الباحث القرآني

اَلْقَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [ ٩٦ ] ﴿إنَّ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكًا وهُدًى لِلْعالَمِينَ﴾ ﴿إنَّ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ﴾ أيْ: لِنُسُكِهِمْ وعِباداتِهِمْ: ﴿لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ أيْ: لَلْبَيْتُ الَّذِي بِبَكَّةَ، أيْ: فِيها. وفي تَرْكِ المَوْصُوفِ مِنَ التَّفْخِيمِ ما لا يَخْفى. وبَكَّةُ لُغَةٌ في مَكَّةَ، فَإنَّ العَرَبَ تُعاقِبُ بَيْنَ الباءِ والمِيمِ كَما في قَوْلِهِمْ: (ضَرْبَةُ لازِبٍ ولازِمٍ)، و(النَّمِيطُ والنَّبِيطُ) في اسْمِ مَوْضِعٍ بِالدَّهْناءِ، وقَوْلُهم (أمْرٌ راتِبٌ وراتِمٌ) و ( أغْبَطَتْ الحُمّى وأغْمَطَتْ) . وقِيلَ: مَكَّةُ البَلَدُ، وبَكَّةُ مَوْضِعُ المَسْجِدِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ: لِدَقِّها أعْناقَ الجَبابِرَةِ، فَلَمْ يَقْصِدْها جَبّارٌ إلّا قَصَمَهُ اللَّهُ تَعالى، أوْ لِازْدِحامِ النّاسِ بِها مِن بَكَّهُ إذا فَرَّقَهُ ووَضَعَهُ وإذا زاحَمَهُ، كَما أنَّ مَكَّةَ مِن مَكَّهُ: أهْلَكَهُ ونَقَصَهُ؛ لِأنَّها تُهْلِكُ مَن ظَلَمَ فِيها وألْحَدَ، وتُنْقِصُ الذُّنُوبَ أوْ تَنْفِيها كَما في القامُوسِ - وقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهم إلى أنَّ مَكَّةَ هي (مِيشا) أوْ (ماسا) المَذْكُورَةُ في التَّوْراةِ، وآخَرُ إلى أنَّهُ مَأْخُوذٌ مِن اسْمِ واحِدٍ مِن أوْلادِ إسْماعِيلَ وهو (مَسّا) ﴿مُبارَكًا﴾ أيْ: كَثِيرُ الخَيْرِ، لِما يَحْصُلُ لِمَن حَجَّهُ واعْتَمَرَهُ واعْتَكَفَ عِنْدَهُ وطافَ حَوْلَهُ، مِنَ الثَّوابِ وتَكْفِيرِ الذُّنُوبِ: ﴿وهُدًى لِلْعالَمِينَ﴾ لِأنَّهُ قِبْلَتُهم ومُتَعَبَّدُهم. تَنْبِيهٌ: ذَكَرَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ أنَّ المُرادَ بِالأوَّلِيَّةِ كَوْنُهُ أوَّلًا في الوَضْعِ والبِناءِ، ورَوَوْا في ذَلِكَ آثارًا، مِنها أنَّهُ تَعالى خَلَقَ هَذا البَيْتَ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ شَيْئًا مِنَ الأرَضِينَ، ومِنها: أنَّهُ تَعالى بَعَثَ مَلائِكَةً لِبِناءِ بَيْتٍ في الأرْضِ عَلى مِثالِ البَيْتِ المَعْمُورِ، وذَلِكَ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ، ومِنها: أنَّهُ أوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ عَلى وجْهِ الماءِ عِنْدَ خَلْقِ السَّماءِ والأرْضِ، وأنَّهُ خُلِقَ قَبْلَ الأرْضِ بِألْفَيْ عامٍ. ولَيْسَ في هَذِهِ الآثارِ خَبَرٌ صَحِيحٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. والمُتَعَيِّنُ أنَّ المُرادَ: أوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ مَسْجِدًا، كَما بَيَّنَتْهُ رِوايَةُ ابْنِ أبِي حاتِمٍ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في هَذِهِ الآيَةِ قالَ: كانَتْ البُيُوتُ قَبْلَهُ، ولَكِنَّهُ (p-٨٩٥)أوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِعِبادَةِ اللَّهِ تَعالى. وفي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ: «قُلْتُ يا رَسُولَ اللَّهِ: أيُّ: مَسْجِدٍ وُضِعَ في الأرْضِ أوَّلُ ؟ قالَ: «المَسْجِدُ الحَرامُ» قُلْتُ: ثُمَّ أيُّ: ؟ قالَ: «المَسْجِدُ الأقْصى» قُلْتُ: كَمْ كانَ بَيْنَهُما ؟ قالَ: «أرْبَعُونَ سَنَةً، ثُمَّ أيْنَما أدْرَكَتْكَ الصَّلاةُ بَعْدُ فَصَلِّهِ، فَإنَّ الفَضْلَ فِيهِ»» . قالَ ابْنُ القِيَمِ في (زادِ المَعادَ): وقَدْ أشْكَلَ هَذا الحَدِيثُ عَلى مَن لَمْ يَعْرِفْ المُرادَ بِهِ، فَقالَ: مَعْلُومٌ أنَّ سُلَيْمانَ بْنَ داوُدَ الَّذِي بَنى المَسْجِدَ الأقْصى. وبَيْنَهُ وبَيْنَ إبْراهِيمَ أكْثَرُ مِن ألْفِ عامٍ. وهَذا مِن جَهْلِ القائِلِ، فَإنَّ سُلَيْمانَ إنَّما كانَ لَهُ مِنَ المَسْجِدِ الأقْصى تَجْدِيدُهُ لا تَأْسِيسُهُ، واَلَّذِي أسَّسَهُ هو يَعْقُوبُ بْنُ إسْحاقَ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِما وسَلَّمَ، بَعْدَ بِناءِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِهَذا المِقْدارِ. انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب