الباحث القرآني

وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألَمْ تَرَ﴾ إلَخِ اسْتِئْنافٌ خُوطِبَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ لِلْإيذانِ بِأنَّهُ تَعالى أفاضَ عَلَيْهِ ﷺ أعْلى المَراتِبِ النُّورِ وأجْلاها وبَيَّنَ لَهُ مِن أسْرارِ المُلْكِ و المَلَكُوتِ وأدَقَّها وأخْفاها، والهَمْزَةُ لِلتَّقْرِيرِ، أيْ: قَدْ عَمِلْتَ عَمَلًا يَقِينِيًّا شَبِيهًا بِالمُشاهَدَةِ في القُوَّةِ والرَّصانَةِ بِالوَحْيِ الصَّرِيحِ والِاسْتِدْلالِ الصَّحِيحِ. ﴿أنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ﴾ أيْ: يُنَزِّهُهُ تَعالى عَلى الدَّوامِ في ذاتِهِ وصِفاتِهِ وأفْعالِهِ عَنْ كُلِّ ما لا يَلِيقُ بِشَأْنِهِ الجَلِيلِ مِن نَقْصٍ أوْ خَلَلٍ. ﴿مَن في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ أيْ: ما فِيهِما، إمّا بِطَرِيقِ الِاسْتِقْرارِ فِيهِما مِنَ العُقَلاءِ وغَيْرِهِمْ كائِنًا ما كانَ، أوْ بِطَرِيقِ الجُزْئِيَّةِ مِنهُما تَنْـزِيهًا تَفْهَمُهُ العُقُولُ السَّلِيمَةُ، فَإنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مِنَ المَوْجُوداتِ المُمْكِنَةِ مُرَكَّبًا كانَ أوْ بَسِيطًا فَهو مِن حَيْثُ ماهِيَتُهُ ووُجُودُ أحْوالِهِ يَدُلُّ عَلى وُجُودِ صانِعٍ واجِبِ الوُجُودِ مُتَّصِفٌ بِصِفاتِ الكَمالِ مُقَدَّسٌ عَنْ كُلِّ ما لا يَلِيقُ بِشَأْنٍ مِن شُئُونِهِ الجَلِيلَةِ، وقَدْ نَبَّهَ عَلى كَمالِ قُوَّةِ تِلْكَ الدَّلالَةِ وغايَةِ وُضُوحِها حَيْثُ عَبَّرَ عَنْها بِما يَخُصُّ العُقَلاءَ مِنَ التَّسْبِيحِ الَّذِي هو أقْوى مَراتِبِ التَّنْـزِيهِ وأظْهَرُها تَنْزِيلًا لِلِسانِ الحالِ مَنزِلَةَ لِسانِ المَقالِ، وأكَّدَ ذَلِكَ بِإيثارِ كَلِمَةِ "مَن" عَلى "ما" كَأنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِمّا عَزَّ وهانَ وكُلَّ فَرْدٍ مِن أفْرادِ الأعْراضِ والأعْيانِ عاقِلٌ ناطِقٌ ومُخْبِرٌ صادِقٌ بِعُلُوِّ شَأْنِهِ تَعالى وعِزَّةِ سُلْطانِهِ. وتَخْصِيصُ التَّنْـزِيهِ بِالذِّكْرِ مَعَ دَلالَةِ ما فِيهِما عَلى اتِّصافِهِ تَعالى بِنُعُوتِ الكَمالِ أيْضًا لِما أنَّ مَساقَ الكَلامِ لِتَقْبِيحِ حالِ الفِكْرَةِ في إخْلالِهِمْ بِالتَّنْزِيهِ بِجَعْلِهِمُ الجَماداتِ شُرَكاءَ لَهُ في الأُلُوهِيَّةِ، ونِسْبَتِهِمْ إيّاهُ إلى اتِّخاذِ الوَلَدِ تَعالى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وحَمْلُ التَّسْبِيحِ عَلى ما يَلِيقُ بِكُلِّ نَوْعٍ مِن أنْواعِ المَخْلُوقاتِ بِأنَّ يُرادَ بِهِ مَعْنًى مَجازِيٌّ شامِلٌ لِتَسْبِيحِ العُقَلاءِ وغَيْرُهم حَسَبَما هو المُتَبادَرُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وتَسْبِيحَهُ﴾ يَرُدُّهُ أنَّ بَعْضًا مِنَ العُقَلاءِ وهُمُ الكَفَرَةُ مِنَ الثَّقَلَيْنِ لا يُسَبِّحُونَهُ بِذَلِكَ المَعْنى قَطْعًا، وإنَّما تَسْبِيحُهم ما ذُكِرَ مِنَ الدَّلالَةِ الَّتِي يُشارِكُهم فِيها غَيْرُ العُقَلاءِ أيْضًا، وفِيهِ مَزِيدُ تَخْطِئَةٍ لَهم وتَعْيِيرٌ بِبَيانِ أنَّهم يُسَبِّحُونَهُ تَعالى بِاعْتِبارِ أخَسِّ جِهاتِهِمُ الَّتِي هي الجَمادِيَّةُ والجِسْمِيَّةُ والحَيَوانِيَّةُ ولا (p-183)يُسَبِّحُونَهُ بِاعْتِبارِ أشْرَفِها الَّتِي هي الإنْسانِيَّةُ. ﴿والطَّيْرُ﴾ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلى "مَن"، وتَخْصِيصُها بِالذِّكْرِ مَعَ انْدِارَجِها في جُمْلَةِ ما في الأرْضِ لِعَدَمِ اسْتِقْرارِ قَرارِها واسْتِقْلالِها بِصُنْعٍ بارِعٍ وإنْشاءٍ رائِعٍ قُصِدَ بَيانُ تَسْبِيحِها مِن تِلْكَ الجِهَةِ لِوُضُوحِ إنْبائِها عَنْ كَمالِ قُدْرَةِ صانِعِها ولُطْفِ تَدْبِيرِ مُبْدِعِها حَسَبَما يُعْرِبُ عَنْهُ التَّقَيُّدُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿صافّاتٍ﴾ أيْ: تَسْبِيحُهُ تَعالى حال كَوْنِها صافّاتٍ أجْنِحَتَها فَإنَّ إعْطاءَهُ تَعالى لِلْأجْرامِ الثَّقِيلَةِ ما تَتَمَكَّنُ مِنَ الوُقُوفِ في الجَوِّ والحَرَكَةِ كَيْفَ تَشاءُ مِنَ الأجْنِحَةِ والأذْنابِ الخَفِيفَةِ، وإرْشادِها إلى كَيْفِيَّةِ اسْتِعْمالِهِما بِالقَبْضِ والبَسْطِ حُجَّةٌ نَيِّرَةٌ واضِحَةُ المَكْنُونِ وآيَةٌ بَيِّنَةٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ دالَّةٌ عَلى كَمالِ قُدْرَةِ الصّانِعِ المُجِيدِ وغايَةِ حِكْمَةِ المُبْدِئِ المُعِيدِ. وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وتَسْبِيحَهُ﴾ بَيانٌ لِكَمالِ عَراقَةِ كُلِّ واحِدٍ مِمّا ذُكِرَ في التَّنْـزِيهِ ورُسُوخِ قَدَمِهِ فِيهِ بِتَمْثِيلِ حالِهِ بِحالِ مَن يَعْلَمُ ما يَصْدُرُ عَنْهُ مِنَ الأفاعِيلِ فَيَفْعَلُها عَنْ قَصْدٍ ونِيَّةٍ لا عَنِ اتِّفاقٍ بِلا رَوِيَّةٍ وقَدْ أُدْمِجَ في تَضاعِيفِهِ الإشارَةُ إلى أنَّ لِكُلِّ واحِدٍ مِنَ الأشْياءِ المَذْكُورَةِ مَعَ ما ذُكِرَ مِنَ التَّنْزِيهِ حاجَةً ذاتِيَّةً إلَيْهِ تَعالى واسْتِفاضَةً مِنهُ لِما يُهِمُّهُ بِلِسانِ اسْتِعْدادِهِ وتَحْقِيقِهِ أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنَ المَوْجُوداتِ المُمْكِنَةِ في حَدِّ ذاتِهِ بِمَعْزِلٍ مِنِ اسْتِحْقاقِ الوُجُودِ لَكِنَّهُ مُسْتَعِدٌّ لِأنْ يَفِيضَ عَلَيْهِ مِنهُ تَعالى ما يَلِيقُ بِشَأْنِهِ مِنَ الوُجُودِ وما يَتْبَعُهُ مِنَ الكَمالاتِ ابْتِداءً وبَقاءً فَهو مُسْتَفِيضٌ مِنهُ تَعالى عَلى الِاسْتِمْرارِ فَفَيْضُ عَلَيْهِ في كُلِّ آنٍ مِن فُيُوضِ الفُنُونِ المُتَعَلِّقَةِ بِذاتِهِ وصِفاتِهِ ما لا يُحِيطُ بِهِ نِطاقُ البَيانِ بِحَيْثُ لَوِ انْقَطَعَ ما بَيْنَهُ وبَيْنَ العِنايَةِ والرَّبّانِيَّةِ مِنَ العَلاقَةِ لانْعَدَمَ بِالمُدَّةِ. وقَدْ عَبَّرَ عَنْ تِلْكَ الِاسْتِفاضَةِ المَعْنَوِيَّةِ بِالصَّلاةِ الَّتِي هي الدُّعاءُ والِابْتِهالُ لِتَكْمِيلِ التَّمْثِيلِ وإفادَةِ المَزايا المَذْكُورَةِ فِيما مَرَّ عَلى التَّفْصِيلِ، وتَقْدِيمُها عَلى التَّسْبِيحِ في الذِّكْرِ لِقَدَمِها عَلَيْهِ في الرُّتْبَةِ. هَذا ويَجُورُ أنْ يَكُونَ العِلْمُ عَلى حَقِيقَتِهِ، ويُرادُ بِهِ: مُطْلَقُ الإدْراكِ وبِما نابَ عَنْهُ التَّنْوِينُ في كُلِّ أنْواعِ الطَّيْرِ وأفْرادِها وبِالصَّلاةِ وبِالتَّسْبِيحِ ما ألْهَمَهُ اللَّهُ تَعالى كُلَّ واحِدٍ مِنها مِنَ الدُّعاءِ والتَّسْبِيحِ المَخْصُوصَيْنِ بِهِ، لَكِنْ لا عَلى أنْ يَكُونَ الطَّيْرُ مَعْطُوفًا عَلى كَلِمَةِ "مَن" مَرْفُوعًا بِرافِعِها فَإنَّهُ يُؤَدِّي إلى أنْ يُرادَ بِالتَّسْبِيحِ مَعْنًى مَجازِيٌّ شامِلٌ لِلتَّسْبِيحِ المَقالِيِّ والحالِيِّ مِنَ العُقَلاءِ وغَيْرُهم وقَدْ عَرَفْتَ ما فِيهِ، بَلْ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ أُرِيدَ بِهِ التَّسْبِيحُ المَخْصُوصُ بِالطَّيْرِ مَعْطُوفٌ عَلى المَذْكُورِ كَما مَرَّ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ﴾، أيْ: تُسَبِّحُ الطَّيْرُ تَسْبِيحًا خاصًّا بِها حالَ كَوْنِها صافّاتٍ أجْنِحَتَها. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وتَسْبِيحَهُ﴾ أيْ: دُعاءَهُ وتَسْبِيحَهُ اللَّذَيْنِ ألْهَمَهُما اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ إيّاهُ لِبَيانِ كَمالِ رُسُوخِهِ فِيهِما، وأنَّ صُدُورَهُما عَنْهُ لَيْسَ بِطَرِيقِ الِاتِّفاقِ بِلا رَوِيَّةٍ بَلْ عَنْ عِلْمٍ وإيقانٍ مِن غَيْرِ إخْلالٍ بِشَيْءٍ مِنهُما حَسَبَما ألْهَمَهُ اللَّهُ تَعالى، فَإنَّ إلْهامَهُ تَعالى لِكُلِّ نَوْعٍ مِن أنْواعِ المَخْلُوقاتِ عُلُومًا دَقِيقَةً لا يَكادُ يَهْتَدِي إلَيْهِ جَهابِذَةُ العُقَلاءِ مِمّا لا سَبِيلَ إلى إنْكارِهِ أصْلًا كَيْفَ لا، وأنَّ القُنْفُذَ مَعَ كَوْنِهِ أبْعَدَ الأشْياءِ مِنَ الإدْراكِ قالُوا إنَّهُ يُحِسُّ بِالشَّمالِ والجَنُوبِ قَبْلَ هُبُوبِها فَيُغَيِّرُ المُدْخَلَ إلى حُجْرَةٍ، حَتّى رُوِيَ أنَّهُ كانَ بِقُسْطَنْطِينِيَّةَ قَبْلَ الفَتْحِ الإسْلامِيِّ رَجُلٌ قَدْ أثْرى بِسَبَبِ أنَّهُ كانَ يُنْذِرُ النّاسَ بِالرِّياحِ قَبْلَ هُبُوبِها ويَنْتَفِعُونَ بِإنْذارِهِ بِتَدارُكِ أُمُورِ سَفائِنِهِمْ وغَيْرِها وكانَ السَّبَبُ في ذَلِكَ أنَّهُ كانَ يَقْتَنِي في دارِهِ قُنْفُذًا يُسْتَدَلُّ بِأحْوالِهِ عَلى ما ذُكِرَ. وتَخْصِيصُ تَسْبِيحِ الطَّيْرِ بِهَذا المَعْنى بِالذِّكْرِ لِما أنَّ أصْواتَها أظْهَرُ وُجُودًا وأقْرُبُ حَمْلًا عَلى التَّسْبِيحِ. وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿واللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ﴾ أيْ: ما يَفْعَلُونَهُ اعْتِراضٌ مُقَرِّرٌ لِمَضْمُونِ ما قَبْلَهُ، و"ما" عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ عِبارَةٌ عَمّا ذُكِرَ مِنَ الدَّلالَةِ الشّامِلَةِ لِجَمِيعِ المَوْجُوداتِ مِنَ العُقَلاءِ وغَيْرِهِمْ، والتَّعْبِيرُ عَنْها بِالفِعْلِ مُسْنَدًا (p-184)إلى ضَمِيرِ العُقَلاءِ لِما مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ، وعَلى الثّانِي إمّا عِبارَةٌ عَنْها، وعَنِ التَّسْبِيحِ الخاصِّ بِالطَّيْرِ مَعًا أوْ عَنْ تَسْبِيحِ الطَّيْرِ فَقَطْ فالفِعْلُ عَلى حَقِيقَتِهِ وإسْنادُهُ إلى ضَمِيرِ العُقَلاءِ لِما مَرَّ، والِاعْتِراضُ حِينَئِذٍ مُقَرَّرٌ لِتَسْبِيحِ الطَّيْرِ فَقَطْ، وعَلى الأوَّلَيْنِ لِتَسْبِيحِ الكُلِّ. هَذا وقَدْ قِيلَ: إنَّ الضَّمِيرَ في قَوْلِهِ تَعالى: "قَدْ عَلِمَ" اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ، وفي ﴿صَلاتَهُ وتَسْبِيحَهُ﴾ لِكُلِّ، أيْ: قَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعالى صَلاةَ كُلِّ واحِدٍ مِمّا في السَّماواتِ والأرْضِ وتَسْبِيحَهُ، فالِاعْتِراضُ حِينَئِذٍ مُقَرِّرٌ لِمَضْمُونِهِ عَلى الوَجْهَيْنِ لَكِنْ عَلى أنْ تَكُونَ ما عِبارَةً عَمّا تَعَلَّقَ بِهِ علمه تعالى مِن صَلاتِهِ وتَسْبِيحِهِ، بَلْ عَنْ جَمِيعِ أحْوالِهِ العارِضَةِ لَهُ وأفْعالِهِ الصّادِرَةِ عَنْهُ، وهُما داخِلَتانِ فِيها دُخُولًا أوَّلِيًّا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب