الباحث القرآني

﴿وإذْ واعَدْنا مُوسى أرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ العِجْلَ مِن بَعْدِهِ وأنْتُمْ ظالِمُونَ﴾ ﴿ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكم مِن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكم تَشْكُرُونَ﴾ تَذْكِيرٌ لَهم بِنِعْمَةِ عَفْوِ اللَّهِ عَنْ جُرْمِهِمُ العَظِيمِ بِعِبادَةِ غَيْرِهِ وذَلِكَ مِمّا فَعَلَهُ سَلَفُهم، فَإسْنادُ تِلْكَ الأفْعالِ إلى ضَمِيرِ المُخاطَبِينَ بِاعْتِبارِ ما عُطِفَ عَلَيْهِ مِن قَوْلِهِ ﴿ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ﴾ فَإنَّ العَفْوَ عَنِ الآباءِ مِنَّةٌ عَلَيْهِمْ وعَلى أبْنائِهِمْ يَجِبُ عَلى الأبْناءِ الشُّكْرُ عَلَيْهِ كَما تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ٤٧] ووَقَعَ في الكَشّافِ وتَفْسِيرِ البَغَوِيِّ وتَفْسِيرِ البَيْضاوِيِّ أنَّ اللَّهَ وعَدَ مُوسى أنْ يُؤْتِيَهُ الشَّرِيعَةَ بَعْدَ أنْ عادَ بَنُو إسْرائِيلَ إلى مِصْرَ بَعْدَ مَهْلِكِ فِرْعَوْنَ وهَذا وهْمٌ فَإنَّ بَنِي إسْرائِيلَ لَمْ (p-٤٩٧)يَعُودُوا إلى مِصْرَ البَتَّةَ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ كَيْفَ والآياتُ صَرِيحَةٌ في أنَّ نُزُولَ الشَّرِيعَةِ كانَ بِطُورِ سِينا وأنَّ خُرُوجَهم كانَ لِيُعْطِيَهُمُ اللَّهُ الأرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَهم وقَدْ أشارَ في الكَشّافِ في سُورَةِ الدُّخانِ إلى التَّرَدُّدِ فِيهِ ولا يَنْبَغِي التَّرَدُّدُ في ذَلِكَ. وقَوْلُهُ ﴿ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ العِجْلَ مِن بَعْدِهِ﴾ هو المَقْصُودُ وأمّا ما ذُكِرَ قَبْلَهُ فَهو تَمْهِيدٌ وتَأْسِيسٌ لِبِنائِهِ وتَهْوِيلٌ لِذَلِكَ الجُرْمِ إظْهارًا لِسِعَةِ عَفْوِ اللَّهِ تَعالى وحِلْمِهِ عَنْهم. وتَوْسِيطُ التَّذْكِيرِ بِالعَفْوِ عَنْ هَذِهِ السَّيِّئَةِ بَيْنَ ذِكْرِ النِّعَمِ المَذْكُورَةِ مُراعاةٌ لِتَرْتِيبِ حُصُولِها في الوُجُودِ لِيَحْصُلَ غَرَضانِ غَرَضُ التَّذْكِيرِ وغَرَضُ عَرْضِ تارِيخِ الشَّرِيعَةِ. والمُرادُ مِنَ المُواعَدَةِ هُنا أمْرُ اللَّهِ مُوسى أنْ يَنْقَطِعَ أرْبَعِينَ لَيْلَةً لِمُناجاةِ اللَّهِ تَعالى وإطْلاقِ الوَعْدِ عَلى هَذا الأمْرِ مِن حَيْثُ إنَّ ذَلِكَ تَشْرِيفٌ لِمُوسى ووَعْدٌ لَهُ بِكَلامِ اللَّهِ وبِإعْطاءِ الشَّرِيعَةِ. وقِراءَةُ الجُمْهُورِ وواعَدْنا بِألِفٍ بَعْدَ الواوِ عَلى صِيغَةِ المُفاعَلَةِ المُقْتَضِيَةِ حُصُولَ الوَعْدِ مِن جانِبَيْنِ؛ الواعِدُ والمَوْعُودُ والمُفاعَلَةُ عَلى غَيْرِ بابِها لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ عَلى حَدِّ سافَرَ وعافاهُ اللَّهُ، وعالَجَ المَرِيضَ وقاتَلَهُ اللَّهُ، فَتَكُونُ مَجازًا في التَّحْقِيقِ لِأنَّ المُفاعَلَةَ تَقْتَضِي تَكَرُّرَ الفِعْلِ مِن فاعِلَيْنِ فَإذا أُخْرِجَتْ عَنْ بابِها بَقِيَ التَّكَرُّرُ فَقَطْ مِن غَيْرِ نَظَرٍ لِلْفاعِلِ ثُمَّ أُرِيدَ مِنَ التَّكَرُّرِ لازِمُهُ وهو المُبالَغَةُ والتَّحَقُّقُ فَتَكُونُ بِمَنزِلَةِ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ. والأشْهَرُ أنَّ المُواعَدَةَ لَمّا كانَ غالِبُ أحْوالِها حُصُولَ الوَعْدِ مِنَ الجانِبَيْنِ شاعَ اسْتِعْمالُ صِيغَتِها في مُطْلَقِ الوَعْدِ وقَدْ شاعَ اسْتِعْمالُها أيْضًا في خُصُوصِ التَّواعُدِ بِالمُلاقاةِ كَما وقَعَ في حَدِيثِ الهِجْرَةِ وواعَداهُ غارَ ثَوْرٍ. وقَوْلُ الشّاعِرِ: ؎فَواعِدِيهِ سَرْحَتَيْ مالِكٍ أوِ الرُّبا بَيْنَهُما أسْهَلا واسْتُعْمِلَتْ هُنا لِأنَّ المُناجاةَ والتَّكَلُّمَ يَقْتَضِي القُرْبَ فَهو بِمَنزِلَةِ اللِّقاءِ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِعارَةِ ولِذَلِكَ اسْتَغْنى عَنْ ذِكْرِ المَوْعُودِ بِهِ لِظُهُورِهِ مِن صِيغَةِ المُواعَدَةِ. وقِيلَ المُفاعَلَةُ عَلى بابِها بِتَقْدِيرِ أنَّ اللَّهَ وعَدَ مُوسى أنْ يُعْطِيَهُ الشَّرِيعَةَ وأمَرَهُ بِالحُضُورِ لِلْمُناجاةِ فَوَعَدَ مُوسى رَبَّهُ أنْ يَمْتَثِلَ لِذَلِكَ، فَكانَ الوَعْدُ حاصِلًا مِنَ الطَّرَفَيْنِ وذَلِكَ كافٍ في تَصْحِيحِ المُفاعَلَةِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ اخْتِلافِ المَوْعُودِ بِهِ، وذَلِكَ لا يُنافِي المُفاعَلَةَ لِأنَّ مَبْنى صِيغَةِ المُفاعَلَةِ حُصُولُ فِعْلٍ مُتَماثِلٍ مِن جانِبَيْنِ لا سِيَّما إذا لَمْ يُذْكَرِ المُتَعَلِّقُ في اللَّفْظِ كَما هُنا لِقَصْدِ الإيجازِ البَدِيعِ لِقَصْدِ إعْظامِ المُتَعَلِّقِ مِنَ الجانِبَيْنِ، ولَكَ أنَّ تَقُولَ سَوَّغَ حَذْفَهُ عِلْمُ المُخاطَبِينَ بِهِ فَإنَّ هَذا الكَلامَ مَسُوقٌ لِلتَّذْكِيرِ لا لِلْإخْبارِ والتَّذْكِيرِ يُكْتَفى فِيهِ بِأقَلِّ إشارَةٍ فاسْتَوى الحَذْفُ والذِّكْرُ فَرَجَّحَ الإيجازَ وإنْ كانَ الغالِبُ اتِّحادَهُ. (p-٤٩٨)وقَرَأ أبُو عَمْرٍو وأبُو جَعْفَرٍ ويَعْقُوبُ (وعَدْنا) بِدُونِ ألِفٍ عَقِبَ الواوِ عَلى الحَقِيقَةِ. ومُوسى هو رَسُولُ اللَّهِ إلى بَنِي إسْرائِيلَ وصاحِبُ شَرِيعَةِ التَّوْراةِ وهو مُوسى بْنُ عِمْرانَ ولَمْ يَذْكُرِ اسْمَ جَدِّهِ ولَكِنَّ الَّذِي جاءَ في التَّوْراةِ أنَّهُ هو وأخُوهُ هارُونُ مِن سِبْطِ لاوِي بْنِ يَعْقُوبَ. وُلِدَ بِمِصْرَ في حُدُودِ سَنَةِ ألْفٍ وخَمْسِمِائَةٍ قَبْلَ مِيلادِ عِيسى. ولَمّا ولَدَتْهُ أُمُّهُ خافَتْ عَلَيْهِ أنْ يَأْخُذَهُ القِبْطُ فَيَقْتُلُوهُ لِأنَّهُ في أيّامِ وِلادَتِهِ كانَ القِبْطُ قَدْ سامُوا بَنِي إسْرائِيلَ سُوءَ العَذابِ لِأسْبابٍ غَيْرِ مَشْرُوعَةٍ كَما تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿يُذَبِّحُونَ أبْناءَكُمْ﴾ [البقرة: ٤٩] فَأمَرَ مَلِكُ مِصْرَ بِقَتْلِ كُلِّ ذَكَرٍ يُولَدُ في بَنِي إسْرائِيلَ، وأُمُّهُ تُسَمّى يُوحانَذَ وهي أيْضًا مِن سِبْطِ لاوِي وكانَ زَوْجُها قَدْ تُوُفِّيَ حِينَ ولَدَتْ مُوسى فَتَحَيَّلَتْ لِإخْفائِهِ عَنِ القِبْطِ مُدَّةَ ثَلاثَةِ أشْهُرٍ ثُمَّ ألْهَمَها اللَّهُ فَأرْضَعَتْهُ رَضْعَةً ووَضَعَتْهُ في سَفَطٍ مَنسُوجٍ مِن خُوصِ البَرْدِيِّ وطَلَتْهُ بِالمَغْرَةِ والقارِ لِئَلّا يَدْخُلَهُ الماءُ ووَضَعَتْ فِيهِ الوَلَدَ وألْقَتْهُ في النِّيلِ بِمَقْرُبَةٍ مِن مَساكِنِ فِرْعَوْنَ عَلى شاطِئِ النِّيلِ ووَكَّلَتْ أُخْتًا لَهُ اسْمُها مَرْيَمُ بِأنْ تَرْقُبَ الجِهَةَ الَّتِي يُلْقِيهِ النِّيلُ فِيها وماذا يَصْنَعُ بِهِ وكانَ مَلِكُ مِصْرَ في ذَلِكَ الوَقْتِ تَقْرِيبًا هو فِرْعَوْنَ رَمْسِيسَ الثّانِيَ، ولَمّا حَمَلَهُ النَّهْرُ كانَتِ ابْنَةُ فِرْعَوْنَ المُسَمّاةُ ثَرْمُوتَ مَعَ جَوارٍ لَها يَمْشِينَ عَلى حافَةِ النَّهْرِ لِقَصْدِ السِّباحَةِ والتَّبَرُّدِ في مائِهِ قِيلَ كانُوا في مَدِينَةِ عَيْنِ شَمْسٍ فَلَمّا بَصُرَتْ بِالسَّفَطِ أرْسَلَتْ أمَةً لَها لِتَنْظُرَ السَّفَطَ فَلَمّا فَتَحْنَهُ وجَدْنَ الصَّبِيَّ فَأخَذَتْهُ ابْنَةُ فِرْعَوْنَ إلى أُمِّها وأظْهَرَتْ مَرْيَمُ أُخْتُ مُوسى نَفْسَها لِابْنَةِ فِرْعَوْنَ فَلَمّا رَأتْ رِقَّةَ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ عَلى الصَّبِيِّ قالَتْ إنَّ فِينا مُرْضِعًا أفَأذْهَبُ فَأدْعُوَها لِتُرْضِعَهُ ؟ فَقالَتْ نَعَمْ فَذَهَبَتْ وأتَتْ بِأُمِّ مُوسى. وأخَذَتِ امْرَأةُ فِرْعَوْنَ الوَلَدَ وتَبَنَّتْهُ وسَمَّتْهُ مُوشى قِيلَ إنَّهُ مُرَكَّبٌ مِن كَلِمَةِ (مو) بِمَعْنى الماءِ وكَلِمَةِ (شى) بِمَعْنى المُنْقِذِ وقَدْ صارَتْ في العَرَبِيَّةِ مُوسى والأظْهَرُ أنَّ هَذا الِاسْمَ مُرَكَّبٌ مِنَ اللُّغَةِ العِبْرِيَّةِ لا مِنَ القِبْطِيَّةِ فَلَعَلَّهُ كانَ لَهُ اسْمٌ آخَرُ في قَصْرِ فِرْعَوْنَ وأنَّهُ غَيَّرَ اسْمَهُ بَعْدَ ذَلِكَ. ونَشَأ مُوسى في بَيْتِ فِرْعَوْنَ كَوَلَدٍ لَهُ. ولَمّا كَبِرَ عَلِمَ أنَّهُ لَيْسَ بِابْنِ فِرْعَوْنَ وأنَّهُ إسْرائِيلِيٌّ ولَعَلَّ أُمَّهُ أعْلَمَتْهُ بِذَلِكَ وجَعَلَتْ لَهُ أماراتٍ يُوقِنُ بِها وأنْشَأهُ اللَّهُ عَلى حُبِّ العَدْلِ ونَصْرِ الضَّعِيفِ وكانَ مُوسى شَدِيدًا قَوِيَّ البِنْيَةِ ولَمّا بَلَغَ أشُدَّهُ في حُدُودِ نَيِّفٍ وثَلاثِينَ مِن عُمُرِهِ حَدَثَ لَهُ حادِثٌ قَتَلَ فِيهِ قِبْطِيًّا انْتِصارًا لِإسْرائِيلِيٍّ ولَعَلَّ ذَلِكَ كانَ بَعْدَ مُفارَقَتِهِ لِقَصْرِ فِرْعَوْنَ أيْ بَعْدِ مَوْتِ مُرَبِّيهِ فَخافَ مُوسى أنْ يُقْتَصَّ مِنهُ وهاجَرَ مِن مِصْرَ ومَرَّ في مُهاجَرَتِهِ بِمَدْيَنَ وتَزَوَّجَ ابْنَةَ شُعَيْبٍ ثُمَّ خَرَجَ مِن مَدْيَنَ بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ وعُمُرُهُ يَوْمَئِذٍ نَيِّفٌ وأرْبَعُونَ سَنَةً. (p-٤٩٩)وأوْحى اللَّهُ إلَيْهِ في طَرِيقِهِ أنْ يُخْرِجَ بَنِي إسْرائِيلَ مِن مِصْرَ ويُنْقِذَهم مِن ظُلْمِ فِرْعَوْنَ فَدَخَلَ مِصْرَ ولَقِيَ أخاهُ هارُونَ في جُمْلَةِ قَوْمِهِ في مِصْرَ وسَعى في إخْراجِ بَنِي إسْرائِيلَ مِن مِصْرَ بِما قَصَّهُ اللَّهُ في كِتابِهِ وكانَ خُرُوجُهُ بِبَنِي إسْرائِيلَ مِن مِصْرَ في حُدُودِ سَنَةِ ١٤٦٠ سِتِّينَ وأرْبَعِمائَةٍ وألْفٍ قَبْلَ المَسِيحِ في زَمَنِ مِنفِطاحِ الثّانِي وتُوُفِّيَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ قُرْبَ أرِيحا عَلى جَبَلِ نِيبُو سَنَةَ ١٣٨٠ ثَمانِينَ وثَلاثِمِائَةٍ وألْفٍ قَبْلَ مِيلادِ عِيسى ودُفِنَ هُنالِكَ وقَبْرُهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ لِأحَدٍ كَما هو نَصُّ التَّوْراةِ. وقَوْلُهُ أرْبَعِينَ لَيْلَةً انْتَصَبَ عَلى أنَّهُ ظَرْفٌ لِمُتَعَلَّقِ واعَدْنا وهو اللِّقاءُ المَوْعُودُ بِهِ نابَ هَذا الظَّرْفُ عَنِ المُتَعَلَّقِ أيْ مُناجاةً وغَيْرَها في أرْبَعِينَ لَيْلَةً إنْ جُعِلَ واعَدْنا مَسْلُوبَ المُفاعَلَةِ وإنْ أُبْقِيَ عَلى ظاهِرِهِ قَدَّرْنا مُتَعَلَّقَيْنِ وعَلى كِلا التَّقْدِيرَيْنِ فانْتِصابُ أرْبَعِينَ عَلى الظَّرْفِيَّةِ لِذَلِكَ المَحْذُوفِ عَلى أنَّ إطْلاقَ اسْمِ الزَّمانِ عَلى ما يَقَعُ فِيهِ مَجازٌ شائِعٌ في كَلامِ البُلَغاءِ ومِنهُ ﴿واتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ﴾ [البقرة: ٤٨] كَما تَقَدَّمَ والأُمُورُ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْها الأرْبَعُونَ لَيْلَةً مَعْلُومَةٌ لِلْمُخاطَبِينَ يَتَذَكَّرُونَها بِمُجَرَّدِ الإلْماحِ إلَيْها. وبِما حَرَّرْناهُ في قَوْلِهِ ﴿وإذْ واعَدْنا مُوسى أرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ تَسْتَغْنِي عَنْ تَطْوِيلاتٍ واحْتِمالاتٍ جَرَتْ في كَلامِ الكاتِبِينَ هُنا مِن وُجُوهٍ ذَكَرَها التَّفْتَزانِيُّ وعَبْدُ الحَكِيمِ وقَدْ جَمَعَ الوَجْهُ الَّذِي أبْدَيْناهُ مَحاسِنَها. وجَعَلَ المِيقاتَ لَيالِيَ لِأنَّ حِسابَهم كانَ بِالأشْهُرِ القَمَرِيَّةِ. وعُطِفَتْ جُمْلَةُ ﴿اتَّخَذْتُمُ العِجْلَ مِن بَعْدِهِ﴾ بِحَرْفِ ثُمَّ الَّذِي هو في عَطْفِ الجُمَلِ لِلتَّراخِي التَّرْتِيبِيِّ لِلْإشارَةِ إلى تَرْتِيبٍ في دَرَجاتِ عِظَمِ هَذِهِ الأحْوالِ وعَطَفَ ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكم مِن بَعْدِ ذَلِكَ أيْضًا لِتَراخِي مَرْتَبَةِ العَفْوِ العَظِيمِ عَنْ عِظَمِ جُرْمِهِمْ فَرُوعِيَ في هَذا التَّراخِي أنَّ ما تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الجُمَلُ عَظائِمُ أُمُورٍ في الخَيْرِ وضِدِّهِ تَنْبِيهًا عَلى عِظَمِ سِعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ بِهِمْ قَبْلَ المَعْصِيَةِ وبَعْدَها وحَذْفُ المَفْعُولِ الثّانِي لِاتَّخَذْتُمْ لِظُهُورِهِ وعِلْمِهِمْ بِهِ ولِشَناعَةِ ذِكْرِهِ وتَقْدِيرِهِ مَعْبُودًا أوْ إلَهًا وبِهِ تَظْهَرُ فائِدَةُ ذِكْرِ (مِن بَعْدِهِ) لِزِيادَةِ التَّشْنِيعِ بِأنَّهم كانُوا جَدِيرِينَ بِانْتِظارِهِمُ الشَّرِيعَةَ الَّتِي تَزِيدُهم كَمالًا لا بِالنُّكُوصِ عَلى أعْقابِهِمْ عَمّا كانُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ والِانْغِماسِ في نِعَمِ اللَّهِ تَعالى وبِأنَّهم كانُوا جَدِيرِينَ بِالوَفاءِ لِمُوسى فَلا يُحْدِثُوا ما أحْدَثُوا في مَغِيبِهِ بَعْدَ أنْ رَأوْا مُعْجِزَتَهُ وبَعْدَ أنْ نَهاهم عَنْ هاتِهِ العِبادَةِ لَمّا قالُوا لَهُ ﴿اجْعَلْ لَنا إلَهًا كَما لَهُمُ آلِهَةٌ قالَ إنَّكم قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ [الأعراف: ١٣٨] الآيَةَ. وفائِدَةُ ذِكْرِ ”مِن“ لِلْإشارَةِ إلى أنَّ الِاتِّخاذَ ابْتَدَأ مِن أوَّلِ أزْمانِ بَعْدِيَّةِ مَغِيبِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ (p-٥٠٠)وهَذِهِ أيْضًا حالَةٌ غَرِيبَةٌ لِأنَّ شَأْنَ التَّغَيُّرِ عَنِ العَهْدِ أنْ يَكُونَ بَعْدَ طُولِ المَغِيبِ عَلى أنَّهُ ضَعْفٌ في العَهْدِ كَما قالَ الحَرْثُ بْنُ كِلْدَةَ: ؎فَما أدْرِي أغَيَّرَهم تَناءٍ ∗∗∗ وطُولُ العَهْدِ أمْ مالٌ أصابُوا فَفِي قَوْلِهِ (مِن بَعْدِهِ) تَعْرِيضٌ بِقِلَّةِ وفائِهِمْ في حِفْظِ عَهْدِ مُوسى. وقَوْلُهُ مِن بَعْدِهِ أيْ بَعْدَ مَغِيبِهِ وتَقْدِيرُ المُضافِ مَعَ (بَعْدِ) المُضافِ إلى اسْمِ المُتَحَدَّثِ عَنْهُ شائِعٌ في كَلامِ العَرَبِ لِظُهُورِهِ بِحَسَبِ المَقامِ وإذا لَمْ يَكُنْ ما يَعْنِيهِ مِنَ المَقامِ فالأكْثَرُ أنَّهُ يُرادُ بِهِ بَعْدَ المَوْتِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى﴿قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا﴾ [غافر: ٣٤] وقَوْلِهِ ﴿ألَمْ تَرَ إلى المَلَأِ مِن بَنِي إسْرائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسى﴾ [البقرة: ٢٤٦] وإنَّما اتَّخَذُوا العِجْلَ تَشَبُّهًا بِالكَنْعانِيِّينَ الَّذِينَ دَخَلُوا إلى أرْضِهِمْ وهُمُ الفِنِيقِيُّونَ سُكّانُ سَواحِلِ بِلادِ الشّامِ فَإنَّهم كانُوا عَبَدَةَ أوْثانٍ وكانَ العِجْلُ مُقَدَّسًا عِنْدَهم وكانُوا يُمَثِّلُونَ أعْظَمَ الآلِهَةِ عِنْدَهم بِصُورَةِ إنْسانٍ مِن نُحاسٍ لَهُ رَأْسُ عِجْلٍ جالِسٍ عَلى كُرْسِيٍّ مادًّا ذِراعَيْهِ كَمُتَناوِلِ شَيْءٍ يَحْتَضِنُهُ وكانُوا يَحْمُونَهُ بِالنّارِ مِن حُفْرَةٍ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ لا يَتَفَطَّنُ لَها النّاسُ فَكانُوا يُقَرِّبُونَ إلَيْهِ القَرابِينَ ورُبَّما قَرَّبُوا لَهُ أطْفالَهم صِغارًا فَإذا وُضِعَ الطِّفْلُ عَلى ذِراعَيْهِ اشْتَوى فَظَنُّوا ذَلِكَ أمارَةَ قَبُولِ القُرْبانِ فَتَبًّا لِجَهْلِهِمْ وما يَصْنَعُونَ. وكانَ يُسَمّى عِنْدَهم بَعْلًا ورُبَّما سَمَّوْهُ (مَوْلُوكَ) وهم أُمَّةٌ سامِيَةٌ لُغَتُها وعَوائِدُها تُشْبِهُ في الغالِبِ لُغَةَ وعَوائِدَ العَرَبِ فَلَمّا مَرَّ بِهِمْ بَنُو إسْرائِيلَ قالُوا لِمُوسى اجْعَلْ لَنا إلَهًا كَما لَهم آلِهَةٌ فانْتَهَرَهم مُوسى وكانُوا يَخْشَوْنَهُ فَلَمّا ذَهَبَ لِلْمُناجاةِ واسْتَخْلَفَ عَلَيْهِمْ هارُونَ اسْتَضْعَفُوهُ وظَنُّوا أنَّ مُوسى هَلَكَ فاتَّخَذُوا العِجْلَ الَّذِي صَنَعُوهُ مِن ذَهَبٍ وفِضَّةٍ مِن حُلِيِّهِمْ وعَبَدُوهُ. وقَوْلُهُ وأنْتُمْ ظالِمُونَ حالٌ مُقَيِّدَةٌ لِاتَّخَذْتُمْ لِيَكُونَ الِاتِّخاذُ مُقْتَرِنًا بِالظُّلْمِ مِن مَبْدَئِهِ إلى مُنْتَهاهُ. وفائِدَةُ الحالِ الإشْعارُ بِانْقِطاعِ عُذْرِهِمْ فِيما صَنَعُوا، وأنْ لا تَأْوِيلَ لَهم في عِبادَةِ العِجْلِ، أوْ لِأنَّهم كانُوا مُدَّةَ إقامَتِهِمْ بِمِصْرَ مُلازِمِينَ لِلتَّوْحِيدِ مُحافِظِينَ عَلى وصِيَّةِ إبْراهِيمَ ويَعْقُوبَ لِذُرِّيَّتِهِما بِمُلازَمَةِ التَّوْحِيدِ فَكانَ انْتِقالُهم إلى الإشْراكِ بَعْدَ أنْ جاءَهم رَسُولٌ انْتِقالًا عَجِيبًا. فَلِذَلِكَ كانُوا ظالِمِينَ في هَذا الصُّنْعِ ظُلْمًا مُضاعَفًا فالظّاهِرُ أنْ لَيْسَ المُرادُ بِالظُّلْمِ في هاتِهِ الآيَةِ الشِّرْكَ والكُفْرَ وإنْ كانَ مِن مَعانِي الظُّلْمِ في اصْطِلاحِ القُرْآنِ لِظُهُورِ أنَّ اتِّخاذَ العِجْلِ (p-٥٠١)ظُلْمٌ فَلا يَكُونُ لِلْحالِ مَعَهُ تَوَقُّعٌ. وقَدِ اطَّلَعْتُ بَعْدَ هَذا عَلى تَفْسِيرِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ عَرَفَةَ التُّونُسِيِّ فَوَجَدْتُهُ قالَ وأنْتُمْ ظالِمُونَ أيْ لا شُبْهَةَ لَكم في اتِّخاذِهِ. وقَوْلُهُ ﴿ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكم مِن بَعْدِ ذَلِكَ﴾ هو مَحَلُّ المِنَّةِ وعَطْفُهُ بِثُمَّ لِتَراخِي رُتْبَةِ هَذا العَفْوِ في أنَّهُ أعْظَمُ مِن جَمِيعِ تِلْكَ النِّعَمِ الَّتِي سَبَقَ عَدُّها فَفِيهِ زِيادَةُ المِنَّةِ فالمَقْصُودُ مِنَ الكَلامِ هو المَعْطُوفُ بِثُمَّ وأمّا ما سَبَقَ مِن قَوْلِهِ ﴿وإذْ واعَدْنا مُوسى أرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ إلَخْ؛ فَهو تَمْهِيدٌ لَهُ وتَوْصِيفٌ لِما حَفَّ بِهَذا العَفْوِ مِن عِظَمِ الذَّنْبِ. وقَوْلُهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ حالٌ مِن ضَمِيرِ عَفَوْنا مُقَيِّدَةٌ لِلْعَفْوِ إعْجابًا بِهِ أيْ هو عَفْوٌ حالَ حُصُولِهِ بَعْدَ ذَلِكَ الذَّنْبِ العَظِيمِ ولَيْسَ ظَرْفًا لَغْوًا مُتَعَلِّقًا بِعَفَوْنا حَتّى يُقالَ إنَّ ثُمَّ دَلَّتْ عَلى مَعْناهُ فَيَكُونُ تَأْكِيدًا لِمَدْلُولِ ثُمَّ تَأْخِيرُ العَفْوِ فِيهِ وإظْهارُ شَناعَتِهِ بِتَأْخِيرِ العَفْوِ عَنْهُ وإنَّما جاءَ قَوْلُهُ ذَلِكَ مُقْتَرِنًا بِكافِ خِطابِ الواحِدِ في خِطابِ الجَماعَةِ لِأنَّ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ أكْثَرَ أسْماءِ الإشارَةِ اسْتِعْمالًا بِالإفْرادِ؛ إذْ خِطابُ المُفْرَدِ أكْثَرُ غَلَبٍ فاسْتُعْمِلَ لِخِطابِ الجَمْعِ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ الكافَ قَدْ خَرَجَتْ عَنْ قَصْدِ الخِطابِ إلى مَعْنى البَعْدِ ومِثْلُ هَذا في كَلامِ العَرَبِ كَثِيرٌ لِأنَّ التَّثْنِيَةَ والجَمْعَ شَيْئانِ خِلافُ الأصْلِ لا يُصارُ إلَيْهِما إلّا عِنْدَ تَعْيِينِ مَعْناهُما فَإذا لَمْ يُقْصَدْ تَعْيِينُ مَعْناهُما فالمَصِيرُ إلَيْهِما اخْتِيارٌ مَحْضٌ. وقَوْلُهُ لَعَلَّكم تَشْكُرُونَ رَجاءٌ لِحُصُولِ شُكْرِكم، وعَدَلَ عَنْ لامِ التَّعْلِيلِ إيماءً إلى أنَّ شُكْرَهم مَعَ ذَلِكَ أمْرٌ يَتَطَرَّقُهُ احْتِمالُ التَّخَلُّفِ فَذِكْرُ حَرْفِ الرَّجاءِ دُونَ حَرْفِ التَّعْلِيلِ مِن بَدِيعِ البَلاغَةِ فَتَفْسِيرُ لَعَلَّ بِمَعْنى لِكَيْ يُفِيدُ هَذِهِ الخُصُوصِيَّةَ وقَدْ تَقَدَّمَ كَيْفِيَّةُ دِلالَةِ لَعَلَّ عَلى الرَّجاءِ في كَلامِ اللَّهِ تَعالى عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿يا أيُّها النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة: ٢١] إلى قَوْلِهِ لَعَلَّكم تَتَّقُونَ ومَعْنى الشُّكْرِ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الفاتحة: ٢] ولِلْغَزالِيِّ فِيهِ بابٌ حافِلٌ عَدَلْنا عَنْ ذِكْرِهِ لِطُولِهِ فارْجِعْ إلَيْهِ في كِتابِ الإحْياءِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب