الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٤٧ - ٤٩] ﴿وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ بِأنَّ لَهم مِنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا﴾ ﴿ولا تُطِعِ الكافِرِينَ والمُنافِقِينَ ودَعْ أذاهم وتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ وكَفى بِاللَّهِ وكِيلا﴾ [الأحزاب: ٤٨] ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا نَكَحْتُمُ المُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكم عَلَيْهِنَّ مِن عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وسَرِّحُوهُنَّ سَراحًا جَمِيلا﴾ [الأحزاب: ٤٩] . ﴿وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ بِأنَّ لَهم مِنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا﴾ أيْ: ثَوابًا عَظِيمًا وأجْرًا جَزِيلًا: ﴿ولا تُطِعِ الكافِرِينَ والمُنافِقِينَ﴾ [الأحزاب: ٤٨] أيْ: فِيما يَرْجُفُونَ بِهِ، ويَعِيبُونَ مِن جاهِلِيَّتِهِمْ وعَوائِدِهِمْ، بِإلانَةِ الجانِبِ في التَّبْلِيغِ، والمُسامَحَةِ في الإنْذارِ والتَّمَهُّلِ في الصَّدْعِ بِالحَقِّ: ﴿ودَعْ أذاهُمْ﴾ [الأحزاب: ٤٨] أيْ: إيصالَ الضَّرَرِ إلَيْهِمْ، مُجازاةً لِفِعْلِهِمْ. بَلِ اعْفُ واصْفَحْ. أوْ مَعْناهُ: دَعْ ما يُؤْذُونَكَ بِهِ بِسَبَبِ صَدْعِكَ إيّاهم. فالمَصْدَرُ مُضافٌ إلى الفاعِلِ عَلى الأوَّلِ، وإلى المَفْعُولِ عَلى الثّانِي: ﴿وتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ وكَفى بِاللَّهِ وكِيلا﴾ [الأحزاب: ٤٨] أيْ: مَوْكُولًا إلَيْهِ، وكَفِيلًا فِيما وعَدَكَ مِنَ النَّصْرِ، ودَحْرِ ذَوِي الكُفْرِ. ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا نَكَحْتُمُ المُؤْمِناتِ﴾ [الأحزاب: ٤٩] أيْ: تَزَوَّجْتُمُوهُنَّ: ﴿ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ [الأحزاب: ٤٩] أيْ: تُجامِعُوهُنَّ: ﴿فَما لَكم عَلَيْهِنَّ مِن عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها﴾ [الأحزاب: ٤٩] أيْ: تَسْتَوْفُونَ عَدَدَها مِن إحْصاءِ أقْراءٍ، ولا أشْهُرٍ تُحْصُونَها عَلَيْهِنَّ: ﴿فَمَتِّعُوهُنَّ﴾ [الأحزاب: ٤٩] أيْ: أعْطُوهُنَّ ما يَسْتَمْتِعْنَ بِهِ مِن عِرْضٍ (p-٤٨٨٢)أوْ عَيْنِ مالٍ: ﴿وسَرِّحُوهُنَّ﴾ [الأحزاب: ٤٩] أيْ: خَلُّوا سَبِيلَهُنَّ بِإخْراجِهِنَّ مِن مَنازِلِكُمْ؛ إذْ لَيْسَ لَكم عَلَيْهِنَّ عِدَّةٌ: ﴿سَراحًا جَمِيلا﴾ [الأحزاب: ٤٩] أيْ: مِن غَيْرِ ضِرارٍ ولا مَنعِ حَقٍّ. تَنْبِيهٌ: قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ فِيها أحْكامٌ كَثِيرَةٌ: مِنها إطْلاقُ النِّكاحِ عَلى العَقْدِ وحْدَهُ. ولَيْسَ في القُرْآنِ آيَةٌ أصْرَحُ في ذَلِكَ مِنهُ، وقَدِ اخْتَلَفُوا في النِّكاحِ؛ هَلْ هو حَقِيقَةٌ في العَقْدِ وحْدَهُ، أوْ في الوَطْءِ، أوْ فِيهِما؟ عَلى ثَلاثَةِ أقْوالٍ، واسْتِعْمالُ القُرْآنِ، إنَّما هو في العَقْدِ والوَطْءِ بَعْدَهُ، إلّا في هَذِهِ الآيَةِ؛ فَإنَّهُ اسْتُعْمِلَ في العَقْدِ وحْدَهُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إذا نَكَحْتُمُ المُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ [الأحزاب: ٤٩] وفِيها دَلالَةٌ لِإباحَةِ طَلاقِ المَرْأةِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِها، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿المُؤْمِناتِ﴾ [الأحزاب: ٤٩] خَرَجَ مَخْرَجَ الغالِبِ؛ إذْ لا فَرْقَ في الحُكْمِ بَيْنَ المُؤْمِنَةِ والكِتابِيَّةِ في ذَلِكَ، بِالِاتِّفاقِ. وقَدِ اسْتَدَلَّ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، وابْنُ المُسَيِّبِ والحَسَنُ البَصْرِيُّ وزَيْنُ العابِدِينَ، وجَماعَةٌ مِنَ السَّلَفِ بِهَذِهِ الآيَةِ، عَلى أنَّ الطَّلاقَ لا يَقَعُ إلّا إذا تَقَدَّمَهُ نِكاحٌ، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إذا نَكَحْتُمُ المُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ﴾ [الأحزاب: ٤٩] بِعَقْبِ النِّكاحِ بِالطَّلاقِ، فَدَلَّ عَلى أنَّهُ لا يَصِحُّ ولا يَقَعُ قَبْلَهُ. وهَذا مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ وأحْمَدَ، وطائِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ السَّلَفِ والخَلَفِ، وأيَّدَهُ ما رُوِيَ مَرْفُوعًا ««لا طَلاقَ لِابْنِ آدَمَ فِيما لا يَمْلِكُ»» رَواهُ أحْمَدُ، وأبُو داوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ، وابْنُ ماجَهْ. وقالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وهو أحْسَنُ شَيْءٍ رُوِيَ في هَذا البابِ. وهَكَذا رَوى ابْنُ ماجَهْ عَنْ عَلِيٍّ والمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ««لا طَلاقَ قَبْلَ النِّكاحِ»» . (p-٤٨٨٣)وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَما لَكم عَلَيْهِنَّ مِن عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها﴾ [الأحزاب: ٤٩] هَذا أمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ العُلَماءِ، أنَّ المَرْأةَ إذا طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ بِها، لا عِدَّةَ عَلَيْها. فَتَذْهَبُ فَتَتَزَوَّجُ في فَوْرِها مَن شاءَتْ، ولا يُسْتَثْنى مِن هَذا إلّا المُتَوَفّى زَوْجُها؛ فَإنَّها تَعْتَدُّ مِنهُ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وعَشْرًا، وإنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِها، بِالإجْماعِ أيْضًا. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَتِّعُوهُنَّ﴾ [الأحزاب: ٤٩] المُتْعَةُ هَهُنا أعَمُّ مِن أنْ تَكُونَ نِصْفَ الصَّداقِ المُسَمّى، أوِ المُتْعَةُ الخاصَّةُ إنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ سَمّى لَها. قالَ تَعالى: ﴿وإنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ وقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ﴾ [البقرة: ٢٣٧] وقالَ عَزَّ وجَلَّ: ﴿لا جُناحَ عَلَيْكم إنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ومَتِّعُوهُنَّ عَلى المُوسِعِ قَدَرُهُ وعَلى المُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعًا بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلى المُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: ٢٣٦] وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: إنْ كانَ سَمّى لَها صَداقًا، فَلَيْسَ لَها إلّا النِّصْفُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ سَمّى لَها صَداقًا، فَأمْتَعَها عَلى قَدْرِ عُسْرِهِ ويُسْرِهِ، وهو السَّراحُ الجَمِيلُ. انْتَهى. وعَلَيْهِ، فالآيَةُ في المُفَوَّضِيَّةِ الَّتِي لَمْ يُسَمَّ لَها. وقِيلَ: الآيَةُ عامَّةٌ. وعَلَيْهِ، فَقِيلَ الأمْرُ لِلْوُجُوبِ، وأنَّهُ يَجِبُ مَعَ نِصْفِ المَهْرِ المُتْعَةُ أيْضًا. ومِنهم مَن قالَ لِلِاسْتِحْبابِ، فَيَسْتَحِبُّ أنْ يُمَتِّعَها مَعَ الصَّداقِ بِشَيْءٍ. لَطِيفَةٌ: قالَ الرّازِيُّ: وجْهُ تَعَلُّقِ الآيَةِ بِما قَبْلَها، هو أنَّ اللَّهَ تَعالى في هَذِهِ السُّورَةِ، ذَكَرَ مَكارِمَ الأخْلاقِ، وأدَّبَ نَبِيَّهُ عَلى ما ذَكَرْناهُ. لَكِنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَ عِبادَهُ المُؤْمِنِينَ بِما أمَرَ بِهِ نَبِيَّهُ المُرْسَلَ، فَكُلَّما ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ مَكْرُمَةً، وعَلَّمَهُ أدَبًا، ذَكَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ ما يُناسِبُهُ. فَكَما بَدَأ اللَّهُ في تَأْدِيبِ النَّبِيِّ ﷺ بِذِكْرِ ما يَتَعَلَّقُ بِجانِبِ اللَّهِ، بِقَوْلِهِ: ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ﴾ [الأحزاب: ١] وثَنّى بِما يَتَعَلَّقُ بِجانِبِ العامَّةِ بِقَوْلِهِ: ﴿يا أيُّها النَّبِيُّ إنّا أرْسَلْناكَ شاهِدًا﴾ [الأحزاب: ٤٥] كَذَلِكَ بَدَأ (p-٤٨٨٤)فِي إرْشادِ المُؤْمِنِينَ بِما يَتَعَلَّقُ بِجانِبِ اللَّهِ، فَقالَ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: ٤١] ثُمَّ ثَنّى بِما يَتَعَلَّقُ بِجانِبٍ مِن تَحْتِ أيْدِيهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا نَكَحْتُمُ المُؤْمِناتِ﴾ [الأحزاب: ٤٩] ثُمَّ، كَما ثَلَّثَ في تَأْدِيبِ النَّبِيِّ بِجانِبِ الأُمَّةِ، ثَلَّثَ في حَقِّ المُؤْمِنِينَ بِما يَتَعَلَّقُ بِجانِبِ نَبِيِّهِمْ، فَقالَ بَعْدَ هَذا: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ﴾ [الأحزاب: ٥٣] وبِقَوْلِهِ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب: ٥٦] انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب