الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿يا أيُّها النَبِيُّ إنّا أرْسَلْناكَ شاهِدًا ومُبَشِّرًا ونَذِيرًا﴾ ﴿وَداعِيًا إلى اللهِ بِإذْنِهِ وسِراجًا مُنِيرًا﴾ ﴿وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ بِأنَّ لَهم مِنَ اللهِ فَضْلا كَبِيرًا﴾ ﴿وَلا تُطِعِ الكافِرِينَ والمُنافِقِينَ ودَعْ أذاهم وتَوَكَّلْ عَلى اللهِ وكَفى بِاللهِ وكِيلا﴾ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا نَكَحْتُمُ المُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكم عَلَيْهِنَّ مِن عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وسَرِّحُوهُنَّ سَراحًا جَمِيلا﴾ هَذِهِ الآياتُ فِيها تَأْنِيسٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ ولِلْمُؤْمِنِينَ، وتَكْرِيمٌ لِجَمِيعِهِمْ، وقَوْلُهُ: ﴿ "شاهِدًا"﴾ مَعْناهُ: عَلى أُمَّتِكَ بِالتَبْلِيغِ إلَيْهِمْ، وعَلى سائِرِ الأُمَمِ في تَبْلِيغِ أنْبِيائِهِمْ، ونَحْوَ ذَلِكَ. وقَوْلُهُ: "مُبَشِّرًا" مَعْناهُ: لِلْمُؤْمِنِينَ بِرَحْمَةِ اللهِ تَعالى وبِالجَنَّةِ. ﴿ "وَنَذِيرًا"﴾ مَعْناهُ: لِلْعُصاةِ والمُكَذِّبِينَ مِنَ النارِ وعَذابِ الخُلْدِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: «لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ دَعا رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلِيًّا ومُعاذًا رَضِيَ اللهُ عنهُما فَبَعَثَهُما إلى اليَمَنِ، وقالَ: "اذْهَبا (p-١٢٨)فَبَشِّرا ولا تُنَفِّرا، ويَسِّرا ولا تُعَسِّرا، فَإنَّهُ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيَّ: وقَرَأ الآيَةَ"،» و"الدُعاءُ إلى اللهِ" هو تَبْلِيغُ التَوْحِيدِ والأخْذُ بِهِ، ومُكافَحَةُ الكَفَرَةِ. "وَبِإذْنِهِ" مَعْناهُ هُنا: بِأمْرِهِ إيّاكَ وتَقْدِيرُهُ ذَلِكَ في وقْتِهِ وأوانِهِ. و"سِراجًا مُنِيرًا" اسْتِعارَةٌ لِلنُّورِ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ شَرْعُهُ، فَكَأنَّ المُهْتَدِينَ بِهِ والمُؤْمِنِينَ يَخْرُجُونَ بِهِ مِن ظُلْمَةِ الكُفْرِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "وَبَشِّرِ"،﴾ الواوُ عاطِفَةٌ جُمْلَةً عَلى جُمْلَةٍ، والمَعْنى مُنْقَطِعٌ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، أمَرَهُ تَعالى بِأنْ يُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ بِالفَضْلِ الكَبِيرِ مِنَ اللهِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: قالَ لَنا أبِي رَضِيَ اللهُ عنهُ: هَذِهِ مِن أرْجى آيَةٍ عِنْدِي في كِتابِ اللهِ تَعالى: لِأنَّ اللهَ تَعالى أمَرَ نَبِيَّهُ أنْ يُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ بِأنَّ لَهم عِنْدَهُ فَضْلًا كَبِيرًا، وقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعالى الفَضْلَ الكَبِيرَ ما هو في قَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصالِحاتِ في رَوْضاتِ الجَنّاتِ لَهم ما يَشاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هو الفَضْلُ الكَبِيرُ﴾ [الشورى: ٢٢]، فالآيَةُ الَّتِي في هَذِهِ السُورَةِ خَبَرٌ، والَّتِي في "حم، عسق" تَفْسِيرٌ لَها. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا تُطِعِ الكافِرِينَ والمُنافِقِينَ﴾ نَهْيٌ لَهُ عَنِ السَماعِ مِنهم في أشْياءَ كانُوا يَطْلُبُونَها مِمّا لا يَجِبُ، وفي أشْياءَ كانُوا يُدْخِلُونَها مَدْخَلَ النَصائِحِ وهي غِشٌّ، إلى نَحْوِ هَذا المَعْنى. وقَوْلُهُ: ﴿وَدَعْ أذاهُمْ﴾ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما أنْ يَأْمُرَهُ بِتَرْكٍ أنْ يُؤْذِيَهم هو ويُعاقِبَهُمْ، فَكَأنَّ المَعْنى: فاصْفَحْ عن زَلَلِهِمْ ولا تُؤْذِهِمْ، فالمَصْدَرُ - عَلى هَذا - مُضافٌ إلى المَفْعُولِ، ونُسِخَ مِنَ الآيَةِ - عَلى هَذا التَأْوِيلِ - ما يَخُصُّ الكافِرِينَ، وناسِخُهُ آيَةُ السَيْفِ، والمَعْنى الثانِي أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿وَدَعْ أذاهُمْ﴾ بِمَعْنى: أعْرِضْ عن أقْوالِهِمْ وما يُؤْذُونَكَ، فالمَصْدَرُ - عَلى هَذا التَأْوِيلِ - مُضافٌ إلى الفاعِلِ، وهَذا تَأْوِيلُ مُجاهِدٍ، ثُمَّ أمَرَهُ تَعالى بِالتَوَكُّلِ عَلَيْهِ، وآنَسَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَكَفى بِاللهِ وكِيلا﴾، فَفي قُوَّةِ الكَلامِ وعْدٌ بِنَصْرٍ. وتَقَدَّمَ القَوْلُ في "كَفى بِاللهِ". و"الوَكِيلُ": الحافِظُ القائِمُ عَلى الأمْرِ. ثُمَّ خاطَبَ تَعالى المُؤْمِنِينَ بِحُكْمِ الزَوْجَةِ تُطْلَقُ قَبْلَ البِناءِ، واسْتَدَلَّ بَعْضُ الناسِ (p-١٢٩)بِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ﴾ وبِمُهْلَةِ "ثُمَّ" عَلى أنَّ الطَلاقَ لا يَكُونُ إلّا بَعْدَ نِكاحٍ، وأنَّ مَن طَلَّقَ المَرْأةَ قَبْلَ نِكاحِها - وإنَّ عَيَّنَها - فَإنَّ ذَلِكَ لا يَلْزَمُهُ، وقالَ هَذا نَيِّفٌ عَلى ثَلاثِينَ مِن صاحِبٍ وتابِعٍ وإمامٍ، سَمّى البُخارِيُّ مِنهُمُ اثْنَيْنِ وعِشْرِينَ. وقالَتْ طائِفَةٌ عَظِيمَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ: إنَّ طَلاقَ المُعَيَّنَةِ الشَخْصِ أوِ القَبِيلِ أوِ البَلَدِ لازِمٌ قَبْلَ النِكاحِ، مِنهم مالِكٌ وجَمِيعُ أصْحابِهِ وجَمْعٌ عَظِيمٌ مِن عُلَماءِ الأُمَّةِ. وقَرَأ جُمْهُورُ القُرّاءِ: ﴿ "تَمَسُّوهُنَّ"،﴾ وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وطَلْحَةُ، وابْنُ وثّابٍ: "تَماسُّوهُنُّ"، والمَعْنى فِيهِما الجِماعُ، وهَذِهِ العِدَّةُ إنَّما هي لِاسْتِبْراءِ الرَحِمِ وحِفْظِ النَسَبِ في الحَمْلِ، فَمَن لَمْ تُمَسُّ فَلا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِيها. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ مَن ﴿ "تَعْتَدُّونَها"﴾ بِشَدِّ الدالِّ عَلى وزْنِ تَفْتَعِلُونَها، مِنَ العَدِّ، ورَوى ابْنُ أبِي بِرْزَةَ عن أبِي بَكْرٍ "تَعْتَدُونَها" بِالتَخْفِيفِ، مِنَ العُدْوانِ، كَأنَّهُ قالَ: فَما لَكم عِدَّةٌ تُلْزِمُونَها عُدْوانًا وظُلْمًا لَهُنَّ. والقِراءَةُ الأُولى أشْهَرُ عن كَثِيرٍ، وتَخْفِيفُ الدالِّ وهُمٌ مِنَ ابْنِ أبِي بِزَّةَ. ثُمَّ أمَرَ تَعالى بِتَمْتِيعِ المُطْلَقَةِ قَبْلَ البِناءِ، واخْتَلَفَ الناسُ في المُتْعَةِ، فَقالَتْ فِرْقَةٌ: (p-١٣٠)هِيَ واجِبَةٌ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: هي مَندُوبٌ إلَيْها، مِنهم مالِكٌ وأصْحابُهُ، وقالَ قَوْمٌ: المُتْعَةُ لِلَّتِي لَمْ يَفْرِضْ لَها، ونِصْفُ المَهْرِ لِلَّتِي فُرِضَ لَها، وقالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ: بَلِ المُتْعَةُ كانَتْ لِجَمِيعِهِنَّ بِهَذِهِ الآيَةِ، ثُمَّ نُسْخَتْ آيَةُ البَقَرَةِ بِالنِصْفِ لِمَن فُرِضَ لَها ما تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الآيَةُ مِنَ المُتْعَةِ. وهَذِهِ الآيَةُ خَصَّصَتْ آيَتَيْنِ: إحْداهُما ﴿والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: ٢٢٨]، فَخَصَّصَتْ هَذِهِ الآيَةُ مَن لَمْ يَدْخُلْ بِها، وكَذَلِكَ خَصَّصَتْ مِن ذَواتِ الثَلاثَةِ الأشْهُرِ، وهُنَّ مَن قَعَدْنَ عَنِ المَحِيضِ، ومَن لَمْ يَحْضُنْ مَن صَغِيرِ المُطَلَّقاتِ قَبْلَ البِناءِ. و"السَراحُ الجَمِيلُ" هو الطَلاقُ يَتْبَعُهُ عِشْرَةٌ حَسَنَةٌ وكَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ دُونَ أذى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب