الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿إنَّ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكًا وهُدىً لِلْعالَمِينَ ﴾ [آل عمران: ٩٦].
فيه منزلةُ البيتِ العَتِيقِ المسجدِ الحرامِ مسجدِ الكعبةِ وقِدَمُهُ، وقد وضَعَ قواعدَهُ إبراهيمُ وابنُه إسماعيلُ، كما في قولِه تعالى: ﴿وإذْ يَرْفَعُ إبْراهِيمُ القَواعِدَ مِنَ البَيْتِ وإسْماعِيلُ﴾ [البقرة: ١٢٧]، وقيل: إنّ المرادَ بالوضعِ في الآيةِ: هو وضعُ البَرَكَةِ والهُدى للناسِ، لا وضعُ البناءِ، فوضعُ القواعدِ شيءٌ، ووضعُ البيتِ شيءٌ، ووضعُ الهدايةِ والبَرَكةِ والأمانِ فيه شيءٌ آخَرُ، فما كلُّ أحكامِ البيتِ الحرامِ نزَلتْ مرةً واحدةً، ولذا جاء عندَ البيهقيِّ، مِن حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو مرفوعًا: (أنّ اللهَ أمَرَ آدَمَ وحَوّاءَ بِبِناءِ البَيْتِ والطَّوافِ فِيهِ) [[«دلائل النبوة» للبيهقي (٢/٤٥).]]، ولا يصحُّ.
وصحَّ عن بعضِ السلفِ، كقتادةَ: أنّ أولَ مَن طافَ به آدمُ.
وفي ذلك بعضُ الأقوالِ عن وهبِ بنِ مُنَبِّهٍ وغيرِه.
وليس في ذلك شيءٌ مرفوعٌ صحيحٌ عن النبيِّ ﷺ يُعتمَدُ عليه.
وفي «الصحيحينِ»، عن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه، قال: قُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، أيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَرْضِ أوَّلُ؟ قالَ: (المَسْجِدُ الحَرامُ)، قُلْتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: (المَسْجِدُ الأَقْصى)، قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُما؟ قالَ: (أرْبَعُونَ سَنَةً، وأَيْنَما أدْرَكَتْكَ الصَّلاةُ، فَصَلِّ، فَهُوَ مَسْجِدٌ) [[أخرجه البخاري (٣٣٦٦) (٤/١٤٥)، ومسلم (٥٢٠) (١/٣٧٠).]].
تسميةُ مكةَ بـ(بَكَّةَ):
وسُمِّيَتْ بَكَّةَ، قيل: لأنّ الناسَ يأتُونَها مِن كلِّ مكانٍ، وبهذا قال عبدُ اللهِ بنُ الزُّبيرِ.
و&#١٣٣،قـيـل: لأنّها تَبُكُّ الجبابرةَ.
وقيل: لأنّ اللهَ جعَلَ الرجُلَ فيها كالمرأةِ، يَبُكُّ الرجلُ المرأةَ، وتَبُكُّ المرأةُ الرجلَ، وهم في الحُكْمِ سواءٌ، وهذا مرويٌّ عن ابنِ عمرَ، وأبي جعفرٍ محمدِ بنِ عليٍّ، وعتبةَ بنِ قيسٍ.
و&#١٣٣،قيـل: تَبُكُّ الظَّلَمَةَ، فلا يقعُ فيها ظلمٌ ويطُولُ، فاللهُ يُزِيلُ الظالمَ ولا يُمهِلُه فيها.
وقال عكرمةُ وأبو مالكٍ والنخَعيُّ وغيرُهم: بَكَّةُ: هي الكعبةُ وما حولَها، وما وراءَ ذلك يُسمّى: مَكَّةَ، وقال ابنُ عباسٍ: بَكَّةُ: مِن الفَجِّ إلى التَّنْعِيمِ، ومكَّةُ: مِن البيتِ إلى البَطْحاءِ[[ينظر: «تفسير الطبري» (٥/٥٩٥، ٥٩٧)، و«تفسير ابن المنذر» (١/٢٩٩، ٣٠١)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/٧٠٨، ٧٠٩).]].
فضلُ المسجِدِ القديمِ:
وفي الآيةِ: فضلُ المسجدِ القديمِ على الجديدِ، وقد اختَلَفَ العلماءُ في التفضيلِ بينَ المسجدِ القديمِ والمسجدِ الحديثِ الذي يجتمِعُ فيه الناسُ أكثرَ مِن غيرِه، على قولَيْن، وهما قولانِ في مذهبِ الحنابلةِ، ويأتي تفصيلُ ذلك في سورةِ التوبةِ في قولِه تعالى: ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلى التَّقْوى مِن أوَّلِ يَوْمٍ أحَقُّ أنْ تَقُومَ فِيهِ﴾ [التوبة: ١٠٨].
والمسجدُ الحرامُ أفضلُ مِن غيرِهِ في المنزلةِ والصلاةِ والاعتكافِ وسائرِ القُرُباتِ.
تقاربُ صفوف الرجالِ والنساءِ بالمسجد الحرام:
ومِن هذه الآيةِ: أخَذَ بعضُ السلفِ الترخيصَ في اجتماعِ الرجالِ والنساءِ في المسجدِ الحرامِ للعبادةِ بلا مماسَّةٍ، على خلافِ الأصلِ المانعِ مِن الاختِلاطِ.
ومِن هذه الآيةِ يُؤخَذُ التيسيرُ في مواضعِ الصفوفِ، خاصةً عندَ المشقَّةِ والزحامِ، ولا يَختلفُ العلماءُ: أنّ السُّنةَ أنّ مواضعَ صفوفِ الرجالِ أمامَ النساءِ، وأنّ التباعُدَ هو الأفضلُ، ولكنْ يُخفَّفُ في ذلك عندَ الزحامِ في المسجدِ الحرامِ، فقد روى ابنُ أبي حاتمٍ، عن عُتبةَ بنِ قيسٍ، قال: «بكَّةُ بكَّتْ بَكًّا، الذَّكَرُ فيها كالأُنثى، قيل له: عمَّن هذا؟ قال: عن ابنِ عمرَ»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/٧٠٨).]].
وهو عنه: صحيحٌ.
وروى سعيدٌ عن قتادةَ قولَه: «إنّ اللهَ بَكَّ به الناسَ جميعًا، فيُصَلِّي النساءُ أمامَ الرجالِ، ولا يُفعَلُ ذلك في بلدٍ إلا في مكةَ».
وحَكاهُ ابنُ أبي حاتمٍ، عن مجاهدٍ وسعيدِ بنِ جُبيرٍ وعِكْرِمةَ وعمرِو بنِ شعيبٍ ومقاتلِ بنِ حيّانَ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/٧٠٩).]].
السترةُ في المسجِدِ الحرامِ:
وبهذا استدَلَّ غيرُ واحدٍ على أنّ السُّتْرةَ في البيتِ الحرامِ يُخفَّفُ في حُكْمِها أكثرَ مِن غيرِه، لِما سبَقَ، ولمشقَّةِ ذلك على الناسِ، وهذا ظاهرُ قولِ مَن سبَقَ مِن السلفِ، ونصَّ عليه أبو جعفرٍ محمدُ بنُ عليِّ بنِ الحسينِ وابنُ الزُّبيرِ وطاوسٌ، ومحمدُ بنُ الحنفيَّةِ وابنُ جُرَيْجٍ، وقال به أحمدُ، فقال: «مكةُ ليستْ كغيرِها، كأنّ مكةَ مخصوصةٌ».
وقال به ابنُ تيميةَ.
روى ابنُ أبي حاتمٍ، عن عطاءِ بنِ السائبِ، عن أبي جعفرٍ، محمدِ بنِ عليِّ بنِ الحسينِ: مرَّتِ امرأةٌ بينَ يدَيْ رجلٍ وهو يُصلِّي وهي تَطُوفُ بالبيتِ، فدفَعَها، فقال أبو جعفرٍ: «إنّها بكَّةُ، يَبُكُّ بعضُهم بعضًا»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/٧٠٨).]].
وروى عبدُ الرزّاقِ، عن ابنِ طاوسٍ، عن أبيهِ، قال: «لا يقطعُ الصلاةَ بمكةَ شيءٌ، لا يضُرُّك أنْ تَمُرَّ المرأةُ بينَ يدَيْك»[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (٢٣٨٥) (٢/٣٥).]].
وروى عن أبي عامرٍ، قال: «رأيتُ ابنَ الزُّبيرِ يُصلِّي في المسجدِ، فتُريدُ المرأةُ أنْ تُجِيزَ أمامَه، وهو يُريدُ السجودَ، حتى إذا هي أجازَتْ سجَدَ في موضعِ قدَمَيْها»[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (٢٣٨٦) (٢/٣٥).]].
ويعضُدُ هذا دفعُ المشقَّةِ، خاصَّةً مع كثرةِ الناسِ رجالًا ونساءً في المسجدِ الحرامِ في هذا الزمنِ.
وأمّا حديثُ كَثِيرِ بنِ كثيرِ بنِ المُطَّلِبِ بنِ أبي وداعَةَ، عن بعضِ أهلِه، عن جدِّه: أنّه رأى النبيَّ ﷺ يُصلِّي ممّا يَلِي بابَ بَني سَهْمٍ والناسُ يَمُرُّونَ بينَ يدَيْهِ وليس بينَهما سُترةٌ، قال سفيانُ: ليس بينَه وبينَ الكعبةِ سترةٌ[[أخرجه أحمد (٢٧٢٤١) (٦/٣٩٩)، وأبو داود (٢٠١٦) (٢/٢١١).]].
فرواهُ أحمدُ وأبو داودَ، وفي إسنادِه جهالةٌ، وقد أعَلَّهُ ابنُ المَدِينِيِّ، وأشارَ البخاريُّ إلى علَّتِه في الصحيحِ، فقد ترجَمَ بابًا فقال: (بابُ السُّتْرةِ بمكةَ وغيرِها)[[«صحيح البخاري» (١/١٠٦).]].
{"ayah":"إِنَّ أَوَّلَ بَیۡتࣲ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِی بِبَكَّةَ مُبَارَكࣰا وَهُدࣰى لِّلۡعَـٰلَمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق