الباحث القرآني

﴿وإذْ واعَدْنا مُوسى أرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ لَمّا جاوَزَ بَنُو إسْرائِيلَ البَحْرَ سَألُوا مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ أنْ يَأْتِيَهم بِكِتابٍ مِن عِنْدِ اللَّهِ، فَوَعَدَهُ سُبْحانَهُ أنْ يُعْطِيَهُ التَّوْراةَ، وقَبِلَ مُوسى ذَلِكَ، وضَرَبَ لَهُ مِيقاتًا ذا القِعْدَةِ وعَشَرَ ذِي الحِجَّةِ، أوْ ذا الحِجَّةِ وعَشَرَ المُحَرَّمِ، فالمُفاعَلَةُ عَلى بابِها، وهي مِن طَرَفِ فِعْلٍ، ومِن آخَرَ قَبُولُهُ، مِثْلُ: عالَجْتُ المَرِيضَ، وإنْكارُ جَوازِ ذَلِكَ لا يُسْمَعُ مَعَ وُرُودِهِ في كَلامِ العَرَبِ، وتَصْرِيحِ الأئِمَّةِ بِهِ، وارْتِضائِهِمْ لَهُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ﴿واعَدْنا﴾ مِن بابِ المُوافاةِ، ولَيْسَ مِنَ الوَعْدِ في شَيْءٍ، وإنَّما هو مِن قَوْلِكَ: مَوْعِدُكَ يَوْمَ كَذا، ومَوْضِعَ كَذا، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى وعَدْنا، وبِهِ قَرَأ أبُو عَمْرٍو، أوْ يُقَدَّرُ المُلاقاةُ، أوْ يُقالُ بِالتَّفْكِيكِ إلى فِعْلَيْنِ، فَيُقَدَّرُ الوَحْيُ في أحَدِهِما، والمَجِيءُ في الآخَرِ، ولا مَحْذُورَ في شَيْءٍ كَما حَقَّقَهُ الدّامِغانِيُّ، وقَوْلُ أبِي عُبَيْدَةَ: المُواعَدَةُ لا تَكُونُ إلّا مِنَ البَشَرِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وقَوْلُ أبِي حاتِمٍ: أكْثَرُ ما تَكُونُ مِنَ المَخْلُوقِينَ المُتَكافِئِينَ عَلى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ لا يَضُرُّنا، وأرْبَعِينَ مَفْعُولٌ بِهِ مَحْذُوفُ المُضافِ بِأدْنى مُلابَسَةٍ، أيْ إعْطاءَ أرْبَعِينَ، أيْ عِنْدَ انْقِضائِها، أوْ في العَشْرِ الأخِيرِ مِنها، أوْ في كُلِّها، أوْ في أوَّلِها عَلى اخْتِلافِ الرِّواياتِ، أوْ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ وقَعَ صِفَةً لِمَفْعُولٍ مَحْذُوفٍ لِواعَدْنا، أيْ واعَدْنا مُوسى أمْرًا كائِنًا في أرْبَعِينَ، وقِيلَ: مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، أيْ واعَدْنا مُوسى مُواعَدَةَ أرْبَعِينَ لَيْلَةٍ. ومِنَ النّاسِ مَن ذَهَبَ إلى أنَّ الأوْلى أنْ لا يُقَدَّرَ مَفْعُولٌ، لِأنَّ المَقْصُودَ بَيانُ مَن وُعِدَ لا ما وُعِدَ، ويَنْصَبُّ الأرْبَعِينَ عَلى الإجْراءِ مَجْرى المَفْعُولِ بِهِ تَوَسُّعًا، وفِيهِ مُبالَغَةٌ بِجَعْلِ مِيقاتِ الوَعْدِ مَوْعُودًا، وجَعْلِ الأرْبَعِينَ ظَرْفًا لِواعَدْنا، عَلى حَدِّ: جاءَ زَيْدٌ يَوْمَ الخَمِيسِ، لَيْسَ بِشَيْءٍ، كَما لا يَخْفى، ( ومُوسى ) اسْمٌ أعْجَمِيٌّ لا يَنْصَرِفُ لِلْعَلَمِيَّةِ والعُجْمَةِ، ويُقالُ: هو مُرَكَّبٌ مِن (مُو) وهو الماءُ، (وشى) وهو الشَّجَرُ، وغُيِّرَ إلى (سى) بِالمُهْلَمَةِ، وكَأنَّ مَن سَمّاهُ بِهِ أرادَ ماءَ البَحْرِ، والتّابُوتَ الَّذِي قُذِفَ فِيهِ، وخاضَ بَعْضُهم في وزْنِهِ، فَعَنْ سِيبَوَيْهِ: إنَّ وزْنَهُ مُفْعَلٌ، وقِيلَ: إنَّهُ فُعْلى، وهو مُشْتَقٌّ مِن ماسَ يَمِيسُ، فَأُبْدِلَتِ الياءُ واوًا لِضَمِّ ما قَبْلَها، كَما قالُوا: طُوبى، وهي مِن ذَواتِ الياءِ، لِأنَّها مِن طابَ يَطِيبُ، ويُبْعِدُهُ أنَّ الإجْماعَ عَلى صَرْفِهِ نَكِرَةٌ، ولَوْ كانَ فُعْلى لَمْ يَنْصَرِفْ لِأنَّ ألِفَ التَّأْنِيثِ وحْدَها تَمْنَعُ الصَّرْفَ في المَعْرِفَةِ والنَّكِرَةِ عَلى أنَّ زِيادَةَ المِيمِ أوَّلًا أكْثَرُ مِن زِيادَةِ الألِفِ آخِرًا، وعَبَّرَ سُبْحانَهُ وتَعالى عَنْ ذَلِكَ الوَقْتِ بِاللَّيالِي دُونَ الأيّامِ لِأنَّ افْتِتاحَ المِيقاتِ كانَ مِنَ اللَّيْلِ، واللَّيالِي غُرَرُ شُهُورِ العَرَبِ، لِأنَّها وُضِعَتْ عَلى سَيْرِ القَمَرِ، والهِلالُ إنَّما يُهِلُّ بِاللَّيْلِ، أوْ لِأنَّ الظُّلْمَةَ أقْدَمُ مِنَ الضَّوْءِ بِدَلِيلِ ﴿وآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنهُ النَّهارَ﴾ أوْ إشارَةً إلى مُواصَلَةِ الصَّوْمِ لَيْلًا ونَهارًا، ولَوْ كانَ التَّفْسِيرُ بِاليَوْمِ أمْكَنَ أنْ يُعْتَقَدَ أنَّهُ كانَ يُفْطِرُ بِاللَّيْلِ، فَلَمّا نَصَّ عَلى اللَّيالِي فُهِمَ مِن قُوَّةِ الكَلامِ أنَّهُ واصَلَ أرْبَعِينَ لَيْلَةً بِأيّامِها، والقَوْلُ بِأنَّ ذِكْرَ اللَّيْلَةِ كانَ لِلْإشْعارِ بِأنَّ وعْدَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ بِقِيامِ اللَّيْلِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأنَّ المَرْوِيَّ أنَّ المَأْمُورَ بِهِ كانَ الصِّيامَ، لا القِيامَ، وقَدْ يُقالُ مِن طَرِيقِ الإشارَةِ: إنَّ ذِكْرَ اللَّيْلَةِ لِلرَّمْزِ إلى أنَّ هَذِهِ المُواعَدَةَ كانَتْ بَعْدَ تَمامِ السَّيْرِ إلى اللَّهِ تَعالى، ومُجاوَزَةِ بَحْرِ العَوائِقِ والعَلائِقِ، وهُناكَ يَكُونُ السَّيْرُ في اللَّهِ تَعالى الَّذِي لا تُدْرَكُ حَقِيقَتُهُ، ولا تُعْلَمُ هُوِيَّتُهُ، ولا يُرى في بَيْداءِ جَبَرُوتِهِ إلّا الدَّهْشَةُ والحَيْرَةُ، وهَذا السَّيْرُ مُتَفاوِتٌ بِاعْتِبارِ الأشْخاصِ والأزْمانِ، ولِي مَعَ اللَّهِ تَعالى وقْتٌ يُشِيرُ إلى ذَلِكَ، ﴿ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ العِجْلَ مِن بَعْدِهِ وأنْتُمْ ظالِمُونَ﴾ الِاتِّخاذُ يَجِيءُ بِمَعْنى ابْتِداءِ صَنْعَةٍ، فَيَتَعَدّى لِواحِدٍ نَحْوَ: اتَّخَذْتُ سَيْفًا، أيْ صَنَعْتَهُ، وبِمَعْنى اتِّخاذِ وصْفٍ، فَيَجْرِي مَجْرى الجَعْلِ ويَتَعَدّى (p-258)لِاِثْنَيْنِ نَحْوَ: اتَّخَذْتُ زَيْدًا صَدِيقًا، والأمْرانِ مُحْتَمَلانِ في الآيَةِ، والمَفْعُولُ الثّانِي عَلى الِاحْتِمالِ الثّانِي مَحْذُوفٌ لِشَناعَتِهِ، أيِ اتَّخَذْتُمُ العِجْلَ الَّذِي صَنَعَهُ السّامِرِيُّ إلَهًا، والذَّمُّ فِيهِ ظاهِرٌ، لِأنَّهم كُلَّهم عَبَدُوهُ إلّا هارُونَ مَعَ اثْنَيْ عَشَرَ ألْفًا، أوْ إلّا هارُونَ والسَّبْعِينَ الَّذِينَ كانُوا مَعَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، وعَلى الِاحْتِمالِ الأوَّلِ لا حاجَةَ إلى المَفْعُولِ الثّانِي، ويُؤَيِّدُهُ عَدَمُ التَّصْرِيحِ بِهِ في مَوْضِعٍ مِن آياتِ هَذِهِ القِصَّةِ، والذَّمُّ حِينَئِذٍ لِما تَرَتَّبَ عَلى الِاتِّخاذِ مِنَ العِبادَةِ أوْ عَلى نَفْسِ الِاتِّخاذِ لِذَلِكَ، والعَرَبُ تَذُمُّ أوْ تَمْدَحُ القَبِيلَةَ بِما صَدَرَ عَنْ بَعْضِها، والعِجْلُ: ولَدُ البَقَرَةِ الصَّغِيرُ، وجَعَلَهُ الصُّوفِيَّةُ إشارَةً إلى عِجْلِ النَّفْسِ النّاقِصَةِ وشَهَواتِها، وكَوْنُ ما اتَّخَذُوهُ عِجْلًا ظاهِرٌ في أنَّهُ صارَ لَحْمًا ودَمًا، فَيَكُونُ عِجْلًا حَقِيقَةً، ويَكُونُ نِسْبَةُ الخُوارِ إلَيْهِ فِيما يَأْتِي حَقِيقَةً أيْضًا، وهو الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الحَسَنُ، وقِيلَ: أرادَ سُبْحانَهُ بِالعِجْلِ ما يُشْبِهُهُ في الصُّورَةِ والشَّكْلِ، ونِسْبَةُ الخُوارِ إلَيْهِ مَجازٌ، وهو الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الجُمْهُورُ، وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى الكَلامُ عَلى ذَلِكَ. ومِنَ الغَرِيبِ إنَّ هَذا إنَّما سُمِّيَ عِجْلًا لِأنَّهم عَجَّلُوا بِهِ قَبْلَ قُدُومِ مُوسى، فاتَّخَذُوهُ إلَهًا، أوْ لِقِصَرِ مُدَّتِهِ، حَيْثُ إنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنَ المِيقاتِ حَرَقَهُ ونَسَفَهُ في اليَمِّ نَسْفًا، والضَّمِيرُ في بَعْدِهِ راجِعٌ إلى مُوسى، أيْ بَعْدَ ما رَأيْتُمْ مِنهُ مِنَ التَّوْحِيدِ، والتَّنْزِيهِ، والحَمْلِ عَلَيْهِ والكَفِّ عَمّا يُنافِيهِ، وذِكْرُ الظَّرْفِ لِلْإيذانِ بِمَزِيدِ شَناعَةِ فِعْلِهِمْ، ولا يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ مُوسى مُتَّخِذًا إلَهًا كَما وُهِمَ، لِأنَّ مَفْهُومَ الكَلامِ أنْ يَكُونَ الِاتِّخاذُ بَعْدَ مُوسى، ومِن أيْنَ يُفْهَمُ اتِّخاذُ مُوسى سِيَّما في هَذا المَقامِ؟ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ في الكَلامِ حَذْفٌ، وأقْرَبُ ما يُحْذَفُ مَصْدَرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ ﴿واعَدْنا﴾، أيْ مِن بَعْدِ مُواعَدَتِهِ، وقِيلَ: المَحْذُوفُ الذَّهابُ المَدْلُولُ عَلَيْهِ بِالمُواعَدَةِ، لِأنَّها تَقْتَضِيهِ، والجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ في مَوْضِعِ الحالِ، ومُتَعَلِّقُ الظُّلْمِ الإشْراكُ، ووَضْعُ العِبادَةِ في غَيْرِ مَوْضِعِها، وقِيلَ: الكَفُّ عَنِ الِاعْتِراضِ عَلى ما فَعَلَ السّامِرِيُّ، وعَدَمُ الإنْكارِ عَلَيْهِ، وفائِدَةُ التَّقْيِيدِ بِالحالِ الإشْعارُ بِكَوْنِ الِاتِّخاذِ ظُلْمًا بِزَعْمِهِمْ أيْضًا، لَوْ راجَعُوا عُقُولَهم بِأدْنى تَأمُّلٍ، وقِيلَ: الجُمْلَةُ غَيْرُ حالٍ، بَلْ مُجَرَّدُ إخْبارٍ أنَّ سَجِيَّتَهُمُ الظُّلْمُ، وإنَّما راجَ فِعْلُ السّامِرِيِّ عِنْدَهم لِغايَةِ حُمْقِهِمْ، وتَسَلُّطِ الشَّيْطانِ عَلَيْهِمْ، كَما يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ سائِرُ أفْعالِهِمْ، واتِّخاذُ السّامِرِيِّ لَهُمُ العِجْلَ دُونَ سائِرِ الحَيَواناتِ قِيلَ: لِأنَّهم مَرُّوا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أصْنامٍ لَهم عَلى صُوَرِ البَقَرِ، فَقالُوا: ﴿اجْعَلْ لَنا إلَهًا كَما لَهم آلِهَةٌ﴾ فَهَجَسَ في نَفْسِ السّامِرِيِّ أنَّ فِتْنَتَهم مِن هَذِهِ الجِهَةِ، فاتَّخَذَ لَهم ذَلِكَ، وقِيلَ: إنَّهُ كانَ هو مِن قَوْمٍ يَعْبُدُونَ البَقَرَ، وكانَ مُنافِقًا فاتَّخَذَ عِجْلًا مِن جِنْسِ ما يَعْبُدُهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب