذْكُرُوا“ و”سَبِّحُوا“، والنَّصْبُ بِالثّانِي عَلى طَرِيقِ الإعْمالِ، والوَقْتانِ كِنايَةٌ عَنْ جَمِيعِ الزَّمانِ، ذِكْرُ الطَّرَفَيْنِ إشْعارٌ بِالِاسْتِغْراقِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: أيْ: صَلُّوا صَلاةَ الفَجْرِ والعِشاءِ. وقالَ الأخْفَشُ: ما بَيْنَ العَصْرِ إلى العِشاءِ. وقالَ قَتادَةُ: الإشارَةُ بِهَذَيْنِ الوَقْتَيْنِ إلى صَلاةِ الغَداةِ وصَلاةِ العَصْرِ؛ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الأمْرُ بِالذِّكْرِ وإكْثارِهِ تَكْثِيرًا لِطاعاتٍ والإقْبالِ عَلى الطّاعاتِ، فَإنَّ كُلَّ طاعَةٍ وكُلَّ خَيْرٍ مِن جُمْلَةِ الذِّكْرِ. ثُمَّ خَصَّ مِن ذَلِكَ التَّسْبِيحِ (بُكْرَةً وأصِيلًا)، وهي الصَّلاةُ في جَمِيعِ أوْقاتِها، تَفْضُلُ الصَّلاةُ غَيْرَها، أوْ صَلاةُ الفَجْرِ والعِشاءِ؛ لِأنَّ أداءَهُما أشَقُّ. ولَمّا أمَرَهم بِالذِّكْرِ والتَّسْبِيحِ، ذَكَرَ إحْسانَهُ تَعالى بِصَلاتِهِ عَلَيْهِمْ هو ومَلائِكَتُهُ. قالَ الحَسَنُ: ﴿يُصَلِّي عَلَيْكُمْ﴾ يَرْحَمُكم. وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: يَغْفِرُ لَكم. وقالَ أبُو العالِيَةِ يُثْنِي عَلَيْكم. وقِيلَ: يَتَرَأَّفُ بِكم. وصَلاةُ المَلائِكَةِ الِاسْتِغْفارُ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ويَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ [غافر: ٧] . وقالَ مُقاتِلٌ: الدُّعاءُ، والمَعْنى: هو الَّذِي يَتَرَحَّمُ عَلَيْكم، حَيْثُ يَدْعُوكم إلى الخَيْرِ، ويَأْمُرُكم بِإكْثارِ الذِّكْرِ والطّاعَةِ، لِيُخْرِجَكم مِن ظُلُماتِ المَعْصِيَةِ إلى نُورِ الطّاعَةِ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: مِنَ الضَّلالَةِ إلى الهُدى. وقالَ مُقاتِلٌ: مِنَ الكُفْرِ إلى الإيمانِ. وقِيلَ: مِنَ النّارِ إلى الجَنَّةِ، حَكاهُ الماوَرْدِيُّ. وقِيلَ: مِنَ القُبُورِ إلى البَعْثِ. (ومَلائِكَتُهُ) مَعْطُوفٌ عَلى الضَّمِيرِ المَرْفُوعِ المُسْتَكِنِّ في (يُصَلِّي) فَأغْنى الفَصْلُ بِالجارِّ والمَجْرُورِ عَنِ التَّأْكِيدِ، وصَلاةُ اللَّهِ غَيْرُ صَلاةِ المَلائِكَةِ، فَكَيْفَ اشْتَرَكا في قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ ؟ وهو إرادَةُ وُصُولِ الخَيْرِ إلَيْهِمْ. فاللَّهُ تَعالى يُرِيدُ بِرَحْمَتِهِ إيّاهم إيصالَ الخَيْرِ إلَيْهِمْ، ومَلائِكَتُهُ يُرِيدُونَ بِالِاسْتِغْفارِ ذَلِكَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جُعِلُوا لِكَوْنِهِمْ مُسْتَجابِي الدَّعْوَةِ، كَأنَّهم فاعِلُونَ الرَّحْمَةَ والرَّأْفَةَ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهم: حَيّاكَ اللَّهُ: أيْ: أحْياكَ وأبْقاكَ، وحَيَّيْتُكَ: أيْ: دَعَوْتُ لَكَ بِأنْ يُحْيِيَكَ اللَّهُ؛ لِأنَّكَ لِاتِّكالِكَ عَلى إجابَةِ دَعْوَتِكَ كَأنَّكَ تُبْقِيهِ عَلى الحَقِيقَةِ؛ وكَذَلِكَ عَمَّرَكَ اللَّهُ وعَمَّرْتُكَ، وسَقاكَ اللَّهُ وسَقَيْتُكَ، وعَلَيْهِ قَوْلُهُ؛ ﴿إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب: ٥٦] أيِ: ادْعُوا لَهُ بِأنْ يُصَلّى عَلَيْهِ. ﴿وكانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ دَلِيلٌ عَلى أنَّ المُرادَ بِالصَّلاةِ الرَّحْمَةُ. انْتَهى. وما ذَكَرَهُ مِن قَوْلِهِ، كَأنَّهم فاعِلُونَ فِيهِ الجَمْعَ بَيْنَ الحَقِيقَةِ والمَجازِ، وما ذَكَرْناهُ مِن أنَّ الصَّلاتَيْنِ اشْتَرَكَتا في قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ أوْلى. ﴿تَحِيَّتُهم يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ﴾ أيْ: يَوْمَ القِيامَةِ. (سَلامٌ) أيْ: تَحِيَّةُ اللَّهِ لَهم. يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ: السَّلامُ عَلَيْكم، مَرْحَبًا بِعِبادِي الَّذِينَ أرْضَوْنِي بِاتِّباعِ أمْرِي، قالَهُ الرَّقاشِيُّ. وقِيلَ: يُحَيِّيهِمُ المَلائِكَةُ بِالسَّلامَةِ مِن كُلِّ مَكْرُوهٍ. وقالَ البَراءُ بْنُ عازِبٍ: مَعْناهُ أنَّ مَلَكَ المَوْتِ لا يَقْبِضُ رُوحَ المُؤْمِنِ حَتّى يُسَلِّمَ عَلَيْهِ. وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إذا جاءَ مَلَكُ المَوْتِ لِقَبْضِ رُوحِ المُؤْمِنِ قالَ: رَبُّكَ يُقْرِؤُكَ السَّلامَ، قِيلَ: فَعَلى هَذا الهاءُ في قَوْلِهِ: (يَلْقَوْنَهُ) كِنايَةً عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ، وقِيلَ: سَلامُ المَلائِكَةِ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ القُبُورِ. وقالَ قَتادَةُ: يَوْمَ دُخُولِهِمُ الجَنَّةَ يُحَيِّي بَعْضُهم بَعْضًا بِالسَّلامِ، أيْ: سَلِمْنا وسَلِمْتَ مِن كُلِّ مَخُوفٍ. وقِيلَ: تُحَيِّيهِمُ المَلائِكَةُ يَوْمَئِذٍ. وقِيلَ: هو سَلامُ مَلَكِ المَوْتِ والمَلائِكَةِ مَعَهُ عَلَيْهِمْ، وبِشارَتُهم بِالجَنَّةِ. والتَّحِيَّةُ مَصْدَرٌ في هَذِهِ الأقْوالِ أُضِيفَ إلى المَفْعُولِ، إلّا في قَوْلِ مَن قالَ إنَّهُ مَصْدَرٌ مُضافٌ لِلْمُحَيِّي والمُحَيّا، لا عَلى جِهَةِ العَمَلِ؛ لِأنَّ الضَّمِيرَ الواحِدَ لا يَكُونُ فاعِلًا مَفْعُولًا، ولَكِنَّهُ كَقَوْلِهِ: (p-٢٣٨)﴿وكُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٨] أيْ: لِلْحُكْمِ الَّذِي جَرى بَيْنَهم، ولِيَبْعَثَ إلَيْهِمْ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ التَّحِيَّةُ الجارِيَةُ بَيْنَهم هي سَلامٌ. وفَرَّقَ المُبَرِّدُ بَيْنَ التَّحِيَّةِ والسَّلامِ فَقالَ: التَّحِيَّةُ يَكُونُ ذَلِكَ دُعاءً، والسَّلامُ مَخْصُوصٌ، ومِنهُ: ﴿ويُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وسَلامًا﴾ [الفرقان: ٧٥] . والأجْرُ الكَرِيمُ: الجَنَّةُ (شاهِدًا) عَلى مَن بُعِثْتَ إلَيْهِمْ، وعَلى تَكْذِيبِهِمْ وتَصْدِيقِهِمْ، أيْ: مَفْعُولًا قَوْلُكَ عِنْدَ اللَّهِ، وشاهِدًا بِالتَّبْلِيغِ إلَيْهِمْ، وبِتَبْلِيغِ الأنْبِياءِ قَوْلَكَ. وانْتَصَبَ (شاهِدًا) عَلى أنَّهُ حالٌ مُقَدَّرَةٌ، إذا كانَ قَوْلُكَ عِنْدَ اللَّهِ وقْتَ الإرْسالِ لَمْ يَكُنْ شاهِدًا عَلَيْهِمْ، وإنَّما يَكُونُ شاهِدًا عِنْدَ تَحَمُّلِ الشَّهادَةِ وعِنْدَ أدائِها، أوْ لِأنَّهُ أقْرَبُ زَمانِ البَعْثَةِ، وإيمانُ مَن آمَنَ وتَكْذِيبُ مَن كَذَّبَ كانَ ذَلِكَ وقَعَ في زَمانٍ واحِدٍ. ﴿وداعِيًا إلى اللَّهِ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: شَهادَةُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ. وقالَ ابْنُ عِيسى: إلى الطّاعَةِ. (بِإذْنِهِ) أيْ: بِتَسْهِيلِهِ وتَيْسِيرِهِ، ولا يُرادُ بِهِ حَقِيقَةُ الإذْنِ؛ لِأنَّهُ قَدْ فُهِمَ في قَوْلِهِ: إنّا أرْسَلْناكَ داعِيًا، أنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ في الدُّعاءِ. ولَمّا كانَ دُعاءُ المُشْرِكِ إلى التَّوْحِيدِ صَعْبًا جِدًّا، قِيلَ: بِإذْنِهِ، أيْ: بِتَسْهِيلِهِ تَعالى. و(سِراجًا مُنِيرًا) جَلّى مِن ظُلُماتِ الشِّرْكِ، واهْتَدى بِهِ الضّالُّونَ، كَما يُجَلّى ظَلامُ اللَّيْلِ بِالسِّراجِ المُنِيرِ. ويُهْتَدى بِهِ إذا مَدَّ اللَّهُ بِنُورِ نُبُوَّتِهِ نُورَ البَصائِرِ، كَما يَمُدُّ بِنُورِ السِّراجِ نُورَ الأبْصارِ. ووَصَفَهُ بِالإنارَةِ؛ لِأنَّ مِنَ السِّراجِ ما لا يُضِيءُ إذا قَلَّ سَلِيطُهُ ودَقَّتْ فَتِيلَتُهُ. وقالَ الزَّجّاجُ: هو مَعْطُوفٌ عَلى (شاهِدًا) أيْ: وذا سِراجٍ مُنِيرٍ، أيْ: كِتابٍ نَيِّرٍ. وقالَ الفَرّاءُ: إنْ شِئْتَ كانَ نَصْبًا عَلى مَعْنى: وتالِيًا سِراجًا مُنِيرًا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ؛ ويَجُوزُ عَلى هَذا التَّفْسِيرِ أنْ يُعْطَفَ عَلى كافِ (أرْسَلْناكَ) . انْتَهى. ولا يَتَّضِحُ هَذا الَّذِي قالَهُ، إذْ يَصِيرُ المَعْنى: أرْسَلْنا ذا سِراجٍ مُنِيرٍ، وهو القُرْآنُ. ولا يُوصَفُ بِالإرْسالِ القُرْآنُ، إنَّما يُوصَفُ بِالإنْزالِ. وكَذَلِكَ أيْضًا إذا كانَ التَّقْدِيرُ: وتالِيًا، يَصِيرُ المَعْنى: أرْسَلْنا تالِيًا سِراجًا مُنِيرًا، فَفِيهِ عَطْفُ الصِّفَةِ الَّتِي لِلذّاتِ عَلى الذّاتِ، كَقَوْلِكَ: رَأيْتُ زَيْدًا والعالِمَ، إذا كانَ العالِمُ صِفَةً لِزَيْدٍ، والعَطْفُ مُشْعِرٌ بِالتَّغايُرِ، لا يَحْسُنُ مِثْلُ هَذا التَّخْرِيجِ في كَلامِ اللَّهِ، وثُمَّ حُمِلَ عَلى ما تَقْتَضِيهِ الفَصاحَةُ والبَلاغَةُ. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى أنَّهُ أرْسَلَ نَبِيَّهُ (شاهِدًا) إلى آخِرِهِ، تَضَمَّنَ ذَلِكَ الأمْرَ بِتِلْكَ الأحْوالِ، فَكَأنَّهُ قالَ؛ فاشْهَدْ وبَشِّرْ وأنْذِرْ وادْعُ وانْهَ، ثُمَّ قالَ؛ (وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ)؛ فَهَذا مُتَّصِلٌ بِما قَبْلَهُ مِن جِهَةِ المَعْنى، وإنْ كانَ يَظْهَرُ أنَّهُ مُنْقَطِعٌ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ. والفَضْلُ الكَبِيرُ: الثَّوابُ، مِن قَوْلِهِمْ لِلْعَطايا: فُضُولٌ وفَواضِلُ، أوِ المَزِيدُ عَلى الثَّوابِ. وإذا ذُكِرَ المُتَفَضَّلُ بِهِ وكِبَرُهُ، فَما ظَنُّكَ بِالثَّوابِ أوْ ما فُضِّلُوا بِهِ عَلى سائِرِ الأُمَمِ، وذَلِكَ مِن جِهَتِهِ تَعالى، أوِ الجَنَّةِ وما أُوتُوا فِيها ؟ ويُفَسِّرُهُ: ﴿والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ في رَوْضاتِ الجَنّاتِ لَهم ما يَشاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هو الفَضْلُ الكَبِيرُ﴾ [الشورى: ٢٢] . ﴿ولا تُطِعِ الكافِرِينَ والمُنافِقِينَ﴾ نَهْيٌ لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَنِ السَّماعِ مِنهم في أشْياءَ كانُوا يَطْلُبُونَها مِمّا لا يَجِبُ، وفي أشْياءَ يَنْتَصِحُونَ بِها وهي غِشٌّ. ﴿ودَعْ أذاهُمْ﴾ الظّاهِرُ إضافَتُهُ إلى المَفْعُولِ. لَمّا نَهى عَنْ طاعَتِهِمْ، أمَرَ بِتَرْكِهِ إذايَتَهم وعُقُوبَتَهم، ونُسِخَ مِنهُ ما يَخُصُّ الكافِرِينَ بِآيَةِ السَّيْفُ. (وتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ) فَإنَّهُ يَنْصُرُكَ ويَخْذُلُهم. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مُضافًا لِلْفاعِلِ، أيْ: ودَعْ إذايَتَهم إيّاكَ، أيْ: مُجازاةَ الإذايَةِ مِن عِقابٍ وغَيْرِهِ حَتّى تُؤْمَرَ، وهَذا تَأْوِيلُ مُجاهِدٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب