الباحث القرآني

﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ والطَّيْرُ صافّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وتَسْبِيحَهُ واللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ﴾ أعْقَبَ تَمْثِيلَ ضَلالِ أهْلِ الضَّلالَةِ وكَيْفَ حَرَمَهُمُ اللَّهُ الهُدى في قَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا أعْمالُهم كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ﴾ [النور: ٣٩] إلى قَوْلِهِ: ﴿ومَن لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَما لَهُ مِن نُورٍ﴾ [النور: ٤٠] (p-٢٥٨)بِطَلَبِ النَّظَرِ والِاعْتِبارِ كَيْفَ هَدى اللَّهُ تَعالى كَثِيرًا مِن أهْلِ السَّماواتِ والأرْضِ إلى تَنْزِيهِ اللَّهِ المُقْتَضِي الإيمانَ بِهِ وحْدَهُ، وبِما ألْهَمَ الطَّيْرَ إلى أصْواتِها المُعْرِبَةِ عَنْ بَهْجَتِها بِنِعْمَةِ وجُودِها ورِزْقِها النّاشِئَيْنِ عَنْ إمْدادِ اللَّهِ إيّاها بِهِما فَكانَتْ أصْواتُها دَلائِلَ حالٍ عَلى تَسْبِيحِ اللَّهِ وتَنْزِيهِهِ عَنِ الشَّرِيكِ، فَأصْواتُها تَسْبِيحٌ بِلِسانِ الحالِ. والجُمْلَةُ اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيٌّ ومُناسَبَتُهُ ما عَلِمْتَ. وجُمْلَةُ ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وتَسْبِيحَهُ﴾ اسْتِئْنافٌ ثانٍ وهو مِن تَمامِ العِبْرَةِ إذْ أوْدَعَ اللَّهُ في جَمِيعِ أُولَئِكَ ما بِهِ مُلازَمَتُهم لِما فُطِرُوا عَلَيْهِ مِن تَعْظِيمِ اللَّهِ وتَنْزِيهِهِ. فَتَسْبِيحُ العُقَلاءِ حَقِيقَةٌ. وتَسْبِيحُ الطَّيْرِ مَجازٌ مُرْسَلٌ في الدَّلالَةِ عَلى التَّنْزِيهِ. وفِيهِ اسْتِعْمالُ لَفْظِ التَّسْبِيحِ في حَقِيقَتِهِ ومَجازِهِ، ولِذَلِكَ خُولِفَ بَيْنَهُما في الجُمْلَةِ الثّانِيَةِ فَعُبِّرَ بِالصَّلاةِ والتَّسْبِيحِ مُراعاةً لِاخْتِلافِ حالِ الفَرِيقَيْنِ: فَرِيقُ العُقَلاءِ، وفَرِيقُ الطَّيْرِ وإنْ جَمَعَتْهُما كَلِمَةُ (كُلٌّ)، فَأُطْلِقَ عَلى تَسْبِيحِ العُقَلاءِ اسْمُ الصَّلاةِ؛ لِأنَّهُ تَسْبِيحٌ حَقِيقِيٌّ. فالمُرادُ بِالصَّلاةِ الدُّعاءُ وهو مِن خَصائِصِ العُقَلاءِ، ولَيْسَ في أحْوالِ الطَّيْرِ اسْمُ التَّسْبِيحِ؛ لِأنَّهُ يُطْلَقُ مَجازًا عَلى الدَّلالَةِ بِالصَّوْتِ بِعَلاقَةِ الإطْلاقِ وذَلِكَ عَلى التَّوْزِيعِ؛ ولَوْلا إرادَةُ ذَلِكَ لَقِيلَ: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ تَسْبِيحَهُ، أوْ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صِلاتَهُ. والخِطابُ في قَوْلِهِ (ألَمْ تَرَ) لِلنَّبِيءِ ﷺ . والمُرادُ مَن يَبْلُغُ إلَيْهِ، أوِ الخِطابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ فَيَعُمُّ كُلَّ مُخاطَبٍ كَما هو الشَّأْنُ في أمْثالِهِ. والِاسْتِفْهامُ مُسْتَعْمَلٌ كِنايَةً عَنِ التَّعْجِيبِ مِن حالِ فَرِيقِ المُشْرِكِينَ الَّذِينَ هم مِن أصْحابِ العُقُولِ ومَعَ ذَلِكَ قَدْ حُرِمُوا الهُدى لَمّا لَمْ يَجْعَلْهُ اللَّهُ فِيهِمْ. وقَدْ جَعَلَ الهُدى في العَجْماواتِ إذْ جَبَلَها عَلى إدْراكِ أثَرِ نِعْمَةِ الوُجُودِ والرِّزْقِ. وهَذا في مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنْ هم إلّا كالأنْعامِ بَلْ هم أضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الفرقان: ٤٤] . (p-٢٥٩)والصّافّاتُ: مِن صِفاتِ الطَّيْرِ: يُرادُ بِهِ صَفُّهُنَّ أجْنِحَتَهُنَّ في الهَواءِ حِينَ الطَّيَرانِ. وتَخْصِيصُ الطَّيْرِ بِالذِّكْرِ مِن بَيْنِ المَخْلُوقاتِ لِلْمُقابَلَةِ بَيْنَ مَخْلُوقاتِ الأرْضِ والسَّماءِ بِذِكْرِ مَخْلُوقاتٍ في الجَوِّ بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ ولِذَلِكَ قُيِّدَتْ بِـ (صافّاتٍ) . وفِعْلُ (عَلِمَ) مُرادٌ بِهِ المَعْرِفَةُ لِظُهُورِ الفَرْقِ بَيْنَ عِلْمِ العُقَلاءِ بِصَلاتِهِمْ وعِلْمِ الطَّيْرِ بِتَسْبِيحِها، فَإنَّ الثّانِي مُجَرَّدُ شُعُورٍ وقَصْدٌ لِلْعَمَلِ. وضَمائِرُ ﴿عَلِمَ صَلاتَهُ وتَسْبِيحَهُ﴾ راجِعَةٌ إلى (كُلٌّ) لا مَحالَةَ. ولَوْ كانَ المُرادُ بِها التَّوْزِيعَ عَلى مَن في السَّماواتِ والأرْضِ والطَّيْرِ مِن جِهَةٍ وعَلى اسْمِ الجَلالَةِ مِن جِهَةٍ لَوَقَعَ ضَمِيرُ فَصْلٍ بَعْدَ (عَلِمَ) فَلَكانَ راجِعًا إلى اللَّهِ تَعالى. والرُّؤْيَةُ هُنا بَصَرِيَّةٌ؛ لِأنَّ تَسْبِيحَ العُقَلاءِ مَشاهَدٌ لِكُلِّ ذِي بَصَرٍ، وتَسْبِيحَ الطَّيْرِ مَشاهِدٌ بِاعْتِبارِ مُسَمّاهُ، فَما عَلى النّاظِرِ إلّا أنْ يَعْلَمَ أنَّ ذَلِكَ المُسَمّى جَدِيرٌ بِاسْمِ التَّسْبِيحِ. وعَلى هَذا الِاعْتِبارِ كانَ الِاسْتِفْهامُ الإنْكارِيُّ مَكِينَ الوَقْعِ. وإنْ شِئْتَ قُلْتَ: إنْ جُمْلَةَ (ألَمْ تَرَ) جارِيَةٌ مَجْرى الأمْثالِ في كَلامِ البُلَغاءِ، فَلا التِفاتَ فِيها إلى مَعْنى الرُّؤْيَةِ. وقِيلَ: الرُّؤْيَةُ هُنا قَلْبِيَّةٌ. وأغْنى المَصْدَرُ عَنِ المَفْعُولَيْنِ. وجُمْلَةُ ﴿واللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ﴾ تَذْيِيلٌ وهو إعْلامٌ بِسَعَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعالى الشّامِلِ لِلتَّسْبِيحِ وغَيْرِهِ مِنَ الأحْوالِ. والإتْيانُ بِضَمِيرِ جَمْعِ العُقَلاءِ تَغْلِيبٌ. وقَدْ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيارِهِمْ﴾ [البقرة: ٢٤٣] في سُورَةِ البَقَرَةِ وقَوْلِهِ: ﴿ألَمْ يَرَوْا كَمْ أهْلَكْنا مِن قَبْلِهِمْ مِن قَرْنٍ﴾ [الأنعام: ٦] في سُورَةِ الأنْعامِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب