الباحث القرآني

﴿ثُمَّ أرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرى كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأتْبَعْنا بَعْضَهم بَعْضًا وجَعَلْناهم أحادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ﴾ الرُّسُلُ الَّذِينَ جاءُوا مِن بَعْدُ، أيْ: مِن بَعْدِ هَذِهِ القُرُونِ مِنهم إبْراهِيمُ ولُوطٌ ويُوسُفُ وشُعَيْبٌ، ومَن أُرْسِلَ قَبْلَ مُوسى، ورُسُلٌ لَمْ يَقْصُصْهُمُ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ. والمَقْصُودُ بَيانُ اطِّرادِ سُنَّةِ اللَّهِ تَعالى في اسْتِئْصالِ المُكَذِّبِينَ رُسُلَهُ المُعانِدِينَ في آياتِهِ كَما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿فَأتْبَعْنا بَعْضَهم بَعْضًا﴾ . و(تَتْرى) قَرَأهُ الجُمْهُورُ بِألِفٍ في آخِرِهِ دُونَ تَنْوِينٍ فَهو مَصْدَرٌ عَلى وزْنِ فَعْلى مِثْلَ دَعْوى وسَلْوى، وألِفُهُ لِلتَّأْنِيثِ مِثْلَ ذِكْرى، فَهو مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ. وأصْلُهُ: وتْرى بِواوٍ في أوَّلِهِ مُشْتَقًّا مِنَ الوَتْرِ وهو: الفَرْدُ. وظاهِرُ كَلامِ اللُّغَوِيِّينَ أنَّهُ لا فِعْلَ لَهُ، أيْ: فَرْدًا فَرْدًا، أيْ: فَرْدًا بَعْدَ فَرْدٍ فَهو نَظِيرُ مَثْنى. وأُبْدِلَتِ الواوُ تاءً إبْدالًا غَيْرَ قِياسِيٍّ كَما أُبْدِلَتْ في (تِجاهٍ) لِلْجِهَةِ المُواجِهَةِ وفي (تَوْلَجُ) لِكِناسِ الوَحْشِ (وتُراثٍ) لِلْمَوْرُوثِ. ولا يُقالُ: تَتْرى إلّا إذا كانَ بَيْنَ الأشْياءِ تَعاقُبٌ مَعَ فَتَراتٍ وتَقَطُّعٌ. ومِنهُ التَّواتُرُ وهو تَتابُعُ الأشْياءِ وبَيْنَها فَجَواتٌ. والوَتِيرَةُ: الفَتْرَةُ عَنِ العَمَلِ. وأمّا التَّعاقُبُ بِدُونِ فَتْرَةٍ فَهو التَّدارُكُ. يُقالُ: جاءُوا مُتَدارِكِينَ، أيْ: مُتَتابِعِينَ. وقَرَأهُ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو وأبُو جَعْفَرٍ مُنَوَّنًا وهي لُغَةُ كِنانَةَ. وهو عَلى القِراءَتَيْنِ مَنصُوبٌ عَلى الحالِ مِن (رُسُلَنا) . (p-٦٢)واعْلَمْ أنَّ كَلِمَةَ (تَتْرى) كُتِبَتْ في المَصاحِفِ كُلِّها بِصُورَةِ الألِفِ في آخِرِها عَلى صُورَةِ الألِفِ الأصْلِيَّةِ مَعَ أنَّها في قِراءَةِ الجُمْهُورِ ألِفُ تَأْنِيثٍ مَقْصُورَةٍ وشَأْنُ ألِفِ التَّأْنِيثِ المَقْصُورَةِ أنْ تُكْتَبَ بِصُورَةِ الياءِ مِثْلَ تَقْوى ودَعْوى، فَلَعَلَّ كُتّابَ المَصاحِفِ راعَوْا كِلْتا القِراءَتَيْنِ فَكَتَبُوا الألِفَ بِصُورَتِها الأصْلِيَّةِ لِصُلُوحِيَّةِ نُطْقِ القارِئِ عَلى كِلْتا القِراءَتَيْنِ. عَلى أنَّ أصْلَ الألِفِ أنْ تُكْتَبَ بِصُورَتِها الأصْلِيَّةِ، وأمّا كِتابَتُها في صُورَةِ الياءِ حَيْثُ تُكْتَبُ كَذَلِكَ فَهو إشارَةٌ إلى أصْلِها أوْ جَوازِ إمالَتِها فَخُولِفَ ذَلِكَ في هَذِهِ اللَّفْظَةِ لِدَفْعِ اللَّبْسِ. ومَعْنى الآيَةِ: ثُمَّ بَعْدَ تِلْكَ القُرُونِ أرْسَلْنا رُسُلًا، أيْ: أرْسَلْناهم إلى أُمَمٍ أُخْرى؛ لِأنَّ إرْسالَ الرَّسُولِ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ أُمَّةٍ، وقَدْ صُرِّحَ بِهِ في قَوْلِهِ: ﴿كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ﴾ . والمَعْنى: كَذَّبَهُ جُمْهُورُهم ورُبَّما كَذَّبَهُ جَمِيعُهم. وفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ فَرَأيْتُ النَّبِيءَ ومَعَهُ الرَّهْطُ والنَّبِيءَ ومَعَهُ الرَّجُلُ والرَّجُلانِ والنَّبِيءَ ولَيْسَ مَعَهُ أحَدٌ» الحَدِيثُ. وإتْباعُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا: إلْحاقُهم بِهِمْ في الهَلاكِ بِقَرِينَةِ المَقامِ وبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: ﴿وجَعَلْناهم أحادِيثَ﴾، أيْ: صَيَّرْناهم أُحْدُوثاتٍ يَتَحَدَّثُ النّاسُ بِما أصابَهم. وإنَّما يَتَحَدَّثُ النّاسُ بِالشَّيْءِ الغَرِيبِ النّادِرِ مِثْلُهُ. والأحادِيثُ هُنا جَمْعُ أُحْدُوثَةٍ، وهي اسْمٌ لِما يَتَلَهّى النّاسُ بِالحَدِيثِ عَنْهُ. ووَزْنُ الأُفْعُولَةِ يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ مِثْلَ الأُعْجُوبَةِ والأُسْطُورَةِ. وهُوَ كِنايَةٌ عَنْ إبادَتِهِمْ، فالمَعْنى: جَعَلْناهم أحادِيثَ بائِدِينَ غَيْرَ مُبْصَرِينَ. والقَوْلُ في ﴿فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ﴾ مِثْلُ الكَلامِ عَلى ﴿فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظّالِمِينَ﴾ [المؤمنون: ٤١]؛ إلّا أنَّ الدُّعاءَ نِيطَ هُنا بِوَصْفِ أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ لِيَحْصُلَ مِن مَجْمُوعِ الدَّعْوَتَيْنِ التَّنْبِيهُ عَلى مَذَمَّةِ الكُفْرِ وعَلى مَذَمَّةِ عَدَمِ الإيمانِ بِالرُّسُلِ تَعْرِيضًا (p-٦٣)بِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ، عَلى أنَّهُ يَشْمَلُ كُلَّ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِرُسُلِ اللَّهِ؛ لِأنَّ النَّكِرَةَ في سِياقِ الدُّعاءِ تَعُمُّ كَما في قَوْلِ الحَرِيرِيِّ: ؎يا أهْلَ ذا المَغْنى وُقِيتُمْ ضُرًّا .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب