الباحث القرآني

﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ إلَخِ اسْتِئْنافٌ خُوطِبَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ (p-187)لِلْإيذانِ كَما في إرْشادِ العَقْلِ السَّلِيمِ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ أفاضَ عَلَيْهِ أعْلى مَراتِبِ النُّورِ وأجْلاها وبَيَّنَ لَهُ مِن أسْرارِ المُلْكِ والمَلَكُوتِ أدَقَّها وأخْفاها. وقالَ الطَّبَرْسِيُّ: هو بَيانٌ لِلْآياتِ الَّتِي جَعَلَها نُورًا والخِطابُ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ والمُرادُ بِهِ جَمِيعُ المُكَلَّفِينَ والهَمْزَةُ لِلتَّقْرِيرِ والرُّؤْيَةُ هُنا بِمَعْنى العِلْمِ والظّاهِرُ أنَّ إطْلاقَها عَلَيْهِ حَقِيقَةٌ. وقِيلَ هي حَقِيقَةٌ في الأبْصارِ وإطْلاقُها عَلى العِلْمِ اسْتِعارَةٌ أوْ مُجازٌ لِعَلاقَةِ اللُّزُومِ، وأيًّا ما كانَ فالمُرادُ ألَمْ تَعْلَمْ بِالوَحْيِ أوْ بِالمُكاشَفَةِ أوْ بِالِاسْتِدْلالِ إنَّ اللَّهَ تَعالى يُنَزِّهُهُ آنًا فَآنًا في ذاتِهِ وصِفاتِهِ وأفْعالِهِ عَنْ كُلِّ ما لا يَلِيقُ بِشَأْنِهِ الجَلِيلِ مِن نَقْصٍ أوْ خَلَلٍ تَنْزِيهًا مَعْنَوِيًّا تَفْهَمُهُ العُقُولُ السَّلِيمَةُ جَمِيعُ مَن في السَّمَواتِ والأرْضِ مِنَ العُقَلاءِ وغَيْرِهِمْ كائِنًا ما كانَ فَإنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مِنَ المَوْجُوداتِ المُمْكِنَةِ مُرَكَّبًا كانَ أوْ بَسِيطًا فَهو مِن حَيْثُ ذاتِهِ ووُجُودِهِ وأحْوالِهِ المُتَجَدِّدَةِ لَهُ يَدُلُّ عَلى صانِعِ واجِبِ الوُجُودِ مُتَّصِفٍ بِصِفاتِ الكَمالِ مُنَزَّهٍ عَنْ كُلِّ ما لا يَلِيقُ بِشَأْنٍ مِن شُؤُونِهِ الجَلِيلَةِ وقَدْ نَبَّهَ سُبْحانَهُ عَلى كَمالِ قُوَّةِ تِلْكَ الدَّلالَةِ وغايَةِ وُضُوحِها حَيْثُ عَبَّرَ عَنْها بِما يَخُصُّ العُقَلاءَ مِنَ التَّسْبِيحِ الَّذِي هو أقْوى مَراتِبِ التَّنْزِيهِ وأظْهَرِها تَنْزِيلًا لِلِسانِ الحالِ مَنزِلَةَ لِسانِ المَقالِ وتَخْصِيصُ التَّنْزِيهِ بِالذِّكْرِ مَعَ دَلالَةِ ما فِيهِما عَلى اتِّصافِهِ تَعالى بِنُعُوتِ الكَمالِ أيْضًا لِما أنَّ مَساقَ الكَلامِ لِتَقْبِيحِ حالِ الكَفَرَةِ في إخْلالِهِمْ بِالتَّنْزِيهِ بِجَعْلِهِمُ الجَماداتِ شُرَكاءَ لَهُ سُبْحانَهُ في الأُلُوهِيَّةِ ونِسْبَتُهم إيّاهُ عَزَّ وجَلَّ إلى اتِّخاذِ الوَلَدِ ونَحْوِ ذَلِكَ مِمّا تَعالى اللَّهُ عَنْهُ عُلُوًّا كَبِيرًا، وإطْلاقُ مَن عَلى العُقَلاءِ وغَيْرِهِمْ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ، ولا يُغْنِي عَنِ اعْتِبارِهِ أوِ اعْتِبارِ مَجازٍ مِثْلِهِ إسْنادُ التَّسْبِيحِ المُخْتَصُّ بِالعُقَلاءِ بِحَسَبِ الظّاهِرِ كَما تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الأجِلَّةِ، وحَمَلَ بَعْضُهُمُ التَّسْبِيحَ عَلى مَعْنًى مَجازِيٍّ شامِلٍ لِتَسْبِيحِ العُقَلاءِ وغَيْرِهِمْ ويُسَمّى عُمُومَ المَجازَ. ورَدَ بِأنَّ بَعْضًا مِنَ العُقَلاءِ وهُمُ الكَفَرَةُ مِنَ الثِّقْلَيْنِ لا يُسَبِّحُونَهُ بِذَلِكَ المَعْنى قَطْعًا وإنَّما تَسْبِيحُهم ما ذُكِرَ مِنَ الدَّلالَةِ الَّتِي يُشارِكُهم فِيها غَيْرُ العُقَلاءِ أيْضًا. وفي ذَلِكَ مِن تَخْطِئَتِهِمْ وتَعْبِيرِهِمْ ما فِيهِ، والقَوْلُ بِأنَّ الكَفَرَةَ يُسَبِّحُونَ كالمُؤْمِنِينَ لَكِنْ مِن حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ كَما قالَ الحَلّاجُ: جُحُودِي لَكَ تَقْدِيسٌ مِمّا لا يَقْبَلُهُ ذَوُو العُقُولِ وحَرِيٌّ بِأنْ لا يَكُونَ مِنَ المَقْبُولِ، وقالَ بَعْضُهُمْ: إذا كانَتْ مَن لِلتَّغْلِيبِ يَنْدَرِجُ في عُمُومِها العُقَلاءُ المُطِيعُونَ والعُقَلاءُ العاصُونَ وغَيْرُ العُقَلاءِ مُطْلَقًا فَيَحْمِلُ التَّسْبِيحَ عَلى مَعْنًى مَجازِيٍّ يَصِحُّ نِسْبَتُهُ إلى كُلِّ ما ذُكِرَ وأيُّ مانِعٍ مِن ذَلِكَ وهو كَما تَرى. واسْتَظْهَرَ أبُو حَيّانَ إبْقاءَ التَّسْبِيحِ عَلى ظاهِرِهِ وتَخْصِيصَ مَن بِالعُقَلاءِ المُطِيعِينَ وما ذُكِرَ أوَّلًا أوْلى. ﴿والطَّيْرُ﴾ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلى ( مَن ) وتَخْصِيصُها بِالذِّكْرِ عَلَيْهِ مَعَ انْدِراجِها في جُمْلَةِ ما في الأرْضِ لِعَدَمِ اسْتِمْرارِ قَرارِها فِيها واسْتِقْلالِها بِصُنْعٍ بارِعٍ وإنْشاءٍ رائِعٍ قُصِدَ بَيانُ تَسْبِيحِها مِن تِلْكَ الجِهَةِ لِوُضُوحِ أنْبائِها عَنْ كَمالِ قُدْرَةِ صانِعِها ولُطْفِ تَدْبِيرِ مُبْدِعِها حَسْبَما يُعْرِبُ عَنْهُ التَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿صافّاتٍ﴾ أيْ تَسْبِيحِهِ الطَّيْرِ أيْ حالِ كَوْنِها صافّاتٍ أجْنِحَتِها فَإنَّ إعْطاءَهُ تَعالى لِلْأجْرامِ الثَّقِيلَةِ ما يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنَ الوُقُوفِ في الجَوِّ والحَرَكَةِ كَيْفَ شاءَ مِنَ الأجْنِحَةِ والأذْنابِ الخَفِيفَةِ وإرْشادُها إلى كَيْفِيَّةِ اسْتِعْمالِها بِالقَبْضِ والبَسْطِ والتَّحْرِيكِ يَمِينًا وشِمالًا ونَحْوِ ذَلِكَ حُجَّةً واضِحَةَ الدَّلالَةِ عَلى كَمالِ قُدْرَةِ الصّانِعِ المُجِيدِ، وغايَةُ حِكْمَةِ المُبْدِئِ المُعِيدِ، والعَطْفُ عَلى ما اسْتَظْهَرَهُ أبُو حَيّانَ عَلى ( مَن ) أيْضًا وقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ، ونُقِلَ عَنِ الجُمْهُورِ أنَّ تَسْبِيحَها حَقِيقِيٌّ وظاهِرَهُ أنَّهُ عَلى نَحْوِ تَسْبِيحِ العُقَلاءِ مِنَ الثِّقْلَيْنِ، ولَعَلَّ مُلْتَزِمَ ذَلِكَ لا يَلْتَزِمُ وُجُوبَ كَوْنِ التَّسْبِيحِ الحَقِيقِيِّ بِالألْفاظِ المَأْلُوفَةِ لَنا وإلّا لا يَتَسَنّى القَوْلُ بِأنَّ تَسْبِيحَها حَقِيقِيٌّ مَعَ هَذا الوُجُوبِ لِفَقْدِ الألْفاظِ المَأْلُوفَةِ لَنا مِنها، ويَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ (p-188)تَعالى ألْهَمَ الطَّيْرُ تَسْبِيحًا مَخْصُوصًا يَلِيقُ بِها هو غَيْرُ التَّسْبِيحِ الحالِيِّ الَّذِي هو الدَّلالَةُ السّابِقَةُ ويُقَدِّرُ فِعْلَ رافِعٍ لَها يُرادُ مِنهُ ذَلِكَ المَعْنى المُلْهَمُ أيْ ويُسَبِّحُ الطَّيْرُ، وتَخْصِيصُ تَسْبِيحِها بِذَلِكَ المَعْنى بِالذِّكْرِ لِما أنَّ أصْواتَها أظْهَرُ وُجُودًا وأقْرَبُ حَمْلًا عَلى التَّسْبِيحِ لَكِنَّ التَّقْيِيدَ بِالحالِ عَلى هَذا حالُهُ في الحَسَنِ دُونَ حالِهِ عَلى ما سَبَقَ. وقَرَأ الأعْرَجُ «والطَّيْرُ» بِالنَّصْبِ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ مَعَهُ، وقَرَأ الحَسَنُ وخارِجَةُ عَنْ نافِعٍ «والطَّيْرُ صافّاتٍ» بِرَفْعِهِما عَلى الِابْتِداءِ والخَبَرِيَّةِ، والظّاهِرُ عَلى هَذِهِ القِراءَةِ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وتَسْبِيحَهُ﴾ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ وعَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ اسْتِئْنافٌ جِيءَ بِهِ لِبَيانِ كَمالِ عَراقَةِ كُلِّ واحِدٍ مِمّا ذَكَرَ مِنَ الطَّيْرِ وما انْدَرَجَ في عُمُومِ ﴿مَن في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ في التَّنْزِيهِ ورُسُوخِ قَدَمِهِ فِيهِ بِتَمْثِيلِ حالِهِ بِحالِ مَن يَعْلَمُ ما يَصْدُرُ عَنْهُ مِنَ الأفاعِيلِ فَيَفْعَلُها عَنْ قَصْدٍ ونِيَّةٍ لا عَنِ اتِّفاقٍ بِلا رَوِيَّةٍ، وقَدْ أدْمَجَ سُبْحانَهُ في تَضاعِيفِهِ الإشارَةَ إلى أنَّ لِكُلِّ واحِدٍ مِنَ الأشْياءِ المَذْكُورَةِ مَعَ ما ذَكَرَ مِنَ التَّنْزِيهِ حاجَةً ذاتِيَّةً إلَيْهِ تَعالى واسْتِفاضَةً مِنهُ عَزَّ وجَلَّ لِما يُهِمُّهُ بِلِسانِ اسْتِعْدادِهِ، وتَحْقِيقُهُ أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنَ المَوْجُوداتِ المُمْكِنَةِ في حَدِّ ذاتِهِ بِمَعْزِلٍ عَنِ اسْتِحْقاقِ الوُجُودِ لَكِنَّهُ مُسْتَعِدٌّ لِأنْ يَفِيضَ عَلَيْهِ مِنهُ تَعالى ما يَلِيقُ بِشَأْنِهِ مِنَ الوُجُودِ وما يَتْبَعُهُ مِنَ الكِمالاتِ ابْتِداءً وبَقاءً فَهو مُسْتَفِيضٌ مِنهُ تَعالى عَلى الِاسْتِمْرارِ فَيَفِيضُ عَلَيْهِ في كُلِّ آنٍ مِن فُنُونِ الفَيُوضِ المُتَعَلِّقَةِ بِذاتِهِ وصِفاتِهِ ما لا يُحِيطُ بِهِ نِطاقُ البَيانِ بِحَيْثُ لَوِ انْقَطَعَ ما بَيَّنَهُ وبَيْنَ العِنايَةِ الرَّبّانِيَّةِ مِنَ العَلاقَةِ لانْعَدَمَ بِالمَرَّةِ، وقَدْ عَبَّرَ عَنْ تِلْكَ الِاسْتِفاضَةِ المَعْنَوِيَّةِ بِالصَّلاةِ الَّتِي هي الدُّعاءُ والِابْتِهالُ لِتَكْمِيلِ التَّمْثِيلِ، وتَقْدِيمُها عَلى التَّسْبِيحِ في الذِّكْرِ لِتَقَدُّمِها عَلَيْهِ في الرُّتْبَةِ كَذا في إرْشادِ العَقْلِ السَّلِيمِ، والكَلامُ عَلَيْهِ اسْتِعارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ والمُضافُ إلَيْهِ الَّذِي نابَ عَنْهُ تَنْوِينُ ﴿كُلٌّ﴾ ما يَشْمَلُ المَذْكُورَ المُصَرِّحَ بِهِ والمُنْدَرِجَ تَحْتَ العُمُومِ حَتّى الجَمادِ وضَمِيرُ ﴿عَلِمَ﴾ وكَذا ضَمِيرًا ﴿صَلاتَهُ وتَسْبِيحَهُ﴾ لِكُلٍّ واحِدٍ وإلَيْهِ ذَهَبَ الزَّجّاجُ. وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّهُ يَكُونُ في ﴿عَلِمَ﴾ عَلى ذَلِكَ اسْتِعارَةً تَبَعِيَّةً وقالَ في بَيانِ ذَلِكَ: إنَّهُ يُشَبِّهُ دَلالَةَ كُلِّ واحِدٍ مِنَ المَذْكُورِينَ عَلى الحَقِّ بِلِسانِ الحَقِّ والمَقالِ ومَيْلِ كُلٍّ مِنهم إلى النَّفْعِ اخْتِيارًا أوْ طَبْعًا بِعِلْمِ التَّسْبِيحِ والصَّلاةِ فَيُطْلِقُ عَلى كُلِّ واحِدٍ مِن تِلْكَ الدَّلالَةِ والمَيْلِ اسْمَ العَلَمِ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِعارَةِ ويُشْتَقُّ مِنهُ لَفْظَ عِلْمٍ، ومِن لَهُ أدْنى ذَوْقٍ لا يَرْتَضِيهِ، وجَوَّزَ أيْضًا أنْ يَكُونَ الصَّلاةُ مَجازًا عَنِ المَيْلِ والتَّسْبِيحِ مَجازًا عَنِ الدَّلالَةِ ومَعَ هَذا قِيلَ إنَّهُ وإنْ صَحَّ غَيْرُ مُناسِبٍ لِلتَّمْثِيلِ، وزَعَمَ بَعْضٌ أنَّ الأوْلى أنْ يَجْعَلَ المُضافَ إلَيْهِ غَيْرُ شامِلٍ لِلْجَمادِ ولَيْسَ بِذاكَ، وجَوَّزَ أنْ يَكُونَ ضَمِيرًا ﴿صَلاتَهُ وتَسْبِيحَهُ﴾ لِلَّهِ تَعالى عَلى أنَّ الإضافَةَ لِلْمَفْعُولِ، وجَوَّزَ أنْ يَكُونَ لِكُلِّ واحِدٍ مِمّا في السَّمَواتِ والأرْضِ ويَكُونُ ضَمِيرُ ﴿عَلِمَ﴾ لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ، وقالَ غَيْرُ واحِدٍ: يَجُوزُ أنْ لا يَكُونُ هُناكَ اسْتِعارَةٌ والعِلْمُ عَلى حَقِيقَتِهِ ويُرادُ بِهِ مُطْلَقُ الإدْراكِ ويُرادُ بِما نابَ عَنْهُ التَّنْوِينُ أنْواعَ الطَّيْرِ أوْ أفْرادَها وبِالصَّلاةِ والتَّسْبِيحِ ما ألْهَمَهُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ كُلَّ واحِدٍ مِنَ الدُّعاءِ والتَّسْبِيحِ المَخْصُوصِينَ بِهِ، ولا بُعْدَ في هَذا الإلْهامِ فَقَدْ ألْهَمَ سُبْحانَهُ كُلَّ نَوْعٍ مِن أنْواعِ الحَيَواناتِ عُلُومًا دَقِيقَةً لا يَكادُ يَهْتَدِي إلَيْها جَهابِذَةُ العُقَلاءِ وهَذا مِمّا لا سَبِيلَ إلى إنْكارِهِ أصْلًا كَيْفَ لا وأنَّ القُنْفُذَ مَعَ كَوْنِهِ أبْعَدَ الحَيَواناتِ مِنَ الإدْراكِ قالُوا: إنَّهُ يُحِسُّ بِالشَّمالِ والجَنُوبِ قَبْلَ هُبُوبِهِما فَيُغَيِّرُ المُدْخَلَ إلى جُحْرِهِ، والجُمْلَةُ عَلى هَذا لِبَيانِ كَمالِ الرُّسُوخِ في الأمْرَيْنِ وأنَّ صُدُورَهُما عَنِ الطَّيْرِ لَيْسَ بِطَرِيقِ الِاتِّفاقِ بِلا رَوِيَّةٍ بَلْ عَنْ عِلْمِ وإتْقانِ نَظِيرِ ما مَرَّ لَكِنْ لا عَلى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ، وقُدِّرَ فِعْلٌ رافِعٌ لِلطَّيْرِ (p-189)عَلَيْهِ أيْ ويُسَبِّحُ الطَّيْرُ كَما تَقَدَّمَ ولَمْ تُجْعَلْ مَعْطُوفَةً عَلى ﴿مَن﴾ مَرْفُوعَةً بِرافِعِها قِيلَ لِأنَّهُ يُؤَدِّي إلى أنْ يُرادَ بِالتَّسْبِيحِ الدّالِّ عَلَيْهِ الفِعْلُ المَذْكُورُ مَعْنًى مَجازِيٍّ شامِلٍ لِلتَّسْبِيحِ المَقالِيِّ والحالِيِّ مِنَ العُقَلاءِ وغَيْرِهِمْ، وقَدْ تَقَدَّمَ ما فِيهِ، وجَوَّزَ جَعْلَ ما نابَ عَنْهُ التَّنْوِينُ ما يَشْمَلُ الطَّيْرَ وغَيْرَهُ مِنَ المُنْدَرِجِ في العُمُومِ السّابِقِ، وفِيهِ أنَّ مِمّا انْدَرَجَ في العُمُومِ الجَمادُ ولا يُنْسَبُ إلَيْهِ العِلْمُ وإنْ كانَ بِمَعْنًى مُطْلَقِ الإدْراكِ والتَزَمَ أنَّ لَهُ عِلْمًا وأنَّهُ سُبْحانَهُ ألْهَمَهُ صَلاةً وتَسْبِيحًا لائِقِينَ بِهِ مِمّا لا يَرْتَضِيهِ كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ، وقَدْ تَقَدَّمَ لَكَ ما يَتَعَلَّقُ بِهَذا المَقامِ في سُورَةِ الإسْراءِ فَتَذَكَّرْ. وجَوَّزَ بَعْضُهم عَلى تَقْدِيرِ حَمْلِ العِلْمِ عَلى المَعْنى الحَقِيقِيِّ أنْ يَكُونَ عَطْفُ التَّسْبِيحِ عَلى الصَّلاةِ مِن عَطْفِ التَّفْسِيرِ، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّهُ إذا قَبْلَ ذَلِكَ عَلى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ فَما المانِعُ مِن قَبُولِهِ عَلى التَّقْدِيرِ السّابِقِ مِن جَعْلِ الِاسْتِعارَةِ تَمْثِيلِيَّةً، نَعَمْ يَفُوتُ حِينَئِذٍ الإدْماجُ الَّذِي أُشِيرُ إلَيْهِ فِيما مَرَّ وهو لَيْسَ بِمانِعٍ، والحَقُّ أنَّ احْتِمالَ التَّفْسِيرِ بَعِيدٌ ولا داعِيَ إلى ارْتِكابِهِ بَلْ يُفَوِّتُ عَلَيْهِ ما يَفُوتُ كَما لا يَخْفى، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿واللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ﴾ أيْ بِالَّذِي يَفْعَلُونَهُ اعْتِراضٌ تَذْيِيلِيٌّ مُقَرِّرٌ لِمَضْمُونِ ما قَبْلَهُ، و (ما إمّا عِبارَةٌ عَنِ الدَّلالَةِ الشّامِلَةِ لِجَمِيعِ المَوْجُوداتِ مِنَ العُقَلاءِ وغَيْرِهِمْ والتَّعْبِيرُ عَنْها بِالفِعْلِ مُسْنَدًا إلى ضَمِيرِ العُقَلاءِ لِما أشَرْنا إلَيْهِ أوَّلَ الكَلامِ، وأمّا عِبارَةٌ عَنْها وعَنِ التَّسْبِيحِ الخاصِّ بِالطَّيْرِ مَعًا أوْ عَنْ تَسْبِيحِ الطَّيْرِ فَقَطْ فالفِعْلُ عَلى حَقِيقَتِهِ وإسْنادِهِ إلى ضَمِيرِ العُقَلاءِ لِما مَرَّ، والِاعْتِراضُ حِينَئِذٍ مُقَرِّرٌ لِتَسْبِيحِ الطَّيْرِ فَقَطْ وعَلى الأوَّلِينَ لِتَسْبِيحِ الكُلِّ، وإمّا عِبارَةٌ عَنِ الأعَمِّ مِنَ الصَّلاةِ والتَّسْبِيحِ وغَيْرِهِما مِنَ الأفْعالِ الصّادِرَةِ عَمَّنْ في السَّمَواتِ والأرْضِ والأحْوالِ العارِضَةِ لَهُ والِاعْتِراضُ حِينَئِذٍ مُقَرِّرٌ لِمَضْمُونِ ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ﴾ أيِ اللَّهِ تَعالى صَلاتُهُ وتَسْبِيحُهُ، وأمْرُ التَّعْبِيرِ بِالفِعْلِ والإسْنادُ إلى ضَمِيرِ العُقَلاءِ لا يَخْفى، ولِتَعَدُّدِ الأوْجُهِ فِيما مَرَّ تَعَدَّدَتِ الِاحْتِمالاتُ هُنا فَتَأمَّلْ ولا تَغْفُلْ. وقَرَأ الحَسَنُ وعِيسى وسَلامٌ وهارُونُ عَنْ أبِي عَمْرٍو «تَفْعَلُونَ» بِتاءِ الخِطابِ، وفِيهِ كَما قِيلَ وعِيدٌ وتَخْوِيفٌ ولَعَلَّ الظّاهِرَ أنَّ الخِطابَ فِيهِ لِلْكَفَرَةِ، ورُبَّما يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الجَمْعِ عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ لَهم أيْضًا عَلى أنَّ المُرادَ بِالجُمْلَةِ تَخْوِيفُهم لِإعْراضِهِمْ عَنْ تَسْبِيحِهِ تَعالى بَعْدَ أنْ أخْبَرَ سُبْحانَهُ عَمَّنْ أخْبَرَ بِأنَّهُ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وتَسْبِيحَهُ، وهَذا وإنْ كانَ بَعِيدًا إلّا أنَّ في القِراءَةِ المَذْكُورَةِ نَوْعَ تَأْيِيدٍ لَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب