الباحث القرآني

ولَمّا كانَ قَدْ أمْلى لِكُلِّ قَوْمٍ حَتّى طالَ عَلَيْهِمُ الزَّمَنُ، فَلَمّا لَمْ يَهْدِهم عُقُولُهم لِما نَصَبَ لَهم مِنَ الأدِلَّةِ، وأسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ، وأحَلَّ بِالمُكَذِّبِينَ قَبْلَهم مِنَ النِّقَمِ، أرْسَلَ فِيهِمْ رَسُولًا، دَلَّ عَلى ذَلِكَ بِأداةِ التَّراخِي فَقالَ: ﴿ثُمَّ أرْسَلْنا﴾ أيْ بَعْدِ إنْشاءِ كُلِّ قَرْنٍ مِنهم وطُولِ إمْهالِنا لَهُ، (p-١٤٣)ومِن هُنا يُعْلَمُ أنَّ بَيْنَ كُلِّ رَسُولَيْنِ فَتْرَةً، وأضافَ الرُّسُلُ إلَيْهِ لِأنَّهُ في مَقامِ العَظَمَةِ وزِيادَةً في التَّسْلِيَةِ فَقالَ: ﴿رُسُلَنا تَتْرى﴾ أيْ واحِدًا بَعْدَ واحِدٍ؛ قالَ الرّازِي: مِن وتَرَ القَوْسَ لِاتِّصالِهِ. وقالَ البَغَوِيُّ: واتَرْتُ الخَبَرَ: أتْبَعْتُ بَعْضَهُ بَعْضًا وبَيْنَ الخَبَرَيْنِ هُنَيْهَةً. وقالَ الأصْبِهانِيُّ: والأصْلُ: وتْرى، فَقُلِبَتِ الواوُ تاءً كَما قَلَبُوها في التَّقْوى. فَجاءَ كُلُّ رَسُولٍ إلى أُمَّتِهِ قائِلًا: اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكم مِن إلَهِ غَيْرِهِ. ولَمّا كانَ كَأنَّهُ قِيلَ: فَكانَ ماذا؟ قِيلَ: ﴿كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً﴾ ولَمّا كانَ في بَيانِ التَّكْذِيبِ، أضافَ الرَّسُولَ إلَيْهِمْ، ذَمًّا لَهم لِأنْ يَخُصُّوا بِالكَرامَةِ فَيَأْبَوْها ولِقَصْدِ التَّسْلِيَةِ أيْضًا فَقالَ: ﴿رَسُولُها﴾ أيْ بِما أمَرْناهُ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ. ولَمّا كانَ الأكْثَرُ مِن كُلِّ أمَةٍ مُكَذِّبًا، أسْنَدَ الفِعْلَ إلى الكُلِّ فَقالَ: ﴿كَذَّبُوهُ﴾ أيْ كَما فَعَلَ هَؤُلاءِ بِكَ لِما أمَرْتَهم بِذَلِكَ ﴿فَأتْبَعْنا﴾ القُرُونَ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ ﴿بَعْضَهم بَعْضًا﴾ في الإهْلاكِ، فَكُنّا نُهْلِكُ الأُمَّةَ كُلَّها في آنٍ واحِدٍ، بَعْضُهم بِالصَّيْحَةِ، وبَعْضُهم بِالرَّجْفَةِ، وبَعْضُهم بِالخَسْفِ، وبَعْضُهم بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَدَلَّ أخْذُنا لَهم عَلى غَيْرِ العادَةِ - مِن إهْلاكِنا لَهم (p-١٤٤)جَمِيعًا وإنْجاءِ الرُّسُلِ ومِن صِدْقِهِمْ والمُخالَفَةِ بَيْنَهم في نَوْعِ العَذابِ - أنّا نَحْنُ الفاعِلُونَ بِهِمْ ذَلِكَ بِاخْتِيارِنا لا الدَّهْرُ، وأنّا ما فَعَلْنا ذَلِكَ إلّا بِسَبَبِ التَّكْذِيبِ. ولَمّا كانُوا قَدْ ذَهَبُوا لَمْ يَبْقَ عِنْدَ النّاسِ مِنهم إلّا أخْبارُهُمْ، جُعِلُوا إيّاها، فَقالَ: ﴿وجَعَلْناهم أحادِيثَ﴾ أيْ أخْبارًا يُسْمَرُ بِها ويُتَعَجَّبُ مِنها لِيَكُونُوا عِظَةً لِلْمُسْتَبْصِرِينَ فَيَعْلَمُوا أنَّهُ لا يُفْلِحُ الكافِرُونَ ولا يَخِيبُ المُؤْمِنُونَ، وما أحْسَنَ قَوْلَ القائِلِ: ؎ولا شَيْءَ يَدُومُ فَكُنْ حَدِيثًا جَمِيلَ الذِّكْرِ فالدُّنْيا حَدِيثُ ولَمّا تَسَبَّبَ عَنْ تَكْذِيبِهِمْ هَلاكَهُمُ المُقْتَضِيَ لِبُعْدِهِمْ فَقالَ: ﴿فَبُعْدًا لِقَوْمٍ﴾ أيْ أقْوِياءَ عَلى ما يُطْلَبُ مِنهم ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ أيْ لا يَتَجَدَّدُ مِنهم إيمانٌ وإنْ جَرَتْ عَلَيْهِمُ الفُصُولُ الأرْبَعَةُ، لِأنَّهُ لا مِزاجَ لَهم مُعْتَدِلٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب