الباحث القرآني
﴿إنَّ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لِلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكًا وهُدًى لِلْعالَمِينَ﴾ ﴿فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إبْراهِيمَ ومَن دَخَلَهُ كانَ آمِنًا﴾ [آل عمران: ٩٧] .
هَذا الكَلامُ واقِعٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِلْأمْرِ في قَوْلِهِ ﴿فاتَّبِعُوا مِلَّةَ إبْراهِيمَ حَنِيفًا﴾ [آل عمران: ٩٥] لِأنَّ هَذا البَيْتَ المُنَوَّهَ بِشَأْنِهِ كانَ مَقامًا لِإبْراهِيمَ فَفَضائِلُ هَذا البَيْتِ تُحَقِّقُ فَضِيلَةَ شَرْعِ بانِيهِ في مُتَعارَفِ النّاسِ، فَهَذا الِاسْتِدْلالُ خِطابِيٌّ، وهو أيْضًا إخْبارٌ بِفَضِيلَةِ الكَعْبَةِ وحُرْمَتِها - فِيما مَضى مِنَ الزَّمانِ - .
وقَدْ آذَنَ بِكَوْنِ الكَلامِ تَعْلِيلًا مَوْقِعُ إنَّ في أوَّلِهِ فَإنَّ التَّأْكِيدَ بِإنَّ هُنا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمامِ ولَيْسَ لِرَدِّ إنْكارِ مُنْكِرٍ، أوْ شَكِّ شاكٍّ.
ومِن خَصائِصِ (إنَّ) إذا ورَدَتْ في الكَلامِ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمامِ، أنْ تُغْنِيَ غَناءَ فاءِ التَّفْرِيعِ وتُفِيدُ التَّعْلِيلَ والرَّبْطَ، كَما في دَلائِلِ الإعْجازِ.
ولِما في هَذِهِ مِن إفادَةِ الرَّبْطِ اسْتُغْنِيَ عَنِ العَطْفِ لِكَوْنِ إنَّ مُؤْذِنَةً بِالرَّبْطِ. وبَيانُ وجْهِ التَّعْلِيلِ أنَّ هَذا البَيْتَ لَمّا كانَ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلْهُدى وإعْلانِ تَوْحِيدِ اللَّهِ لِيَكُونَ عَلَمًا مَشْهُودًا بِالحِسِّ عَلى مَعْنى الوَحْدانِيَّةِ ونَفْيِ الإشْراكِ، فَقَدْ كانَ جامِعًا لِدَلائِلِ الحَنِيفِيَّةِ، فَإذا ثَبَتَ لَهُ شَرَفُ الأوَّلِيَّةِ ودَوامُ الحُرْمَةِ عَلى مَمَرِّ العُصُورِ، دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الهَياكِلِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي نَشَأتْ بَعْدَهُ، وهو ماثِلٌ، كانَ ذَلِكَ دَلالَةً إلَهِيَّةً عَلى أنَّهُ بِمَحَلِّ العِنايَةِ مِنَ اللَّهِ تَعالى، فَدَلَّ عَلى أنَّ الدِّينَ الَّذِي (p-١٢)قارَنَ إقامَتَهُ هو الدَّيْنُ المُرادُ لِلَّهِ، وهَذا يَئُولُ إلى مَعْنى قَوْلِهِ ﴿إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ﴾ [آل عمران: ١٩] .
وهَذا التَّعْلِيلُ خِطابِيٌّ جارٍ عَلى طَرِيقَةِ اللُّزُومِ العُرْفِيِّ.
وقالَ الواحِدِيُّ عَنْ مُجاهِدٍ: تَفاخَرَ المُسْلِمُونَ واليَهُودُ، فَقالَتِ اليَهُودُ: بَيْتُ المَقْدِسِ أفْضَلُ وأعْظَمُ مِنَ الكَعْبَةِ لِأنَّهُ مُهاجَرُ الأنْبِياءِ، وفي الأرْضِ المُقَدَّسَةِ. وقالَ المُسْلِمُونَ: بَلِ الكَعْبَةُ أفْضَلُ. فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ.
وأوَّلَ اسْمٌ لِلسّابِقِ في فِعْلٍ ما فَإذا أُضِيفَ إلى اسْمِ جِنْسٍ فَهو السّابِقُ مِن جِنْسِ ذَلِكَ المُضافِ إلَيْهِ في الشَّأْنِ المُتَحَدَّثِ عَنْهُ.
والبَيْتُ بِناءٌ يُئْوِي واحِدًا أوْ جَماعَةً، فَيَكُونُ بَيْتَ سُكْنى، وبَيْتَ صَلاةٍ، وبَيْتَ نَدْوَةٍ، ويَكُونُ مَبْنِيًّا مِن حَجَرٍ أوْ مِن أثْوابِ نَسِيجِ شَعْرٍ أوْ صُوفٍ، ويَكُونُ مِن أدَمٍ فَيُسَمّى قُبَّةً قالَ تَعالى: ﴿وجَعَلَ لَكم مِن جُلُودِ الأنْعامِ بُيُوتًا﴾ [النحل: ٨٠] .
ومَعْنى وُضِعَ أُسِّسَ وأُثْبِتَ، ومِنهُ سُمِّيَ المَكانُ مَوْضِعًا، وأصْلُ الوَضْعِ أنَّهُ الحَطُّ ضِدُّ الرَّفْعِ، ولَمّا كانَ الشَّيْءُ المَرْفُوعُ بَعِيدًا عَنِ التَّناوُلِ، كانَ المَوْضُوعُ هو قَرِيبَ التَّناوُلِ، فَأُطْلِقَ الوَضْعُ لِمَعْنى الإدْناءِ لِلْمُتَناوَلِ، والتَّهْيِئَةِ لِلِانْتِفاعِ.
والنّاسُ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ آمَنّا بِاللَّهِ﴾ [البقرة: ٨] في سُورَةِ البَقَرَةِ.
وبَكَّةُ اسْمُ مَكَّةَ. وهو لُغَةٌ بِإبْدالِ المِيمِ باءً في كَلِماتٍ كَثِيرَةٍ عُدَّتْ مِنَ المُتَرادِفِ: مَثَلُ لازِبٍ في لازِمٍ، وأرْبَدَ وأرْمَدَ أيْ في لَوْنِ الِرَمادِ، وفي سَماعِ ابْنِ القاسِمِ مِنَ العُتْبِيَّةِ عَنْ مالِكٍ: أنَّ بَكَّةَ بِالباءِ اسْمُ مَوْضِعِ البَيْتِ، وأنَّ مَكَّةَ بِالمِيمِ اسْمُ بَقِيَّةِ المَوْضِعِ، فَتَكُونُ باءُ الجَرِّ - هُنا - لِظَرْفِيَّةِ مَكانِ البَيْتِ خاصَّةً. لا لِسائِرِ البَلَدِ الَّذِي فِيهِ البَيْتُ، والظّاهِرُ عِنْدِي أنَّ بَكَّةَ اسْمٌ بِمَعْنى البَلْدَةِ وضَعَهُ إبْراهِيمُ عَلَمًا عَلى المَكانِ الَّذِي عَيَّنَهُ لِسُكْنى ولَدِهِ بِنِيَّةِ أنْ يَكُونَ بَلَدًا، فَيَكُونُ أصْلُهُ (p-١٣)مِنَ اللُّغَةِ الكَلْدانِيَّةِ، لُغَةِ إبْراهِيمَ، ألا تَرى أنَّهم سَمَّوْا مَدِينَةَ بَعْلَبَكَّ أيْ بَلَدَ بَعْلٍ وهو مَعْبُودُ الكَلْدانِيِّينَ، ومِن إعْجازِ القُرْآنِ هَذا اللَّفْظُ عِنْدَ ذِكْرِ كَوْنِهِ أوَّلَ بَيْتٍ، فَلاحِظْ أيْضًا الِاسْمَ الأوَّلَ، ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ ﴿رَبَّ هَذِهِ البَلْدَةِ﴾ [النمل: ٩١] وقَوْلُهُ ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذا البَلَدَ آمِنًا﴾ [إبراهيم: ٣٥] . وقَدْ قِيلَ: إنَّ بَكَّةَ مُشْتَقٌّ مِنَ البَكِّ وهو الِازْدِحامُ، ولا أحْسَبُ قُصِدَ ذَلِكَ لِواضِعِ الِاسْمِ.
وعُدِلَ عَنْ تَعْرِيفِ البَيْتِ بِاسْمِهِ العَلَمَ بِالغَلَبَةِ، وهو الكَعْبَةُ، إلى تَعْرِيفِهِ بِالمَوْصُولِيَّةِ بِأنَّهُ (الَّذِي بِبَكَّةَ): لِأنَّ هَذِهِ الصِّلَةَ صارَتْ أشْهَرَ في تَعَيُّنِهِ عِنْدَ السّامِعِينَ، إذْ لَيْسَ في مَكَّةَ يَوْمَئِذٍ بَيْتٌ لِلْعِبادَةِ غَيْرُهُ، بِخِلافِ اسْمِ الكَعْبَةِ: فَقَدْ أُطْلِقَ اسْمُ الكَعْبَةِ عَلى القُلَّيْسِ الَّذِي بَناهُ الحَبَشَةُ في صَنْعاءَ لِدِينِ النَّصْرانِيَّةِ ولَقَّبُوهُ الكَعْبَةَ اليَمانِيَّةَ.
والمَقْصُودُ إثْباتُ سَبْقِ الكَعْبَةِ في الوُجُودِ قَبْلَ بُيُوتٍ أُخَرَ مِن نَوْعِها. وظاهِرُ الآيَةِ أنَّ الكَعْبَةَ أوَّلُ البُيُوتِ المَبْنِيَّةِ في الأرْضِ، فَتَمَسَّكَ بِهَذا الظّاهِرِ مُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، والسَّدِّيُّ، وجَماعَةٌ، فَقالُوا: هي أوَّلُ بِناءٍ، وقالُوا: أنَّها كانَتْ مَبْنِيَّةً مِن عَهْدِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ثُمَّ دُرِسَتْ، فَجَدَّدَها إبْراهِيمُ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ورُوِيَتْ في هَذا أقاصِيصُ أسانِيدُها ضِعافٌ فَلِذَلِكَ تَرَكْتُها، وقَدْ زَعَمُوا أنَّها كانَتْ تُسَمّى الضِّراحَ - بِوَزْنِ غُرابٍ - ولَكِنَّ المُحَقِّقِينَ وجُمْهُورَ أهْلِ العِلْمِ لَمْ يَأْخُذُوا بِهَذا الظّاهِرِ، وتَأوَّلُوا الآيَةَ.، قالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كانَ قَبْلَ البَيْتِ بُيُوتٌ كَثِيرَةٌ ولا شَكَّ أنَّ الكَعْبَةَ بَناها إبْراهِيمُ وقَدْ تَعَدَّدَ في القُرْآنِ ذِكْرُ ذَلِكَ، ولَوْ كانَتْ مِن بِناءِ الأنْبِياءِ قَبْلَهُ لَزِيدَ ذِكْرُ ذَلِكَ زِيادَةً في التَّنْوِيهِ بِشَأْنِها، وإذا كانَ كَذَلِكَ فَلا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ أوَّلُ بِناءٍ وقَعَ في الأرْضِ كانَ في عَهْدِ إبْراهِيمَ، لَأنَ قَبْلَ إبْراهِيمَ أُمَمًا وعُصُورًا كانَ فِيها البِناءُ، وأشْهَرُ ذَلِكَ بُرْجُ بابِلَ، بُنِيَ إثْرَ الطُّوفانِ، وما بَناهُ المِصْرِيُّونَ قَبْلَ عَهْدِ إبْراهِيمَ، وما بَناهُ الكَلْدانُ في بَلَدِ إبْراهِيمَ قَبْلَ رِحْلَتِهِ إلى مِصْرَ، ومِن ذَلِكَ بَيْتُ أصْنامِهِمْ، وذَلِكَ قَبْلَ أنْ تَصِيرَ إلَيْهِ هاجَرُ الَّتِي أهْداها لَهُ مَلِكُ مِصْرَ، وقَدْ حَكى القُرْآنُ عَنْهم ﴿قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيانًا فَألْقُوهُ في الجَحِيمِ﴾ [الصافات: ٩٧] فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُ الآيَةِ بِوَجْهٍ ظاهِرٍ، وقَدْ سَلَكَ العُلَماءُ مَسالِكَ فِيهِ: وهي راجِعَةٌ إلى تَأْوِيلِ الأوَّلِ، أوْ تَأْوِيلِ البَيْتِ، أوْ تَأْوِيلِ فِعْلِ وُضِعَ، (p-١٤)أوْ تَأْوِيلِ النّاسِ، أوْ تَأْوِيلِ نَظْمِ الآيَةِ. والَّذِي أراهُ في التَّأْوِيلِ أنَّ القُرْآنَ كِتابُ دِينٍ وهُدًى، فَلَيْسَ غَرَضُ الكَلامِ فِيهِ ضَبْطَ أوائِلِ التّارِيخِ، ولَكِنْ أوائِلُ أسْبابِ الهُدى، فالأوَّلِيَّةُ في الآيَةِ عَلى بابِها، والبَيْتُ كَذَلِكَ، والمَعْنى أنَّهُ أوَّلُ بَيْتِ عِبادَةٍ حَقَّةٍ وُضِعَ لِإعْلانِ التَّوْحِيدِ، بِقَرِينَةِ المَقامِ، وبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ ﴿وُضِعَ لِلنّاسِ﴾ المُقْتَضِي أنَّهُ مِن وضْعِ واضِعٍ لِمَصْلَحَةِ النّاسِ، لِأنَّهُ لَوْ كانَ بَيْتَ سُكْنى لَقِيلَ وضَعَهُ النّاسُ، وبِقَرِينَةِ مَجِيءِ الحالَيْنِ بَعْدُ؛ وهُما قَوْلُهُ: ﴿مُبارَكًا وهُدًى لِلْعالَمِينَ﴾ . وهَذا تَأْوِيلٌ في مَعْنى بَيْتٍ، وإذا كانَ أوَّلَ بَيْتِ عِبادَةٍ حَقٍّ، كانَ أوَّلَ مَعْهَدٍ لِلْهُدى، فَكانَ كُلُّ هُدًى مُقْتَبَسًا مِنهُ فَلا مَحِيصَ لِكُلِّ قَوْمٍ كانُوا عَلى هُدًى مِنَ الِاعْتِرافِ بِهِ وبِفَضْلِهِ، وذَلِكَ يُوجِبُ اتِّباعَ المِلَّةِ المَبْنِيَّةِ عَلى أُسُسِ مِلَّةِ بانِيهِ، وهَذا المُفادُ مِن تَفْرِيغِ قَوْلِهِ ﴿فاتَّبِعُوا مِلَّةَ إبْراهِيمَ حَنِيفًا﴾ [آل عمران: ٩٥] وتَأوَّلَ الآيَةَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، فَرَوى عَنْهُ أنَّ رَجُلًا سَألَهُ: أهُوَ أوَّلُ بَيْتٍ ؟ قالَ: لا، قَدْ كانَ قَبْلَهُ بُيُوتٌ، ولَكِنَّهُ أوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ مُبارَكًا وهُدًى فَجَعَلَ ﴿مُبارَكًا وهُدًى﴾ حالَيْنِ مِنَ الضَّمِيرِ في ﴿وُضِعَ﴾ لا مِنِ اسْمِ المَوْصُولِ، وهَذا تَأْوِيلٌ في النَّظْمِ لا يَنْساقُ إلَيْهِ الذِّهْنُ إلّا عَلى مَعْنى أنَّهُ أوَّلُ بَيْتٍ مِن بُيُوتِ الهُدى كَما قُلْنا، ولَيْسَ مُرادُهُ أنَّ قَوْلَهُ وُضِعَ هو الخَبَرُ لِتَعَيُّنِ أنَّ الخَبَرَ هو قَوْلُهُ ﴿لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ بِدَلِيلِ دُخُولِ اللّامِ عَلَيْهِ.
وعَنْ مُجاهِدٍ قالَتِ اليَهُودُ: بَيْتُ المَقْدِسِ أفْضَلُ مِنَ الكَعْبَةِ لِأنَّها مُهاجَرُ الأنْبِياءِ، وقالَ المُسْلِمُونَ: الكَعْبَةُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ، وهَذا تَأْوِيلٌ أُوِّلَ بِأنَّهُ الأوَّلُ مِن شَيْئَيْنِ لا مِن جِنْسِ البُيُوتِ كُلِّها.
وقِيلَ: أرادَ بِالأوَّلِ الأشْرَفَ مَجازًا.
وعِنْدِي أنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ النّاسِ المَعْهُودِينَ وهم أهْلُ الكُتُبِ أعْنِي اليَهُودَ والنَّصارى والمُسْلِمِينَ، وكُلُّهم يَعْتَرِفُ بِأصالَةِ دِينِ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - فَأوَّلُ مَعْبَدٍ بِإجْماعِهِمْ هو الكَعْبَةُ فَيَلْزَمُهُمُ الِاعْتِرافُ بِأنَّهُ أفْضُلُ مِمّا سِواهُ مِن بُيُوتِ عِبادَتِهِمْ.
(p-١٥)وإنَّما كانَتِ الأوَّلِيَّةُ مُوجِبَةَ التَّفْضِيلِ لِأنَّ مَواضِعَ العِبادَةِ لا تَتَفاضَلُ مِن جِهَةِ العِبادَةِ، إذْ هي في ذَلِكَ سَواءٌ، ولَكِنَّها تَتَفاضَلُ بِما يَحُفُّ بِذَلِكَ مِن طُولِ أزْمانِ التَّعَبُّدِ فِيها، وبِنِسْبَتِها إلى بانِيها، وبِحُسْنِ المَقْصِدِ في ذَلِكَ، وقَدْ قالَ تَعالى في مَسْجِدِ قُباءٍ ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلى التَّقْوى مِن أوَّلِ يَوْمٍ أحَقُّ أنْ تَقُومَ فِيهِ﴾ [التوبة: ١٠٨] .
وقَدْ جَمَعَتِ الكَعْبَةُ جَمِيعَ هَذِهِ المَزايا فَكانَتْ أسْبَقَ بُيُوتِ العِبادَةِ الحَقِّ، وهي أسْبَقُ مِن بَيْتِ المَقْدِسِ بِتِسْعَةِ قُرُونٍ. فَإنَّ إبْراهِيمَ بَنى الكَعْبَةَ في حُدُودِ سَنَةِ ١٩٠٠ قَبْلَ المَسِيحِ وسُلَيْمانُ بَنى بَيْتَ المَقْدِسِ سَنَةَ ١٠٠٠ قَبْلَ المَسِيحِ، والكَعْبَةُ بَناها إبْراهِيمُ بِيَدِهِ فَهي مَبْنِيَّةٌ بِيَدِ رَسُولٍ. وأمّا بَيْتُ المَقْدِسِ فَبَناها العَمَلَةُ لِسُلَيْمانَ بِأمْرِهِ. ورُوِيَ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّهُ قالَ: «سَألْتُ رَسُولَ اللَّهِ: أيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أوَّلَ ؟ قالَ: المَسْجِدُ الحَرامُ، قُلْتُ: ثُمَّ أيُّ ؟ قالَ: المَسْجِدُ الأقْصى، قُلْتُ: كَمْ كانَ بَيْنَهُما ؟ قالَ: أرْبَعُونَ سَنَةً»، فاسْتَشْكَلَهُ العُلَماءُ بِأنَّ بَيْنَ إبْراهِيمَ وسُلَيْمانَ قُرُونًا فَكَيْفَ تَكُونُ أرْبَعِينَ سَنَةً، وأجابَ بَعْضُهم بِإمْكانِ أنْ يَكُونَ إبْراهِيمُ بَنى مَسْجِدًا في مَوْضِعِ بَيْتِ المَقْدِسِ ثُمَّ دُرِسَ فَجَدَّدَهُ سُلَيْمانُ.
وأقُولُ: لاشَكَّ أنَّ بَيْتَ المَقْدِسِ مِن بِناءِ سُلَيْمانَ كَما هو نَصُّ كِتابِ اليَهُودِ، وأشارَ إلَيْهِ القُرْآنُ في قَوْلِهِ ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِن مَحارِيبَ﴾ [سبإ: ١٣] الآيَةَ، فالظّاهِرُ أنَّ إبْراهِيمَ لَمّا مَرَّ بِبِلادِ الشّامِ ووَعَدَهُ اللَّهُ أنْ يُورِثَ تِلْكَ الأرْضَ نَسْلَهُ عَيَّنَ اللَّهُ لَهُ المَوْضِعَ الَّذِي سَيَكُونُ بِهِ أكْبَرُ مَسْجِدٍ تَبْنِيهِ ذُرِّيَّتُهُ، فَأقامَ هُنالِكَ مَسْجِدًا صَغِيرًا شُكْرًا لِلَّهِ تَعالى، وجَعَلَهُ عَلى الصَّخْرَةِ المَجْعُولَةِ مَذْبَحًا لِلْقُرْبانِ. وهي الصَّخْرَةُ الَّتِي بَنى سُلَيْمانُ عَلَيْها المَسْجِدَ، فَلَمّا كانَ أهْلُ ذَلِكَ البَلَدِ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكِينَ دُثِرَ ذَلِكَ البِناءُ حَتّى هَدى اللَّهُ سُلَيْمانَ إلى إقامَةِ المَسْجِدِ الأقْصى عَلَيْهِ، وهَذا مِنَ العِلْمِ الَّذِي أهْمَلَتْهُ كُتُبُ اليَهُودِ، وقَدْ ثَبَتَ في سِفْرِ التَّكْوِينِ أنَّ إبْراهِيمَ بَنى مَذابِحَ في جِهاتٍ مَرَّ عَلَيْها مِن أرْضِ الكَنْعانِيِّينَ لِأنَّ اللَّهَ أخْبَرَهُ أنَّهُ يُعْطِي تِلْكَ الأرْضَ لِنَسْلِهِ، فالظّاهِرُ أنَّهُ بَنى أيْضًا بِمَوْضِعِ مَسْجِدِ أُرْشَلِيمَ مَذْبَحًا.
(p-١٦)ومُبارَكًا اسْمُ مَفْعُولٍ مِن بارَكَ الشَّيْءَ إذا جَعَلَ لَهُ بَرَكَةً وهي زِيادَةٌ في الخَيْرِ. أيْ جُعِلَتِ البَرَكَةُ فِيهِ بِجَعْلِ اللَّهِ تَعالى، إذْ قَدَّرَ أنْ يَكُونَ داخِلُهُ مُثابًا ومُحَصَّلًا عَلى خَيْرٍ يَبْلُغُهُ عَلى مَبْلَغِ نِيَّتِهِ، وقَدَّرَ لِمُجاوِرِيهِ وسُكّانِ بَلَدِهِ أنْ يَكُونُوا بِبَرَكَةِ زِيادَةِ الثَّوابِ ورَفاهِيَةِ الحالِ، وأمَرَ بِجَعْلِ داخِلِهِ آمِنًا، وقَدَّرَ ذَلِكَ بَيْنَ النّاسِ فَكانَ ذَلِكَ كُلُّهُ بَرَكَةً. وسَيَأْتِي مَعْنى البَرَكَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وهَذا كِتابٌ أنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [الأنعام: ٩٢] في سُورَةِ الأنْعامِ.
ووَصَفَهُ بِالمَصْدَرِ في قَوْلِهِ وهُدًى مُبالَغَةً لِأنَّهُ سَبَبُ هُدى.
وجُعِلَ هُدًى لِلْعالَمِينَ كُلِّهِمْ: لِأنَّ شُهْرَتَهُ، وتَسامُعَ النّاسِ بِهِ، يَحْمِلُهم عَلى التَّساؤُلِ عَنْ سَبَبِ وضْعِهِ، وأنَّهُ لِتَوْحِيدِ اللَّهِ، وتَطْهِيرِ النُّفُوسِ مِن خُبْثِ الشِّرْكِ، فَيَهْتَدِي بِذَلِكَ المُهْتَدِي، ويَرْعَوِي المُتَشَكِّكُ.
ومِن بَرَكَةِ ذاتِهِ أنَّ حِجارَتَهُ وضَعَتْها عِنْدَ بِنائِهِ يَدُ إبْراهِيمَ، ويَدُ إسْماعِيلَ، ثُمَّ يَدُ مُحَمَّدٍ ﷺ، ولا سِيَّما الحَجَرُ الأسْوَدُ. وانْتَصَبَ ﴿مُبارَكًا وهُدًى﴾ عَلى الحالِ مِنَ الخَبَرِ، وهو اسْمُ المَوْصُولِ.
وجُمْلَةُ ﴿فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ﴾ [آل عمران: ٩٧] اسْتِئْنافُ ثَناءٍ عَلى هَذا البَيْتِ بِما حَفَّ بِهِ مِنَ المَناقِبِ والمَزايا فَغُيِّرَ الأُسْلُوبُ لِلِاهْتِمامِ، ولِذَلِكَ لَمْ تُجْعَلِ الجُمْلَةُ حالًا، فَتُعْطَفُ عَلى الحالَيْنِ قَبْلَها، لِأنَّ ﴿مُبارَكًا وهُدًى﴾ وصْفانِ ذاتِيّانِ لَهُ، وحالانِ مُقارِنانِ، والآياتُ عَوارِضُ عَرَضَتْ في أوْقاتٍ مُتَفاوِتَةٍ، أوْ هي حالٌ ثالِثَةٌ ولَمْ تُعْطَفْ بِالواوِ لِأنَّها جُمْلَةٌ وما قَبْلَها مُفْرِدانِ ولِئَلّا يُتَوَهَّمَ أنَّ الواوَ فِيها واوُ الحالِ، فَتَكُونُ في صُورَتِها جارِيَةً عَلى غَيْرِ صُورَةِ الأفْصَحِ في مِثْلِها مِن عَدَمِ الِاقْتِرانِ بِالواوِ، عَلى ما حَقَّقَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ القاهِرِ، فَلَوْ قُرِنَتْ بِواوِ العَطْفِ لالتُبِسَتْ بِواوِ الحالِ، فَكُرِهَتْ في السَّمْعِ، فَيَكُونُ هَذا مِنَ القَطْعِ لِدَفْعِ اللَّبْسِ، أوْ نَقُولُ هي حالٌ ولَمْ تُعْطَفْ عَلى الأحْوالِ الأُخْرى لِأنَّها جُمْلَةٌ، فاسْتَغْنَتْ بِالضَّمِيرِ عَنْ رابِطِ العَطْفِ.
ووَصْفُ الآياتِ بِبَيِّناتٍ لِظُهُورِها في عِلْمِ المُخاطَبِينَ. وجِماعُ هَذِهِ (p-١٧)الآياتِ هي ما يَسَرَّهُ اللَّهُ لِسُكّانِ الحَرَمِ وزائِرِيهِ مِن طُرُقِ الخَيْرِ، وما دَفَعَ عَنْهم مِنَ الأضْرارِ، عَلى حالَةٍ اتَّفَقَ عَلَيْها سائِرُ العَرَبِ، وقَمَعُوا بِها أنْفُسَهم وشَهَواتِهِمْ، مَعَ تَكالُبِهِمْ عَلى إرْضاءِ نُفُوسِهِمْ. وأعْظَمُها الأمْنُ، الَّذِي وُطِّنَ عَلَيْهِ نُفُوسُ جَمِيعِ العَرَبِ في الجاهِلِيَّةِ مَعَ عَدَمِ تَدَيُّنِهِمْ، فَكانَ الرَّجُلُ يُلاقِي قاتِلَ أبِيهِ في الحَرَمِ فَلا يَنالُهُ بِسُوءٍ، وتَواضُعُ مِثْلِ هَذا بَيْنَ مُخْتَلِفِ القَبائِلِ، ذاتِ اخْتِلافِ الأنْسابِ والعَوائِدِ والأدْيانِ، آيَةٌ عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى وقَرَ ذَلِكَ في نُفُوسِهِمْ. وكَذَلِكَ تَأْمِينُ وحْشِهِ مَعَ افْتِتانِ العَرَبِ بِحُبِّ الصَّيْدِ. ومِنها ما شاعَ بَيْنَ العَرَبِ مَن قَصْمِ كُلِّ مَن رامَهُ بِسُوءٍ، وما انْصِرافُ الأحْباشِ عَنْهُ بَعْدَ امْتِلاكِهِمْ جَمِيعَ اليَمَنِ وتِهامَةَ إلّا آيَةٌ مِن آياتِ اللَّهِ فِيهِ. ومِنها انْبِثاقُ الماءِ فِيهِ لِإسْماعِيلَ حِينَ إشْرافِهِ عَلى الهَلاكِ. وافْتِداءُ اللَّهِ تَعالى إيّاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ حِينَ أرادَ أبُوهُ إبْراهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - قُرْبانَهُ. ومِنها ما شاعَ بَيْنَ العَرَبِ وتَوارَثُوا خَبَرَهُ أبًا عَنْ جَدٍّ مِن نُزُولِ الحَجَرِ الأسْوَدِ مِنَ السَّماءِ عَلى أبِي قَبِيسٍ بِمَرْأى إبْراهِيمَ، ولَعَلَّهُ حَجَرٌ كَوْكَبِيٌّ. ومِنها تَيْسِيرُ الرِّزْقِ لِساكِنِيهِ مَعَ قُحُولَةِ أرْضِهِ، ومُلُوحَةِ مائِهِ.
وقَوْلُهُ مَقامُ إبْراهِيمَ أصْلُ المَقامِ أنَّهُ مَفْعَلٌ مِنَ القِيامِ، والقِيامُ يُطْلَقُ عَلى المَعْنى الشّائِعِ وهو ضِدُّ القُعُودِ، ويُطْلَقُ عَلى خُصُوصِ القِيامِ لِلصَّلاةِ والدُّعاءِ، فَعَلى الوَجْهِ الثّانِي فَرَفْعُ مَقامٍ عَلى أنَّهُ خَبَرٌ لِضَمِيرٍ مَحْذُوفٍ يَعُودُ عَلى ﴿لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾، أيْ هو مَقامُ إبْراهِيمَ: أيِ البَيْتُ الَّذِي بِبَكَّةٍ. وحَذْفُ المُسْنَدِ إلَيْهِ هُنا جاءَ عَلى الحَذْفِ الَّذِي سَمّاهُ عُلَماءُ المَعانِي، التّابِعِينَ لِاصْطِلاحِ السَّكّاكِيِّ، بِالحَذْفِ لِلِاسْتِعْمالِ الجارِي عَلى تَرْكِهِ، وذَلِكَ في الرَّفْعِ عَلى المَدْحِ أوِ الذَّمِّ، أوِ التَّرَحُّمِ، بَعْدَ أنْ يَجْرِيَ عَلى المُسْنَدِ إلَيْهِ مِنَ الأوْصافِ قَبْلَ ذَلِكَ ما يُبَيِّنُ المُرادَ مِنهُ كَقَوْلِ أبِي الطَّمْحانِ القَيْنِيِّ:
؎فَإنَّ بَنِي لَأْمِ بْنِ عَمْرٍو أرُومَةٌ سَمَتْ فَوْقَ صَعْبٍ لا تُنالُ مَراقِبُهُ
؎نُجُومُ سَماءٍ كُلَّما انْقَضَّ كَوْكَبٌ ∗∗∗ بَدا كَوْكَبٌ تَأْوِي إلَيْهِ كَواكِبُهُ
هَذا هو الوَجْهُ في مَوْقِعِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿مَقامُ إبْراهِيمَ﴾ [آل عمران: ٩٧] .
(p-١٨)وقَدْ عَبَّرَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ بِأنَّهُ ﴿مَقامُ إبْراهِيمَ﴾ [آل عمران: ٩٧] أيْ مَحَلُّ قِيامِهِ لِلصَّلاةِ والطَّوافِ قالَ تَعالى: ﴿واتَّخِذُوا مِن مَقامِ إبْراهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: ١٢٥] ويَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ:
؎عُذْتُ بِما عاذَ بِهِ إبْراهِمْ ∗∗∗ مُسْتَقْبِلَ الكَعْبَةِ وهو قائِمْ
وعَلى الوَجْهِ الأوَّلِ يَكُونُ المُرادُ الحَجَرَ الَّذِي فِيهِ أثَرُ قَدَمَيْ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - في الصَّخْرَةِ الَّتِي ارْتَقى عَلَيْها لِيَرْفَعَ جُدْرانَ الكَعْبَةِ، وبِذَلِكَ فَسَّرَ الزَّجّاجُ، وتَبِعَهُ عَلى ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وأجابَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَمّا يُعْتَرَضُ بِهِ مِن لُزُومِ تَبْيِينِ الجَمْعِ بِالمُفْرَدِ بِأنَّ هَذا المُفْرَدَ في قُوَّةِ جَماعَةٍ مِنَ الآياتِ، لِأنَّ أثَرَ القَدَمِ في الصَّخْرَةِ آيَةٌ، وغَوْصَهُ فِيها إلى الكَعْبَيْنِ آيَةٌ، وإلانَةَ بَعْضِ الصَّخْرِ دُونَ بَعْضٍ آيَةٌ، وأنا أقُولُ: إنَّهُ آياتٌ لِدَلالَتِهِ عَلى نُبُوَّةِ إبْراهِيمَ بِمُعْجِزَةٍ لَهُ وعَلى عِلْمِ اللَّهِ وقُدْرَتِهِ، وإنَّ بَقاءَ ذَلِكَ الأثَرِ مَعَ تَلاشِي آثارٍ كَثِيرَةٍ في طِيلَةِ القُرُونِ آيَةٌ أيْضًا.
وقَوْلُهُ ومَن دَخَلَهُ كانَ آمِنًا عَطْفٌ عَلى مَزايا البَيْتِ وفَضائِلِهِ مِنَ الأمْنِ فِيهِ عَلى العُمُومِ، وامْتِنانٌ بِما تَقَرَّرَ في ماضِي العُصُورِ، فَهو خَبَرٌ لَفْظًا مُسْتَعْمَلٌ في الِامْتِنانِ، فَإنَّ الأمْنَ فِيهِ قَدْ تَقَرَّرَ واطَّرَدَ، وهَذا الِامْتِنانُ كَما امْتَنَّ اللَّهُ عَلى النّاسِ بِأنَّهُ خَلَقَ لَهم أسْماعًا وأبْصارًا فَإنَّ ذَلِكَ لا يُنْقَضُ بِمَن وُلِدَ أكْمَهَ أوْ عَرَضَ لَهُ ما أزالَ بَعْضَ ذَلِكَ.
قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ: هَذا خَبَرٌ عَمّا كانَ ولَيْسَ فِيهِ إثْباتُ حُكْمٍ وإنَّما هو تَنْبِيهٌ عَلى آياتٍ ونِعَمٍ مُتَعَدِّداتٍ؛ أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ قَدْ كانَ صَرَفَ القُلُوبَ عَنِ القَصْدِ إلى مُعارَضَتِهِ، وصَرَفَ الأيْدِي عَنْ إذايَتِهِ. ورُوِيَ هَذا عَنِ الحَسَنِ. وإذا كانَ ذَلِكَ خَبَرًا فَهو خَبَرٌ عَمّا مَضى قَبْلَ مَجِيءِ شَرِيعَةِ الإسْلامِ حِينَ لَمْ يَكُنْ لَهم في الجاهِلِيَّةِ وازِعٌ فَلا يَنْتَقِضُ بِما وقَعَ فِيهِ مِنِ اخْتِلالِ الأمْنِ في القِتالِ بَيْنَ الحَجّاجِ وابْنِ الزُّبَيْرِ وفي فِتْنَةِ القَرامِطَةِ، وقَدْ ذَكَرْنا ذَلِكَ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ﴾ [آل عمران: ٧] - أوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ - .
(p-١٩)ومِنَ العُلَماءِ مَن حَمَلَ قَوْلَهُ تَعالى ﴿ومَن دَخَلَهُ كانَ آمِنًا﴾ [آل عمران: ٩٧] أنَّهُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ في الأمْرِ بِتَأْمِينِ داخِلِهِ مِن أنْ يُصابَ بِأذًى، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وابْنِ عُمَرَ، وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وعَطاءٍ، وطاوُسٍ، والشَّعْبِيِّ.
وقَدِ اخْتَلَفَ الصّائِرُونَ إلى هَذا المَعْنى في مَحْمَلِ العَمَلِ بِهَذا الأمْرِ؛ فَقالَ جَماعَةٌ: هَذا حُكْمٌ نُسِخَ، يَعْنُونَ نَسَخَتْهُ الأدِلَّةُ الَّتِي دَلَّتْ عَلى أنَّ الحَرَمَ لا يُعِيذُ عاصِيًا. رَوى البُخارِيُّ، عَنْ أبِي شُرَيْحٍ الكَعْبِيِّ، أنَّهُ قالَ لِعُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ: وهو يَبْعَثُ البُعُوثَ إلى مَكَّةَ أيْ لِحَرْبِ ابْنِ الزُّبَيْرِ: ائْذَنْ لِي أيُّها الأمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلًا قامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ الغَدَ مِن يَوْمِ الفَتْحِ، سَمِعَتْهُ أُذُنايَ ووَعاهُ قَلْبِي وأبْصَرَتْهُ عَيْنايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ: «إنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وأثْنى عَلَيْهِ ثُمَّ قالَ إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَها اللَّهُ ولَمْ يُحَرِّمْها النّاسُ؛ لا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ أنْ يَسْفِكَ بِها دَمًا، ولا يُعْضَدَ بِها شَجَرَةٌ. فَإنْ أحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتالِ رَسُولِ اللَّهِ فِيها فَقُولُوا لَهُ: إنَّ اللَّهَ أذِنَ لِرَسُولِهِ ولَمْ يَأْذَنْ لَكم، وإنَّما أذِنَ لِي فِيها ساعَةً مِن نَهارٍ وقَدْ عادَتْ حُرْمَتُها اليَوْمَ كَحُرْمَتِها بِالأمْسِ ولِيُبَلِّغِ الشّاهِدُ الغائِبَ» قالَ: فَقالَ لِي عَمْرٌو: أنا أعْلَمُ بِذَلِكَ مِنكَ، يا أبا شُرَيْحٍ إنَّ الحَرَمَ لا يُعِيذُ عاصِيًا ولا فارًّا بِدَمٍ ولا فارًّا بِخَرْبَةٍ (الخَرْبَةُ) - بِفَتْحِ الخاءِ وسُكُونِ الرّاءِ - الجِنايَةُ والبَلِيَّةُ الَّتِي تَكُونُ عَلى النّاسِ وبِما ثَبَتَ «أنَّ النَّبِيءَ ﷺ أمَرَ بِأنْ يُقْتَلَ ابْنُ خَطَلٍ وهو مُتَعَلِّقٌ بِأسْتارِ الكَعْبَةِ يَوْمَ الفَتْحِ» .
وقَدْ قالَ مالِكٌ، والشّافِعِيُّ: إنَّ مَن أصابَ جِنايَةً في الحَرَمِ أوْ خارِجَهُ ثُمَّ عاذَ بِالحَرَمِ يُقامُ عَلَيْهِ الحَدُّ في الحَرَمِ ويُقادُ مِنهُ.
وقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ الأرْبَعَةُ: لا يُقْتَصُّ في الحَرَمِ مِنَ اللّاجِئِ إلَيْهِ مِن خارِجِهِ مادامَ فِيهِ؛ لَكِنَّهُ لا يُبايَعُ ولا يُؤاكَلُ ولا يُجالَسُ إلى أنْ يَخْرُجَ مِنَ الحَرَمِ. ويَرْوُونَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وابْنِ عُمَرَ، ومَن ذَكَرْناهُ مَعَهُما آنِفًا.
وفِي أحْكامِ ابْنِ الفَرَسِ أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قالَ: مَن كانَ خائِفًا مِنَ الِاحْتِيالِ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِآمِنٍ ولا تَجُوزُ إذايَتُهُ بِالِامْتِناعِ مِن مُكالَمَتِهِ.
(p-٢٠)وقالَ فَرِيقٌ: هو حُكْمٌ مُحْكَمٌ غَيْرُ مَنسُوخٍ، فَقالَ فَرِيقٌ مِنهم: قَوْلُهُ ﴿ومَن دَخَلَهُ﴾ [آل عمران: ٩٧] يُفْهَمُ مِنهُ أنَّهُ أتى ما يُوجِبُ العُقُوبَةَ خارِجَ الحَرَمِ فَإذا جَنى في الحَرَمِ أُقِيدَ مِنهُ، وهَذا قَوْلُ الجُمْهُورِ مِنهم، ولَعَلَّ مُسْتَنَدَهم قَوْلُهُ تَعالى ﴿والحُرُماتُ قِصاصٌ﴾ [البقرة: ١٩٤] أوِ اسْتَنَدُوا إلى أدِلَّةٍ مِنَ القِياسِ، وقالَ شُذُوذٌ: لا يُقامُ الحَدُّ في الحَرَمِ، ولَوْ كانَ الجانِي جَنى في الحَرَمِ وهَؤُلاءِ طَرَدُوا دَلِيلَهم.
وقَدْ ألْمَمْنا بِذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ولا تُقاتِلُوهم عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكم فِيهِ﴾ [البقرة: ١٩١] .
وقَدْ جَعَلَ الزَّجّاجُ جُمْلَةَ ﴿ومَن دَخَلَهُ كانَ آمِنًا﴾ [آل عمران: ٩٧] آيَةً ثانِيَةً مِنَ الآياتِ البَيِّناتِ فَهي بَيانٌ لِ (آياتٌ)، وتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وقالَ: يَجُوزُ أنْ يُطْلَقَ لَفْظُ الجَمْعِ عَلى المُثَنّى كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما﴾ [التحريم: ٤] . وإنَّما جازَ بَيانُ المُفْرَدِ بِجُمْلَةٍ لِأنَّ هَذِهِ الجُمْلَةَ في مَعْنى المُفْرَدِ إذِ التَّقْدِيرُ: مَقامُ إبْراهِيمَ وأمْنُ مَن دَخَلَهُ. ولَمْ يَنْظُرْ ذَلِكَ بِما اسْتُعْمِلَ مِن كَلامِ العَرَبِ حَتّى يُقَرِّبَ هَذا الوَجْهُ. وعِنْدِي في نَظِيرِهِ قَوْلُ الحارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ:
؎مَن لَنا عِنْدَهُ مِنَ الخَيْرِ آيا ∗∗∗ تٌ ثَلاثٌ في كُلِّهِنَّ القَضاءُ
؎آيَةٌ شارِقُ الشَّقِيقَةِ إذْ جا ∗∗∗ ءَتْ مَعَدٌّ لِكُلِّ حَيٍّ لِواءُ
ثُمَّ قالَ:
؎ثُمَّ حُجْرًا أعْنِي ابْنَ أُمِّ قَطامِ ∗∗∗ ولَهُ فارِسِيَّةٌ خَضْراءُ
ثُمَّ قالَ:
؎وفَكَكْنا غُلَّ امْرِئِ القَيْسِ عَنْهُ ∗∗∗ بَعْدَ ما طالَ حَبْسُهُ والعَناءُ
فَجَعَلَ (وفَكَكْنا) هي الآيَةَ الرّابِعَةَ بِاتِّفاقِ الشُّرّاحِ إذِ التَّقْدِيرُ: وفَكُّنا غُلَّ امْرِئِ القَيْسِ.
وجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنْ يَكُونَ آياتٌ باقِيًا عَلى مَعْنى الجَمْعِ وقَدْ بُيِّنَ بِآيَتَيْنِ وتُرِكَتِ الثّالِثَةُ كَقَوْلِ جَرِيرٍ:
؎كانَتْ حَنِيفَةُ أثْلاثًا فَثُلْثُهُمُ ∗∗∗ مِنَ العَبِيدِ وثُلْثٌ مِن مَوالِيها
أيْ ولَمْ يَذْكُرِ الثُّلُثَ الثّالِثَ.
(p-٢١)وهُوَ تَنْظِيرٌ ضَعِيفٌ لِأنَّ بَيْتَ جَرِيرٍ ظَهَرَ مِنهُ الثُّلُثُ الثّالِثُ، فَهُمُ الصَّمِيمُ، بِخِلافِ الآيَةِ فَإنَّ بَقِيَّةَ الآياتِ لَمْ يُعْرَفْ. ويَجُوزُ أنْ نَجْعَلَ قَوْلَهُ تَعالى﴿ولِلَّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ﴾ [آل عمران: ٩٧] إلَخْ مُتَضَمِّنًا الثّالِثَةَ مِنَ الآياتِ البَيِّناتِ.
{"ayah":"إِنَّ أَوَّلَ بَیۡتࣲ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِی بِبَكَّةَ مُبَارَكࣰا وَهُدࣰى لِّلۡعَـٰلَمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق