{فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ لَهُ: أَيُّ الْمَسْجِدَيْنِ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلَ؟ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ أَوْ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى؟ قَالَ: «الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ». وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ عَامًا؛ وَهَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ: كَانَ فِي الْأَرْضِ بَيْتٌ قَبْلَهُ تَحُجُّهُ الْمَلَائِكَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي بَرَكَتِهِ: قِيلَ: ثَوَابُ الْأَعْمَالِ. وَقِيلَ: ثَوَابُ الْقَاصِدِ إلَيْهِ. وَقِيلَ: أَمْنُ الْوَحْشِ فِيهِ. وَقِيلَ: عُزُوفُ النَّفْسِ عَنْ الدُّنْيَا عِنْدَ رُؤْيَتِهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُبَارَكٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَذَلِكَ بِجَمِيعِهِ مَوْجُودٌ فِيهِ.
[مَسْأَلَةٌ مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى بِبَكَّةِ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَأَمَّا قَوْلُهُ: {بِبَكَّةَ} [آل عمران: 96] فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: بَكَّةُ: مَكَّةُ. الثَّانِي: بَكَّةُ: الْمَسْجِدُ، وَمَكَّةُ سَائِرُ الْحَرَمِ. وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بَكَّةَ لِأَنَّهَا تَبُكُّ أَعْنَاقَ الْجَبَابِرَةِ، أَيْ تَقْطَعُهَا.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَقَتَادَةُ: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَكَّ بِهَا النَّاسَ؛ فَتُصَلِّي النِّسَاءُ بَيْنَ يَدَيْ الرِّجَالِ، وَلَا يَكُونُ فِي بَلَدٍ غَيْرِهَا، وَصُورَةُ هَذَا أَنَّ النَّاسَ يَسْتَدِيرُونَ بِالْبَيْتِ فَيَكُونُ وُجُوهُ الْبَعْضِ إلَى الْبَعْضِ فَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِقْبَالِ النِّسَاءِ مِنْ حَيْثُ صَلَّوْا.
[مَسْأَلَةٌ قَوْله تَعَالَى مَقَامُ إبْرَاهِيمَ]
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97] فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْحَجَرُ الْمَعْهُودُ، وَإِنَّمَا جُعِلَ آيَةً لِلنَّاسِ؛ لِأَنَّهُ جَمَادٌ صَلْدٌ وَقَفَ عَلَيْهِ إبْرَاهِيمُ، فَأَظْهَرَ اللَّهُ فِيهِ أَثَرَ قَدَمِهِ آيَةً بَاقِيَةً إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97] هُوَ الْحَجُّ كُلُّهُ؛ وَهَذَا بَيِّنٌ، فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ قَامَ بِأَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَنَادَى بِالْحَجِّ عِبَادَ اللَّهِ، فَجَمَعَ اللَّهُ الْعِبَادَ عَلَى قَصْدِهِ، وَكَانَتْ شِرْعَةً مِنْ عَهْدِهِ، وَحَجَّةً عَلَى الْعَرَبِ الَّذِينَ اقْتَدَوْا بِهِ مِنْ بَعْدِهِ.
وَفِيهِ مِنْ الْآيَاتِ أَنَّ مَنْ دَخَلَهُ خَائِفًا عَادَ آمِنًا؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ كَانَ صَرَفَ الْقُلُوبَ عَنْ الْقَصْدِ إلَى مُعَارَضَتِهِ، وَصَرَفَ الْأَيْدِي عَنْ إذَايَتِهِ، وَجَمَعَهَا عَلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُرْمَتِهِ. وَهَذَا خَبَرٌ عَمَّا كَانَ، وَلَيْسَ فِيهِ إثْبَاتُ حُكْمٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى آيَاتٍ، وَتَقْرِيرُ نِعَمٍ مُتَعَدِّدَاتٍ، مَقْصُودُهَا وَفَائِدَتُهَا وَتَمَامُ النِّعْمَةِ فِيهِ بَعْثُهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَمَنْ لَمْ يَشْهَدْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَيَرَى مَا فِيهَا مِنْ شَرَفِ الْمُقَدِّمَاتِ لِحُرْمَةِ مَنْ ظَهَرَ مِنْ تِلْكَ الْبُقْعَةِ فَهُوَ مِنْ الْأَمْوَاتِ.
[مَسْأَلَةٌ اسْتَوْجَبَ حَدًّا ثُمَّ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ]
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّ مَنْ اقْتَرَفَ ذَنْبًا وَاسْتَوْجَبَ بِهِ حَدًّا، ثُمَّ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ عَصَمَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] فَأَوْجَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْأَمْنَ لِمَنْ دَخَلَهُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ، مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ النَّاسِ.
وَكُلُّ مَنْ قَالَ هَذَا فَقَدْ وَهِمَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ خَبَرٌ عَمَّا مَضَى، وَلَمْ يُقْصَدْ بِهَا إثْبَاتُ حُكْمٍ مُسْتَقْبَلٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْنَ قَدْ ذَهَبَ، وَأَنَّ الْقَتْلَ وَالْقِتَالَ قَدْ وَقَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فِيهَا، وَخَبَرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا يَقَعُ بِخِلَافِ مُخْبِرِهِ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ فِي الْقَاضِي.
هَذَا وَقَدْ نَاقَضَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: إنَّهُ لَا يُطْعَمُ وَلَا يُسْقَى وَلَا يُعَامَلُ وَلَا يُكَلَّمُ حَتَّى يَخْرُجَ، فَاضْطِرَارُهُ إلَى الْخُرُوجِ لَيْسَ يَصِحُّ مَعَهُ أَمْنٌ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَقَعُ الْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ فِي الْحَرَمِ، وَلَا أَمْنَ أَيْضًا مَعَ هَذَا، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
[مَسْأَلَةٌ أمان مِنْ دَخَل الحرم]
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا مِنْ النَّارِ؛ وَلَا يَصِحُّ هَذَا عَلَى عُمُومِهِ، وَلَكِنَّهُ «مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»، «وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا الْجَنَّةُ». قَالَ ذَلِكَ كُلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَيَكُونُ تَفْسِيرًا لِلْمَقْصُودِ، وَبَيَانًا لِخُصُوصِ الْعُمُومِ، إنْ كَانَ هَذَا الْقَصْدُ صَحِيحًا. هَذَا، وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ تَعْدِيدَ النِّعَم عَلَى مَنْ كَانَ بِهَا جَاهِلًا وَلَهَا مُنْكِرًا مِنْ الْعَرَبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت: 67].
{"ayah":"إِنَّ أَوَّلَ بَیۡتࣲ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِی بِبَكَّةَ مُبَارَكࣰا وَهُدࣰى لِّلۡعَـٰلَمِینَ"}