الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكًا وهُدًى لِلْعالَمِينَ﴾ ﴿فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إبْراهِيمَ ومَن دَخَلَهُ كانَ آمِنًا﴾ في اتِّصالِ هَذِهِ الآيَةِ بِما قَبْلَها وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ مِنهُ الجَوابُ عَنْ شُبْهَةٍ أُخْرى مِن شُبَهِ اليَهُودِ في إنْكارِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وذَلِكَ لِأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا حَوَّلَ القِبْلَةَ إلى الكَعْبَةِ طَعَنَ اليَهُودُ في نُبُوَّتِهِ، وقالُوا: إنَّ بَيْتَ المَقْدِسِ أفْضَلُ مِنَ الكَعْبَةِ وأحَقُّ بِالِاسْتِقْبالِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ وُضِعَ قَبْلَ الكَعْبَةِ، وهو أرْضُ المَحْشَرِ، وقِبْلَةُ جُمْلَةِ الأنْبِياءِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ تَحْوِيلُ القِبْلَةِ مِنهُ إلى الكَعْبَةِ باطِلًا، فَأجابَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ﴾ فَبَيَّنَ تَعالى أنَّ الكَعْبَةَ أفْضَلُ مِن بَيْتِ المَقْدِسِ وأشْرَفُ، فَكانَ جَعْلُها قِبْلَةً أوْلى. والثّانِي: أنَّ المَقْصُودَ مِنَ الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ بَيانُ أنَّ النَّسْخَ هَلْ يَجُوزُ أمْ لا ؟ فَإنَّ النَّبِيَّ ﷺ اسْتَدَلَّ عَلى جَوازِهِ بِأنَّ الأطْعِمَةَ كانَتْ مُباحَةً لِبَنِي إسْرائِيلَ، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعالى حَرَّمَ بَعْضَها، والقَوْمُ نازَعُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِيهِ، وأعْظَمُ الأُمُورِ الَّتِي أظْهَرَ رَسُولُ اللَّهِ نَسْخَها هو القِبْلَةُ، لا جَرَمَ ذَكَرَ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ بَيانَ ما لِأجْلِهِ حُوِّلَتِ الكَعْبَةُ، وهو كَوْنُ الكَعْبَةِ أفْضَلَ مِن غَيْرِها. الثّالِثُ: أنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ: ﴿فاتَّبِعُوا مِلَّةَ إبْراهِيمَ حَنِيفًا وما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ [آل عمران: ٩٥] وكانَ مِن أعْظَمِ شِعارِ مِلَّةٍ إبْراهِيمَ الحَجُّ، ذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ فَضِيلَةَ البَيْتِ، لِيُفَرِّعَ عَلَيْهِ إيجابَ الحَجِّ. الرّابِعُ: أنَّ اليَهُودَ والنَّصارى زَعَمَ كُلُّ فِرْقَةٍ مِنهم أنَّهُ عَلى مِلَّةِ إبْراهِيمَ، وقَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ المُناظَرَةُ في الآياتِ المُتَقَدِّمَةِ، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى بَيَّنَ كَذِبَهم، مِن حَيْثُ إنَّ حَجَّ الكَعْبَةِ كانَ مِلَّةَ إبْراهِيمَ، واليَهُودُ والنَّصارى لا يَحُجُّونَ، فَيَدُلُّ هَذا عَلى كَذِبِهِمْ في ذَلِكَ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قالَ المُحَقِّقُونَ: الأوَّلُ هو الفَرْدُ السّابِقُ، فَإذا قالَ: أوَّلُ عَبْدٍ أشْتَرِيهِ فَهو حُرٌّ فَلَوِ اشْتَرى عَبْدَيْنِ في المَرَّةِ الأُولى لَمْ يُعْتَقْ أحَدٌ مِنهُما لِأنَّ الأوَّلَ هو الفَرْدُ، ثُمَّ لَوِ اشْتَرى في المَرَّةِ الثّانِيَةِ عَبْدًا واحِدًا لَمْ يُعْتَقْ، لِأنَّ شَرْطَ الأوَّلِ كَوْنُهُ سابِقًا فَثَبَتَ أنَّ الأوَّلَ هو الفَرْدُ السّابِقُ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: إنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إنَّ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ﴾ لا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ أوَّلُ بَيْتٍ خَلَقَهُ اللَّهُ (p-١٢٥)تَعالى، ولا أنَّهُ أوَّلُ بَيْتٍ ظَهَرَ في الأرْضِ، بَلْ ظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ أوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ، وكَوْنُهُ مَوْضُوعًا لِلنّاسِ يَقْتَضِي كَوْنَهُ مُشْتَرَكًا فِيهِ بَيْنَ جَمِيعِ النّاسِ، فَأمّا سائِرُ البُيُوتِ فَيَكُونُ كُلُّ واحِدٍ مِنها مُخْتَصًّا بِواحِدٍ مِنَ النّاسِ فَلا يَكُونُ شَيْءٌ مِنَ البُيُوتِ مَوْضُوعًا لِلنّاسِ، وكَوْنُ البَيْتِ مُشْتَرَكًا فِيهِ بَيْنَ كُلِّ النّاسِ، لا يَحْصُلُ إلّا إذا كانَ البَيْتُ مَوْضُوعًا لِلطّاعاتِ والعِباداتِ وقِبْلَةً لِلْخَلْقِ، فَدَلَّ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ﴾ عَلى أنَّ هَذا البَيْتَ وضَعَهُ اللَّهُ مَوْضِعًا لِلطّاعاتِ والخَيْراتِ والعِباداتِ فَيَدْخُلُ فِيهِ كَوْنُ هَذا البَيْتِ قِبْلَةً لِلصَّلَواتِ، ومَوْضِعًا لِلْحَجِّ، ومَكانًا يَزْدادُ ثَوابُ العِباداتِ والطّاعاتِ فِيهِ. فَإنْ قِيلَ: كَوْنُهُ أوَّلًا في هَذا الوَصْفِ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ لَهُ ثانٍ، وهَذا يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ بَيْتُ المَقْدِسِ يُشارِكُهُ في هَذِهِ الصِّفاتِ الَّتِي مِنها وُجُوبُ حَجِّهِ، ومَعْلُومٌ أنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ. والجَوابُ: مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ لَفْظَ الأوَّلِ في اللُّغَةِ اسْمٌ لِلشَّيْءِ الَّذِي يُوجَدُ ابْتِداءً، سَواءٌ حَصَلَ عَقِيبَهُ شَيْءٌ آخَرُ أوْ لَمْ يَحْصُلْ، يُقالُ: هَذا أوَّلُ قُدُومِي مَكَّةَ، وهَذا أوَّلُ مالٍ أصَبْتُهُ، ولَوْ قالَ: أوَّلُ عَبْدٍ مَلَكْتُهُ فَهو حُرٌّ فَمَلَكَ عَبْدًا، عُتِقَ، وإنْ لَمْ يَمْلِكْ بَعْدَهُ عَبْدًا آخَرَ، فَكَذا هُنا. والثّانِي: أنَّ المُرادَ مِن قَوْلِهِ: ﴿إنَّ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ﴾ أيْ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِطاعاتِ النّاسِ وعِباداتِهِمْ، وبَيْتُ المَقْدِسِ يُشارِكُهُ في كَوْنِهِ بَيْتًا مَوْضُوعًا لِلطّاعاتِ والعِباداتِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «”لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلّا إلى ثَلاثِ مَساجِدَ: المَسْجِدِ الحَرامِ، والمَسْجِدِ الأقْصى، ومَسْجِدِي هَذا“» فَهَذا القَدْرُ يَكْفِي في صِدْقِ كَوْنِ الكَعْبَةِ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ، وأمّا أنْ يَكُونَ بَيْتُ المَقْدِسِ مُشارِكًا لَهُ في جَمِيعِ الأُمُورِ حَتّى في وُجُوبِ الحَجِّ، فَهَذا غَيْرُ لازِمٍ واللَّهُ أعْلَمُ. * * * المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿إنَّ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكًا﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ كَوْنَهُ أوَّلًا في الوَضْعِ والبِناءِ وأنْ يَكُونَ المُرادُ كَوْنَهُ أوَّلًا في كَوْنِهِ مُبارَكًا وهُدًى فَحَصَلَ لِلْمُفَسِّرِينَ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلانِ. الأوَّلُ: أنَّهُ أوَّلٌ في البِناءِ والوَضْعِ، والذّاهِبُونَ إلى هَذا المَذْهَبِ لَهم أقْوالٌ. أحَدُها: ما رَوى الواحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى في ”البَسِيطِ“ بِإسْنادِهِ عَنْ مُجاهِدٍ أنَّهُ قالَ: خَلَقَ اللَّهُ تَعالى هَذا البَيْتَ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ شَيْئًا مِنَ الأرَضِينَ، وفي رِوايَةٍ أُخْرى: خَلَقَ اللَّهُ مَوْضِعَ هَذا البَيْتِ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ شَيْئًا مِنَ الأرْضِ بِألْفَيْ سَنَةٍ، وإنَّ قَواعِدَهُ لَفي الأرْضِ السّابِعَةِ السُّفْلى، ورُوِيَ أيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ رِضْوانُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ، عَنْ أبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «”إنَّ اللَّهَ تَعالى بَعَثَ مَلائِكَتَهُ فَقالَ: ابْنُوا لِي في الأرْضِ بَيْتًا عَلى مِثالِ البَيْتِ المَعْمُورِ، وأمَرَ اللَّهُ تَعالى مَن في الأرْضِ أنْ يَطُوفُوا بِهِ كَما يَطُوفُ أهْلُ السَّماءِ بِالبَيْتِ المَعْمُورِ، وهَذا كانَ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ“» . وأيْضًا ورَدَ في سائِرِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، ومُجاهِدٍ والسُّدِّيِّ: أنَّهُ أوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ عَلى وجْهِ الماءِ عِنْدَ خَلْقِ الأرْضِ والسَّماءِ، وقَدْ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعالى قَبْلَ الأرْضِ بِألْفَيْ عامٍ وكانَ زُبْدَةً بَيْضاءَ عَلى الماءِ ثُمَّ دُحِيَتِ الأرْضُ تَحْتَهُ، قالَ القَفّالُ في ”تَفْسِيرِهِ“: رَوى حَبِيبُ بْنُ ثابِتٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: وُجِدَ في كِتابٍ في المَقامِ أوْ تَحْتَ المَقامِ ”أنا اللَّهُ ذُو بَكَّةَ وضَعْتُها يَوْمَ وضَعْتُ الشَّمْسَ والقَمَرَ، وحَرَّمْتُها يَوْمَ وضَعْتُ هَذَيْنِ الحَجَرَيْنِ، وحَقَّقْتُها بِسَبْعَةِ أمْلاكٍ حُنَفاءَ“ . وثانِيها: أنَّ آدَمَ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وسَلامُهُ لَمّا أُهْبِطَ إلى الأرْضِ شَكا الوَحْشَةَ، فَأمَرَهُ اللَّهُ تَعالى بِبِناءِ الكَعْبَةِ وطافَ بِها، وبَقِيَ ذَلِكَ إلى زَمانِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَلَمّا أرْسَلَ اللَّهُ (p-١٢٦)تَعالى الطُّوفانَ، رَفَعَ البَيْتَ إلى السَّماءِ السّابِعَةِ حِيالَ الكَعْبَةِ، يَتَعَبَّدُ عِنْدَهُ المَلائِكَةُ، يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ سِوى مَن دَخَلَ مِن قَبْلُ فِيهِ، ثُمَّ بَعْدَ الطُّوفانِ انْدَرَسَ مَوْضِعُ الكَعْبَةِ، وبَقِيَ مُخْتَفِيًا إلى أنْ بَعَثَ اللَّهُ تَعالى جِبْرِيلَ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ إلى إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ودَلَّهُ عَلى مَكانِ البَيْتِ، وأمَرَهُ بِعِمارَتِهِ، فَكانَ المُهَنْدِسُ جِبْرِيلَ والبَنّاءُ إبْراهِيمَ والمُعِينُ إسْماعِيلَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ. واعْلَمْ أنَّ هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ يَشْتَرِكانِ في أنَّ الكَعْبَةَ كانَتْ مَوْجُودَةً في زَمانِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وهَذا هو الأصْوَبُ ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ. الأوَّلُ: أنَّ تَكْلِيفَ الصَّلاةِ كانَ لازِمًا في دِينِ جَمِيعِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ مَرْيَمَ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ ومِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ ومِن ذُرِّيَّةِ إبْراهِيمَ وإسْرائِيلَ ومِمَّنْ هَدَيْنا واجْتَبَيْنا إذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وبُكِيًّا﴾ [مريم: ٥٨] فَدَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّ جَمِيعَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ كانُوا يَسْجُدُونَ لِلَّهِ، والسَّجْدَةُ لا بُدَّ لَها مِن قِبْلَةٍ، فَلَوْ كانَتْ قِبْلَةُ شِيثٍ وإدْرِيسَ ونُوحٍ عَلَيْهِمُ السَّلامُ مَوْضِعًا آخَرَ سِوى القِبْلَةِ لَبَطَلَ قَوْلُهُ: ﴿إنَّ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ فَوَجَبَ أنْ يُقالَ: إنَّ قِبْلَةَ أُولَئِكَ الأنْبِياءِ المُتَقَدِّمِينَ هي الكَعْبَةُ، فَدَلَّ هَذا عَلى أنَّ هَذِهِ الجِهَةَ كانَتْ أبَدًا مُشَرَّفَةً مُكَرَّمَةً. الثّانِي: أنَّ اللَّهَ تَعالى سَمّى مَكَّةَ أُمَّ القُرى، وظاهِرُ هَذا يَقْتَضِي أنَّها كانَتْ سابِقَةً عَلى سائِرِ البِقاعِ في الفَضْلِ والشَّرَفِ مُنْذُ كانَتْ مَوْجُودَةً. الثّالِثُ: رُوِيَ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ في خُطْبَتِهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: ”ألا إنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ والشَّمْسَ والقَمَرَ» “ وتَحْرِيمُ مَكَّةَ لا يُمْكِنُ إلّا بَعْدَ وُجُودِ مَكَّةَ. الرّابِعُ: أنَّ الآثارَ الَّتِي حَكَيْناها عَنِ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ دالَّةٌ عَلى أنَّها كانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ زَمانِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ. واعْلَمْ أنَّ لِمَن أنْكَرَ ذَلِكَ أنْ يَحْتَجَّ بِوُجُوهٍ. الأوَّلُ: ما رُوِيَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: ”«اللَّهُمَّ إنِّي حَرَّمْتُ المَدِينَةَ كَما حَرَّمَ إبْراهِيمُ مَكَّةَ» “ وظاهِرُ هَذا يَقْتَضِي أنَّ مَكَّةَ بِناءُ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: لا يَبْعُدُ أنْ يُقالَ البَيْتُ كانَ مَوْجُودًا قَبْلَ إبْراهِيمَ وما كانَ مُحَرَّمًا ثُمَّ حَرَّمَهُ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ. الثّانِي: تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذْ يَرْفَعُ إبْراهِيمُ القَواعِدَ مِنَ البَيْتِ وإسْماعِيلُ﴾ [البقرة: ١٢٧]، ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: لَعَلَّ البَيْتَ كانَ مَوْجُودًا قَبْلَ ذَلِكَ ثُمَّ انْهَدَمَ، ثُمَّ أمَرَ اللَّهُ إبْراهِيمَ بِرَفْعِ قَواعِدِهِ وهَذا هو الوارِدُ في أكْثَرِ الأخْبارِ. الثّالِثُ: قالَ القاضِي: إنَّ الَّذِي يُقالُ مِن أنَّهُ رُفِعَ زَمانَ الطُّوفانِ إلى السَّماءِ بَعِيدٌ، وذَلِكَ لِأنَّ المَوْضِعَ الشَّرِيفَ هو تِلْكَ الجِهَةُ المُعَيَّنَةُ، والجِهَةُ لا يُمْكِنُ رَفْعُها إلى السَّماءِ ألا تَرى أنَّ الكَعْبَةَ والعِياذُ بِاللَّهِ تَعالى لَوِ انْهَدَمَتْ ونُقِلَ الأحْجارُ والخَشَبُ والتُّرابُ إلى مَوْضِعٍ آخَرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرَفٌ ألْبَتَّةَ، ويَكُونُ شَرَفُ تِلْكَ الجِهَةِ باقِيًا بَعْدَ الِانْهِدامِ، ويَجِبُ عَلى كُلِّ مُسْلِمٍ أنْ يُصَلِّيَ إلى تِلْكَ الجِهَةِ بِعَيْنِها، وإذا كانَ كَذَلِكَ فَلا فائِدَةَ في نَقْلِ تِلْكَ الجُدْرانِ إلى السَّماءِ ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: لَمّا صارَتْ تِلْكَ الأجْسامُ في العِزَّةِ إلى حَيْثُ أمَرَ اللَّهُ بِنَقْلِها إلى السَّماءِ، وإنَّما حَصَلَتْ لَها هَذِهِ العِزَّةُ بِسَبَبِ أنَّها كانَتْ حاصِلَةً في تِلْكَ الجِهَةِ، فَصارَ نَقْلُها إلى السَّماءِ مِن أعْظَمِ الدَّلائِلِ عَلى غايَةِ تَعْظِيمِ تِلْكَ الجِهَةِ وإعْزازِها، فَهَذا جُمْلَةُ ما في هَذا القَوْلِ: القَوْلُ الثّانِي: أنَّ المُرادَ مِن هَذِهِ الأوَّلِيَّةِ كَوْنُ هَذا البَيْتِ أوَّلًا في كَوْنِهِ مُبارَكًا وهُدًى لِلْخَلْقِ. رُوِيَ «أنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ سُئِلَ عَنْ أوَّلِ مَسْجِدٍ وُضِعَ لِلنّاسِ، فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”المَسْجِدُ الحَرامُ ثُمَّ بَيْتُ المَقْدِسِ“ فَقِيلَ: كَمْ بَيْنَهُما ؟ قالَ: ”أرْبَعُونَ سَنَةً» “ وعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ رَجُلًا قالَ لَهُ: أهُوَ أوَّلُ بَيْتٍ ؟ قالَ: لا، قَدْ كانَ قَبْلَهُ بُيُوتٌ ولَكِنَّهُ أوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ مُبارَكًا فِيهِ الهُدى والرَّحْمَةُ والبَرَكَةُ، أوَّلُ مَن بَناهُ إبْراهِيمُ، (p-١٢٧)ثُمَّ بَناهُ قَوْمٌ مِنَ العَرَبِ مِن جُرْهُمٍ، ثُمَّ هُدِمَ فَبَناهُ العَمالِقَةُ، وهم مُلُوكٌ مِن أوْلادِ عِمْلِيقِ بْنِ سامِ بْنِ نُوحٍ، ثُمَّ هُدِمَ فَبَناهُ قُرَيْشٌ. واعْلَمْ أنَّ دَلالَةَ الآيَةِ عَلى الأوَّلِيَّةِ في الفَضْلِ والشَّرَفِ أمْرٌ لا بُدَّ مِنهُ، لِأنَّ المَقْصُودَ الأصْلِيَّ مِن ذِكْرِ هَذِهِ الأوَّلِيَّةِ بَيانُ الفَضِيلَةِ، لِأنَّ المَقْصُودَ تَرْجِيحُهُ عَلى بَيْتِ المَقْدِسِ، وهَذا إنَّما يَتِمُّ بِالأوَّلِيَّةِ في الفَضِيلَةِ والشَّرَفِ، ولا تَأْثِيرَ لِلْأوَّلِيَّةِ في البِناءِ في هَذا المَقْصُودِ، إلّا أنَّ ثُبُوتَ الأوَّلِيَّةِ بِسَبَبِ الفَضِيلَةِ لا يُنافِي ثُبُوتَ الأوَّلِيَّةِ في البِناءِ، وقَدْ دَلَّلْنا عَلى ثُبُوتِ هَذا المَعْنى أيْضًا. * * * المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: إذا ثَبَتَ أنَّ المُرادَ مِن هَذِهِ الأوَّلِيَّةِ زِيادَةُ الفَضِيلَةِ والمَنقَبَةِ فَلْنَذْكُرْ هاهُنا وُجُوهَ فَضِيلَةِ البَيْتِ: الفَضِيلَةُ الأُولى: اتَّفَقَتِ الأُمَمُ عَلى أنَّ بانِيَ هَذا البَيْتِ هو الخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، وبانِيَ بَيْتِ المَقْدِسِ سُلَيْمانُ عَلَيْهِ السَّلامُ، ولا شَكَّ أنَّ الخَلِيلَ أعْظَمُ دَرَجَةً وأكْثَرُ مَنقَبَةً مِن سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَمِن هَذا الوَجْهِ يَجِبُ أنْ تَكُونَ الكَعْبَةُ أشْرَفَ مِن بَيْتِ المَقْدِسِ. واعْلَمْ أنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَ الخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِعِمارَةِ هَذا البَيْتِ، فَقالَ: ﴿وإذْ بَوَّأْنا لِإبْراهِيمَ مَكانَ البَيْتِ أنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ والقائِمِينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [الحج: ٢٦]، والمُبَلِّغُ لِهَذا التَّكْلِيفِ هو جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَلِهَذا قِيلَ: لَيْسَ في العالَمِ بِناءٌ أشْرَفَ مِنَ الكَعْبَةِ، فالآمِرُ هو المَلِكُ الجَلِيلُ والمُهَنْدِسُ هو جِبْرِيلُ، والبانِي هو الخَلِيلُ، والتِّلْمِيذُ إسْماعِيلُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ. الفَضِيلَةُ الثّانِيَةُ: ﴿مَقامُ إبْراهِيمَ﴾ وهو الحَجَرُ الَّذِي وضَعَ إبْراهِيمُ قَدَمَهُ عَلَيْهِ فَجَعَلَ اللَّهُ ما تَحْتَ قَدَمِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِن ذَلِكَ الحَجَرِ دُونَ سائِرِ أجْزائِهِ كالطِّينِ حَتّى غاصَ فِيهِ قَدَمُ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وهَذا مِمّا لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلّا اللَّهُ ولا يُظْهِرُهُ إلّا عَلى الأنْبِياءِ، ثُمَّ لَمّا رَفَعَ إبْراهِيمُ قَدَمَهُ عَنْهُ خَلَقَ فِيهِ الصَّلابَةَ الحَجَرِيَّةَ مَرَّةً أُخْرى، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أبْقى ذَلِكَ الحَجَرَ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِمْرارِ والدَّوامِ، فَهَذِهِ أنْواعٌ مِنَ الآياتِ العَجِيبَةِ والمُعْجِزاتِ الباهِرَةِ أظْهَرَها اللَّهُ سُبْحانَهُ في ذَلِكَ الحَجَرِ. الفَضِيلَةُ الثّالِثَةُ: قِلَّةُ ما يَجْتَمِعُ فِيهِ مِن حَصى الجِمارِ، فَإنَّهُ مُنْذُ ألْفِ سَنَةٍ وقَدْ يَبْلُغُ مَن يَرْمِي في كُلِّ سَنَةٍ سِتَّمِائَةِ ألْفِ إنْسانٍ، كُلُّ واحِدٍ مِنهم سَبْعِينَ حَصاةٍ، ثُمَّ لا يُرى هُناكَ إلّا ما لَوِ اجْتَمَعَ في سَنَةٍ واحِدَةٍ لَكانَ غَيْرَ كَثِيرٍ، ولَيْسَ المَوْضِعُ الَّذِي تُرْمى إلَيْهِ الجَمَراتُ مَسِيلَ ماءٍ ولا مَهَبَّ رِياحٍ شَدِيدَةٍ، وقَدْ جاءَ في الآثارِ أنَّ مَن كانَتْ حَجَّتُهُ مَقْبُولَةً رُفِعَتْ حِجارَةُ جَمَراتِهِ إلى السَّماءِ. الفَضِيلَةُ الرّابِعَةُ: أنَّ الطُّيُورَ تَتْرُكُ المُرُورَ فَوْقَ الكَعْبَةِ عِنْدَ طَيَرانِها في الهَواءِ بَلْ تَنْحَرِفُ عَنْها إذا ما وصَلَتْ إلى فَوْقِها. الفَضِيلَةُ الخامِسَةُ: أنَّ عِنْدَهُ يَجْتَمِعُ الوَحْشُ لا يُؤْذِي بَعْضُها بَعْضًا كالكِلابِ والظِّباءِ، ولا يُصْطادُ فِيهِ الكِلابُ والوُحُوشُ وتِلْكَ خاصِّيَّةٌ عَجِيبَةٌ، وأيْضًا كُلُّ مَن سَكَنَ مَكَّةَ أمِنَ مِنَ النَّهْبِ والغارَةِ وهو بَرَكَةُ دُعاءِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ حَيْثُ قالَ: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذا بَلَدًا آمِنًا﴾ [البقرة: ١٢٦] وقالَ تَعالى في صِفَةِ أمْنِهِ: ﴿أوَلَمْ يَرَوْا أنّا جَعَلْنا حَرَمًا آمِنًا ويُتَخَطَّفُ النّاسُ مِن حَوْلِهِمْ﴾ [العنكبوت: ٦٧] وقالَ: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذا البَيْتِ﴾ ﴿الَّذِي أطْعَمَهم مِن جُوعٍ وآمَنَهم مِن خَوْفٍ﴾ [قريش: ٤] (p-١٢٨)ولَمْ يُنْقَلْ ألْبَتَّةَ أنَّ ظالِمًا هَدَمَ الكَعْبَةَ وخَرَّبَ مَكَّةَ بِالكُلِّيَّةِ؛ وأمّا بَيْتُ المَقْدِسِ فَقَدْ هَدَمَهُ بُخْتُنَصَّرُ بِالكُلِّيَّةِ. الفَضِيلَةُ السّادِسَةُ: أنَّ صاحِبَ الفِيلِ وهو أبَرْهَةُ الأشْرَمُ لَمّا قادَ الجُيُوشَ والفِيلَ إلى مَكَّةَ لِتَخْرِيبِ الكَعْبَةِ وعَجَزَ قُرَيْشٌ عَنْ مُقاوَمَةِ أُولَئِكَ الجُيُوشِ وفارَقُوا مَكَّةَ وتَرَكُوا لَهُ الكَعْبَةَ فَأرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أبابِيلَ، والأبابِيلُ هُمُ الجَماعَةُ مِنَ الطَّيْرِ بَعْدَ الجَماعَةِ، وكانَتْ صِغارًا تَحْمِلُ أحْجارًا تَرْمِيهِمْ بِها فَهَلَكَ المَلِكُ وهَلَكَ العَسْكَرُ بِتِلْكَ الأحْجارِ مَعَ أنَّها كانَتْ في غايَةِ الصِّغَرِ، وهَذِهِ آيَةٌ باهِرَةٌ دالَّةٌ عَلى شَرَفِ الكَعْبَةِ وإرْهاصٌ لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. فَإنْ قالَ قائِلٌ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ إنَّ كُلَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ طِلَسْمٍ مَوْضُوعٍ هُناكَ بِحَيْثُ لا يَعْرِفُهُ أحَدٌ فَإنَّ الأمْرَ في تَرْكِيبِ الطَّلْسَماتِ مَشْهُورٌ. قُلْنا: لَوْ كانَ هَذا مِن بابِ الطَّلْسَماتِ لَكانَ هَذا طَلْسَمًا مُخالِفًا لِسائِرِ الطَّلْسَماتِ فَإنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لِشَيْءٍ سِوى الكَعْبَةِ مِثْلُ هَذا البَقاءِ الطَّوِيلِ في هَذِهِ المُدَّةِ العَظِيمَةِ، ومِثْلُ هَذا يَكُونُ مِنَ المُعْجِزاتِ، فَلا يَتَمَكَّنُ مِنها سِوى الأنْبِياءِ. الفَضِيلَةُ السّابِعَةُ: إنَّ اللَّهَ تَعالى وضَعَها بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ. والحِكْمَةُ مِن وُجُوهٍ، أحَدُها: أنَّهُ تَعالى قَطَعَ بِذَلِكَ رَجاءَ أهْلِ حَرَمِهِ وسَدَنَةِ بَيْتِهِ عَمَّنْ سِواهُ حَتّى لا يَتَوَكَّلُوا إلّا عَلى اللَّهِ. وثانِيها: أنَّهُ لا يَسْكُنُها أحَدٌ مِنَ الجَبابِرَةِ والأكاسِرَةِ فَإنَّهم يُرِيدُونَ طَيِّباتِ الدُّنْيا فَإذا لَمْ يَجِدُوها هُناكَ تَرَكُوا ذَلِكَ المَوْضِعَ، فالمَقْصُودُ تَنْزِيهُ ذَلِكَ المَوْضِعِ عَنْ لَوْثِ وُجُودِ أهْلِ الدُّنْيا. وثالِثُها: أنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِئَلّا يَقْصِدَها أحَدٌ لِلتِّجارَةِ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ لِمَحْضِ العِبادَةِ والزِّيارَةِ فَقَطْ. ورابِعُها: أظْهَرَ اللَّهُ تَعالى بِذَلِكَ شَرَفَ الفَقْرِ حَيْثُ وضَعَ أشْرَفَ البُيُوتِ في أقَلِّ المَواضِعِ نَصِيبًا مِنَ الدُّنْيا، فَكَأنَّهُ قالَ: جَعَلْتُ الفُقَراءَ في الدُّنْيا أهْلَ البَلَدِ الأمِينِ، فَكَذَلِكَ أجْعَلُهم في الآخِرَةِ أهْلَ المَقامِ الأمِينِ، لَهم في الدُّنْيا بَيْتُ الأمْنِ وفي الآخِرَةِ دارُ الأمْنِ. وخامِسُها: كَأنَّهُ قالَ: لَمّا لَمْ أجْعَلِ الكَعْبَةَ إلّا في مَوْضِعٍ خالٍ عَنْ جَمِيعِ نِعَمِ الدُّنْيا فَكَذا لا أجْعَلُ كَعْبَةَ المَعْرِفَةِ إلّا في كُلِّ قَلْبٍ خالٍ عَنْ مَحَبَّةِ الدُّنْيا، فَهَذا ما يَتَعَلَّقُ بِفَضائِلِ الكَعْبَةِ، وعِنْدَ هَذا ظَهَرَ أنَّ هَذا البَيْتَ أوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ في أنْواعِ الفَضائِلِ والمَناقِبِ، وإذا ظَهَرَ هَذا بَطَلَ قَوْلُ اليَهُودِ: إنَّ بَيْتَ المَقْدِسِ أشْرَفُ مِنَ الكَعْبَةِ، واللَّهُ أعْلَمُ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: لا شَكَّ أنَّ المُرادَ مِن (بَكَّةَ) هو مَكَّةُ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَمِنهم مَن قالَ: بَكَّةُ ومَكَّةُ اسْمانِ لِمُسَمًّى واحِدٍ، فَإنَّ الباءَ والمِيمَ حَرْفانِ مُتَقارِبانِ في المَخْرَجِ فَيُقامُ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما مَقامَ الآخَرِ فَيُقالُ: هَذِهِ ضَرْبَةُ لازِمٍ، وضَرْبَةُ لازِبٍ، ويُقالُ: هَذا دائِمٌ ودائِبٌ، ويُقالُ: راتِبٌ وراتِمٌ، ويُقالُ: سَمَدَ رَأْسَهَ، وسَبَدَهُ، وفي اشْتِقاقِ بَكَّةَ وجْهانِ. الأوَّلُ: أنَّهُ مِنَ البَكِّ الَّذِي هو عِبارَةٌ عَنْ دَفْعِ البَعْضِ بَعْضًا، يُقالُ: بَكَّهُ يَبُكُّهُ بَكًّا إذا دَفَعَهُ وزَحَمَهُ، وتَباكَّ القَوْمُ إذا ازْدَحَمُوا فَلِهَذا قالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: سُمِّيَتْ مَكَّةُ بَكَّةَ لِأنَّهم يَتَباكُّونَ فِيها أيْ يَزْدَحِمُونَ في الطَّوافِ، وهو قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الباقِرِ ومُجاهِدٍ وقَتادَةَ، قالَ بَعْضُهم: رَأيْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ الباقِرَ يُصَلِّي فَمَرَّتِ امْرَأةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ فَذَهَبْتُ أدْفَعُها فَقالَ: دَعْها فَإنَّها سُمِّيَتْ بَكَّةَ لِأنَّهُ يَبُكُّ بَعْضُهم بَعْضًا، تَمُرُّ المَرْأةُ بَيْنَ (p-١٢٩)يَدَيِ الرَّجُلِ وهو يُصَلِّي، والرَّجُلُ بَيْنَ يَدَيِ المَرْأةِ وهي تُصَلِّي لا بَأْسَ بِذَلِكَ في هَذا المَكانِ. الوَجْهُ الثّانِي: سُمِّيَتْ بَكَّةَ لِأنَّها تَبُكُّ أعْناقَ الجَبابِرَةِ لا يُرِيدُها جَبّارٌ بِسُوءٍ إلّا انْدَقَّتْ عُنُقُهُ قالَ قُطْرُبٌ: تَقُولُ العَرَبُ بَكَكْتُ عُنُقَهُ أبُكُّهُ بَكًّا إذا وضَعْتَ مِنهُ ورَدَدْتَ نَخْوَتَهُ. وأمّا مَكَّةُ فَفي اشْتِقاقِها وُجُوهٌ. الأوَّلُ: أنَّ اشْتِقاقَها مِن أنَّها تَمُكُّ الذُّنُوبَ أيْ تُزِيلُها كُلَّها، مِن قَوْلِكَ: امْتَكَّ الفَصِيلُ ضَرْعَ أُمِّهِ، إذا امْتَصَّ ما فِيهِ. الثّانِي: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاجْتِلابِها النّاسَ مِن كُلِّ جانِبٍ مِنَ الأرْضِ، يُقالُ امْتَكَّ الفَصِيلُ، إذا اسْتَقْصى ما في الضَّرْعِ، ويُقالُ تَمَكَّكْتُ العَظْمَ، إذا اسْتَقْصَيْتَ ما فِيهِ. الثّالِثُ: سُمِّيَتْ مَكَّةَ، لِقِلَّةِ مائِها، كَأنَّ أرْضَها امْتَكَّتْ ماءَها. الرّابِعُ: قِيلَ: إنَّ مَكَّةَ وسَطَ الأرْضِ، والعُيُونُ والمِياهُ تَنْبُعُ مِن تَحْتِ مَكَّةَ، فالأرْضُ كُلُّها تَمُكُّ مِن ماءِ مَكَّةَ، ومِنَ النّاسِ مَن فَرَّقَ بَيْنَ مَكَّةَ وبَكَّةَ، فَقالَ بَعْضُهم: إنَّ بَكَّةَ اسْمٌ لِلْمَسْجِدِ خاصَّةً، وأمّا مَكَّةُ، فَهو اسْمٌ لِكُلِّ البَلَدِ، قالُوا: والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ اشْتِقاقَ بَكَّةَ مِنَ الِازْدِحامِ والمُدافَعَةِ، وهَذا إنَّما يَحْصُلُ في المَسْجِدِ عِنْدَ الطَّوافِ، لا في سائِرِ المَواضِعِ، وقالَ الأكْثَرُونَ: مَكَّةُ اسْمٌ لِلْمَسْجِدِ والمَطافِ. وبَكَّةُ اسْمُ البَلَدِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ البَيْتَ حاصِلٌ في بَكَّةَ ومَظْرُوفٌ في بَكَّةَ فَلَوْ كانَ بَكَّةُ اسْمًا لِلْبَيْتِ لَبَطَلَ كَوْنُ بَكَّةَ ظَرْفًا لِلْبَيْتِ، أمّا إذا جَعَلْنا بَكَّةَ اسْمًا لِلْبَلَدِ، اسْتَقامَ هَذا الكَلامُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: لِمَكَّةَ أسْماءٌ كَثِيرَةٌ، قالَ القَفّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ في ”تَفْسِيرِهِ“: مَكَّةُ وبَكَّةُ وأُمُّ رَحِمٍ وكُوَيْساءُ والبَشاشَةُ والحاطِمَةُ تَحْطِمُ مَنِ اسْتَخَفَّ بِها، وأُمُّ القُرى قالَ تَعالى: ﴿لِتُنْذِرَ أُمَّ القُرى ومَن حَوْلَها﴾ [الشورى: ٧] وسُمِّيَتْ بِهَذا الِاسْمِ لِأنَّها أصْلُ كُلِّ بَلْدَةٍ ومِنها دُحِيَتِ الأرْضُ، ولِهَذا المَعْنى يُزارُ ذَلِكَ المَوْضِعُ مِن جَمِيعِ نَواحِي الأرْضِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: لِلْكَعْبَةِ أسْماءٌ. أحَدُها: الكَعْبَةُ قالَ تَعالى: ﴿جَعَلَ اللَّهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرامَ﴾ [المائدة: ٩٧] والسَّبَبُ فِيهِ أنَّ هَذا الِاسْمَ يَدُلُّ عَلى الإشْرافِ والِارْتِفاعِ، وسُمِّيَ الكَعْبُ كَعْبًا لِإشْرافِهِ وارْتِفاعِهِ عَلى الرُّسْغِ، وسُمِّيَتِ المَرْأةُ النّاهِدَةُ الثَّدْيَيْنِ كاعِبًا لِارْتِفاعِ ثَدْيَيْها، فَلَمّا كانَ هَذا البَيْتُ أشْرَفَ بُيُوتِ الأرْضِ وأقْدَمَها زَمانًا وأكْثَرَها فَضِيلَةً سُمِّيَ بِهَذا الِاسْمِ. وثانِيها: البَيْتُ العَتِيقُ: قالَ تَعالى: ﴿ثُمَّ مَحِلُّها إلى البَيْتِ العَتِيقِ﴾ [الحج: ٣٣]، وقالَ: ﴿ولْيَطَّوَّفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ﴾ [الحج: ٢٩] وفي اشْتِقاقِهِ وُجُوهٌ. الأوَّلُ: العَتِيقُ هو القَدِيمُ، وقَدْ بَيَّنّا أنَّهُ أقْدَمُ بُيُوتِ الأرْضِ بَلْ عِنْدَ بَعْضِهِمْ أنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ قَبْلَ الأرْضِ والسَّماءِ. والثّانِي: أنَّ اللَّهَ أعْتَقَهُ مِنَ الغَرَقِ حَيْثُ رَفَعَهُ إلى السَّماءِ. الثّالِثُ: مِن عَتِقَ الطّائِرُ إذا قَوِيَ في وكْرِهِ، فَلَمّا بَلَغَ في القُوَّةِ إلى حَيْثُ أنَّ كُلَّ مَن قَصَدَ تَخْرِيبَهُ أهْلَكَهُ اللَّهُ سُمِّيَ عَتِيقًا. الرّابِعُ: أنَّ اللَّهَ أعْتَقَهُ مِن أنْ يَكُونَ مِلْكًا لِأحَدٍ مِنَ المَخْلُوقِينَ. الخامِسُ: أنَّهُ عَتِيقٌ بِمَعْنى أنَّ كُلَّ مَن زارَهُ أعْتَقَهُ اللَّهُ تَعالى مِنَ النّارِ. وسادِسُها: المَسْجِدُ الحَرامُ قالَ سُبْحانَهُ: ﴿سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ إلى المَسْجِدِ الأقْصى﴾ [الإسراء: ١] والمُرادُ مِن كَوْنِهِ حَرامًا سَيَجِيءُ إنْ شاءَ اللَّهُ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ. فَإنْ قالَ قائِلٌ: كَيْفَ الجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿إنَّ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ﴾ وبَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿وطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ﴾ [الحج: ٢٦] فَأضافَهُ مَرَّةً إلى نَفْسِهِ ومَرَّةً إلى النّاسِ. (p-١٣٠)والجَوابُ: كَأنَّهُ قِيلَ: البَيْتُ لِي ولَكِنْ وضَعْتُهُ لا لِأجْلِ مَنفَعَتِي فَإنِّي مُنَزَّهٌ عَنِ الحاجَةِ ولَكِنْ وضَعْتُهُ لَكَ لِيَكُونَ قِبْلَةً لِدُعائِكَ واللَّهُ أعْلَمُ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿مُبارَكًا وهُدًى لِلْعالَمِينَ﴾ . واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى وصَفَ هَذا البَيْتَ بِأنْواعِ الفَضائِلِ. فَأوَّلُها: أنَّهُ أوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ، وقَدْ ذَكَرْنا مَعْنى كَوْنِهِ أوَّلًا في الفَضْلِ ونَزِيدُ هاهُنا وُجُوهًا أُخَرَ. الأوَّلُ: قالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، هو أوَّلُ بَيْتٍ خُصَّ بِالبَرَكَةِ، وبِأنَّ مَن دَخَلَهُ كانَ آمِنًا، وقالَ الحَسَنُ: هو أوَّلُ مَسْجِدٍ عُبِدَ اللَّهُ فِيهِ في الأرْضِ، وقالَ مُطَرِّفٌ: أوَّلُ بَيْتٍ جُعِلَ قِبْلَةً. وثانِيها: أنَّهُ تَعالى وصَفَهُ بِكَوْنِهِ مُبارَكًا، وفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: انْتَصَبَ (مُبارَكًا) عَلى الحالِ والتَّقْدِيرُ الَّذِي اسْتَقَرَّ هو بِبَكَّةَ مُبارَكًا. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: البَرَكَةُ لَها مَعْنَيانِ. أحَدُهُما: النُّمُوُّ والتَّزايُدُ. والثّانِي: البَقاءُ والدَّوامُ، يُقالُ تَبارَكَ اللَّهُ، لِثُبُوتِهِ لَمْ يَزُلْ، والبِرْكَةُ شِبْهُ الحَوْضِ لِثُبُوتِ الماءِ فِيها، وبَرَكَ البَعِيرُ إذا وضَعَ صَدْرَهُ عَلى الأرْضِ وثَبَتَ واسْتَقَرَّ، فَإنْ فَسَّرْنا البَرَكَةَ بِالتَّزايُدِ والنُّمُوِّ فَهَذا البَيْتُ مُبارَكٌ مِن وُجُوهٍ. أحَدُها: أنَّ الطّاعاتِ إذا أُتِيَ بِها في هَذا البَيْتِ ازْدادَ ثَوابُها. قالَ ﷺ: ”«فَضْلُ المَسْجِدِ الحَرامِ عَلى مَسْجِدِي، كَفَضْلِ مَسْجِدِي عَلى سائِرِ المَساجِدِ» “ ثُمَّ قالَ ﷺ: «صَلاةٌ في مَسْجِدِي هَذا أفْضَلُ مِن ألْفِ صَلاةٍ فِيما سِواهُ» ”فَهَذا في الصَّلاةِ، وأمّا الحَجُّ، فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ:“ «مَن حَجَّ ولَمْ يَرْفُثْ ولَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِن ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ ولَدَتْهُ أُمُّهُ» ”وفي حَدِيثٍ آخَرَ“ «الحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزاءٌ إلّا الجَنَّةَ» " ومَعْلُومٌ أنَّهُ لا أكْثَرُ بَرَكَةً مِمّا يَجْلِبُ المَغْفِرَةَ والرَّحْمَةَ. وثانِيها: قالَ القَفّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ بَرَكَتُهُ ما ذُكِرَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يُجْبى إلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: ﴿إلى المَسْجِدِ الأقْصى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ﴾ [الإسراء: ١] . وثالِثُها: أنَّ العاقِلَ يَجِبُ أنْ يَسْتَحْضِرَ في ذِهْنِهِ أنَّ الكَعْبَةَ كالنُّقْطَةِ ولْيَتَصَوَّرْ أنَّ صُفُوفَ المُتَوَجِّهِينَ إلَيْها في الصَّلَواتِ كالدَّوائِرِ المُحِيطَةِ بِالمَرْكَزِ، ولْيَتَأمَّلْ كَمْ عَدَدُ الصُّفُوفِ المُحِيطَةِ بِهَذِهِ الدّائِرَةِ حالَ اشْتِغالِهِمْ بِالصَّلاةِ، ولا شَكَّ أنَّهُ يَحْصُلُ فِيما بَيْنَ هَؤُلاءِ المُصَلِّينَ أشْخاصٌ أرْواحُهم عُلْوِيَّةٌ، وقُلُوبُهم قُدْسِيَّةٌ وأسْرارُهم نُورانِيَّةٌ وضَمائِرُهم رَبّانِيَّةٌ ثُمَّ إنَّ تِلْكَ الأرْواحَ الصّافِيَةَ إذا تَوَجَّهَتْ إلى كَعْبَةِ المَعْرِفَةِ وأجْسادُهم تَوَجَّهَتْ إلى هَذِهِ الكَعْبَةِ الحِسِّيَّةِ، فَمَن كانَ في الكَعْبَةِ يَتَّصِلُ أنْوارُ أرْواحِ أُولَئِكَ المُتَوَجِّهِينَ بِنُورِ رُوحِهِ فَتَزْدادُ الأنْوارُ الإلَهِيَّةُ في قَلْبِهِ، ويَعْظُمُ لَمَعانُ الأضْواءِ الرُّوحانِيَّةِ في سِرِّهِ، وهَذا بَحْرٌ عَظِيمٌ ومَقامٌ شَرِيفٌ، وهو يُنَبِّهُكَ عَلى مَعْنى كَوْنِهِ مُبارَكًا. وأمّا إنْ فَسَّرْنا البَرَكَةَ بِالدَّوامِ فَهو أيْضًا كَذَلِكَ لِأنَّهُ لا تَنْفَكُّ الكَعْبَةُ مِنَ الطّائِفِينَ والعاكِفِينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ، وأيْضًا الأرْضُ كُرَةٌ، وإذا كانَ كَذَلِكَ فَكُلُّ وقْتٍ يُمْكِنُ أنْ يُفْرَضَ فَهو صُبْحٌ لِقَوْمٍ، وظُهْرٌ لِثانٍ وعَصْرٌ لِثالِثٍ، ومَغْرِبٌ لِرابِعٍ وعِشاءٌ لِخامِسٍ، ومَتى كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ لَمْ تَكُنِ الكَعْبَةُ مُنْفَكَّةً قَطُّ عَنْ تَوَجُّهِ قَوْمٍ إلَيْها مِن طَرَفٍ مِن أطْرافِ العالَمِ لِأداءِ فَرْضِ الصَّلاةِ، فَكانَ الدَّوامُ حاصِلًا مِن هَذِهِ الجِهَةِ، وأيْضًا بَقاءُ الكَعْبَةِ عَلى هَذِهِ الحالَةِ أُلُوفًا مِنَ السِّنِينَ دَوامٌ أيْضًا فَثَبَتَ كَوْنُهُ مُبارَكًا مِنَ الوَجْهَيْنِ. الصِّفَةُ الثّالِثَةُ: مِن صِفاتِ هَذا البَيْتِ كَوْنُهُ ﴿وهُدًى لِلْعالَمِينَ﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: قِيلَ: المَعْنى أنَّهُ قِبْلَةٌ لِلْعالَمِينَ يَهْتَدُونَ بِهِ إلى جِهَةِ صَلاتِهِمْ، وقِيلَ: هُدًى لِلْعالَمِينَ (p-١٣١)أيْ دَلالَةً عَلى وُجُودِ الصّانِعِ المُخْتارِ وصِدْقِ مُحَمَّدٍ ﷺ في النُّبُوَّةِ بِما فِيهِ مِنَ الآياتِ الَّتِي ذَكَرْناها والعَجائِبِ الَّتِي حَكَيْناها، فَإنَّ كُلَّ ما يَدُلُّ عَلى النُّبُوَّةِ فَهو بِعَيْنِهِ يَدُلُّ أوَّلًا عَلى وُجُودِ الصّانِعِ، وجَمِيعِ صِفاتِهِ مِنَ العِلْمِ والقُدْرَةِ والحِكْمَةِ والِاسْتِغْناءِ، وقِيلَ: هُدًى لِلْعالَمِينَ إلى الجَنَّةِ لِأنَّ مَن أدّى الصَّلَواتِ الواجِبَةَ إلَيْها اسْتَوْجَبَ الجَنَّةَ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ الزَّجّاجُ: المَعْنى وذا هُدًى لِلْعالَمِينَ، قالَ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ (وهُدًى) في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى مَعْنى وهو هُدًى. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ﴾ فَفِيهِ قَوْلانِ. الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ ما ذَكَرْناهُ مِنَ الآياتِ الَّتِي فِيهِ وهي: أمْنُ الخائِفِ، وانْمِحاقُ الجِمارِ عَلى كَثْرَةِ الرَّمْيِ، وامْتِناعُ الطَّيْرِ مِنَ العُلُوِّ عَلَيْهِ واسْتِشْفاءُ المَرِيضِ بِهِ وتَعْجِيلُ العُقُوبَةِ لِمَنِ انْتَهَكَ فِيهِ حُرْمَةً، وإهْلاكُ أصْحابِ الفِيلِ لَمّا قَصَدُوا تَخْرِيبَهُ، فَعَلى هَذا تَفْسِيرُ الآياتِ وبَيانُها غَيْرُ مَذْكُورٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب