الباحث القرآني

ولَمّا كانَ فَرْقُ البَحْرِ لِلْإبْقاءِ البَدَنِيِّ وكانَ إنْزالُ الكِتابِ لِلْإبْقاءِ الدِّينِيِّ عَقَّبَهُ بِهِ وكانَ الطَّبْعُ السَّلِيمُ والمِزاجُ المُسْتَقِيمُ يَقْتَضِي إحْسانَ العَمَلِ (p-٣٦١)زَمَنَ المُواعِدَةِ واسْتِعْطافِ المُواعِدِ والتَّرَفُّقَ لَهُ والتَّمَلُّقَ بِما تَحَقَّقَ الرَّجاءُ في إنْجازِ وعْدِهِ لا سِيَّما بَعْدَ بَلِيغِ إحْسانِهِ بِالإنْجاءِ مِنَ العَدُوِّ وإهْلاكِهِ نَعى عَلَيْهِمْ عَمَلَهم بِخِلافِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ”وإذْ“ . وقالَ الحَرالِّيُّ: لَمّا ذَكَّرَهم تَعالى بِأمْرِ الوَفاءِ بِالعَهْدِ الَّذِي هو خاتِمَةُ أمْرِهِمْ وبِالتَّفْصِيلِ الَّذِي كانَ بادِيَةَ أمْرِهِمْ نَظَمَ ذَلِكَ بِالأمْرِ المُتَوَسِّطِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ الَّذِي أعْلاهُ مُواعَدَةُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ رَبَّهُ الَّذِي النِّعْمَةُ عَلَيْهِ نِعْمَةٌ عَلَيْهِمْ فَقالَ: ﴿وإذْ واعَدْنا﴾ مِنَ (p-٣٦٢)الوَعْدِ وهو التَّرْجِيَةُ بِالخَيْرِ، ووَعَدَنا مِنَ المُواعَدَةِ وهي التَّقَدُّمُ في اللِّقاءِ والِاجْتِماعِ والمُفاوَضَةِ ونَحْوِهِ ﴿مُوسى﴾ كَلِمَةٌ مُعَرَّبَةٌ مِن لَفْظِ العِبْرانِيِّ بِما تَفْسِيرُهُ فِيما يُقالُ ماءٌ وشَجَرٌ، سُمِّيَ بِهِ لِما أُودِعَ فِيهِ مِنَ التّابُوتِ المَقْذُوفِ في اليَمِّ ﴿أرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ هي كَمالُ وقْتِ اللَّيْلِ، واللَّيْلُ وقْتُ انْطِماسِ المُدْرَكاتِ الظّاهِرَةِ. انْتَهى. وخَصَّ اللَّيْلَ بِالذِّكْرِ إشارَةً إلى أنَّ ألَذَّ المُناجاةِ فِيهِ وإلى أنَّهُ لا نَوْمَ في تِلْكَ المُدَّةِ بَلِ المُناجاةُ عامَّةٌ لِلَيْلِها ونَهارِها، وانْتَصَبَ ”أرْبَعِينَ“ بِوُقُوعِهِ مَوْقِعَ المَفْعُولِ الثّانِي لِوَعْدِنا أيِ انْقِضاءِ أرْبَعِينَ أيِ الكَلامِ أوْ إنْزالِ التَّوْراةِ عِنْدَ انْقِضاءِ الأرْبَعِينَ وهي ذُو القِعْدَةِ وعَشْرٌ مِن ذِي الحِجَّةِ وقِيلَ ذُو الحِجَّةِ وعَشْرٌ مِنَ المُحَرَّمِ. قالَ الحَرالِّيُّ: وفِيهِ إشْعارٌ بِأنَّ المُناجاةَ إنَّما يَتَهَيَّأُ لَها لِمِيقاتِ حَبْسِ النَّفْسِ عَمّا بِهِ قِوامُها وكَمالُ ذَلِكَ إنَّما (p-٣٦٣)هُوَ الصَّوْمُ وكَمالُ العَدَدِ الَّذِي هو طَوْرُ مَصِيرٍ مِن حالٍ إلى حالٍ هو الأرْبَعُونَ، وذِكْرُ المِيقاتِ بِاللَّيالِي يُشْعِرُ أنَّ مُناجاتَهُ صَباحٌ مِن ظُلْمَةِ الكَوْنِ في حالِ خُصُوصِ الخِلْقَةِ مِن حَيْثُ إنَّ الظُّلْمَةَ آيَةٌ عَلى فَوْتِ مَرامِ نُورِ الحَقِّ، والنَّهارُ آيَةٌ عَلى ظُهُورِ نُورِ الحَقِّ، وأوَّلُ بادٍ بَدَأ مِنَ الحَقِّ لِلْخَلْقِ كَلامُهُ لِمُصْطَفًى مِن خَلْقِهِ بِغَيْرِ واسِطَةٍ وهو بَعْدُ في دُنْياهُ وفي أرْضِهِ الَّتِي كانَتْ سِجْنًا، فَلَمّا جاءَها الحَقُّ لِعَبْدٍ مِن عَبِيدِهِ مُناجِيًا لَهُ كَما يَأْتِيها يَوْمَ الجَزاءِ بَعْدَ البَعْثِ صارَتْ مَوْطِنَ رَحْمَةٍ وهُدًى ونُورٍ وهو مَجِيءُ اللَّهِ سُبْحانَهُ مِن سَيْناءَ المَذْكُورُ في الكِتابِ الأوَّلِ. انْتَهى. وهَذا دُونَ قِصَّةِ المِعْراجِ الَّتِي كانَتْ لِنَبِيِّنا ﷺ في اخْتِراقِ السَّماواتِ العُلى إلى سِدْرَةِ المُنْتَهى إلى ما لا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ تَعالى وسَمِعَ الكَلامَ مِن غَيْرِ واسِطَةٍ ورَجَعَ إلى بَيْتِهِ في لَيْلَتِهِ وقَدْ قَطَعَ مِنَ المَسافاتِ ما مَسِيرَتُهُ خَمْسُونَ ألْفَ سَنَةٍ كَما سَأُبَيِّنُهُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى في سُورَةِ السَّجْدَةِ. ولَمّا كانَتِ الأنْفُسُ الأبِيَّةُ والهِمَمُ العَلِيَّةُ تَقْتَضِي النُّفْرَةَ مِنَ الظّالِمِ والأنَفَةَ مِن كُلِّ ما يُنْسَبُ إلَيْهِ ويُذَكِّرُ بِهِ وكانُوا قَدِ اتَّخَذُوا مِن آثارِ آلِ فِرْعَوْنَ مِن حُلِّيِّهِمْ ما دَخَلُوا في رِقِّهِ وعُبُودِيَّتِهِ وكانَتْ مُشاهَدَتُهم لِما رَأوْا مِنَ الآياتِ مُقْتَضِيَةً لِغايَةِ البُعْدِ مِنَ الكُفْرِ عَبَّرَ عَنْ مُواقَعَتِهِمْ لَهُ (p-٣٦٤)بِـ ”ثُمَّ“ فَقالَ: ﴿ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ﴾ قالَ الحَرالِّيُّ: مِنَ الِاتِّخاذِ وهو افْتِعالٌ مِمّا مِنهُ المُواخَذَةُ كَأنَّهُ الوَخْذُ، وهو تَصْيِيرٌ في المَعْنى نَحْوُ الأخْذِ في الحِسِّ، وفِيهِ تَكَلُّفٌ، ﴿العِجْلَ﴾ وذَكَرَ في هَذا التَّقْرِيرِ أصْلَ المُواعَدَةِ وذَكَرَ المِيقاتَ وتَجاوَزَ الخِطابُ ما بَعْدَ ذَلِكَ مِن مُهَلٍ حَسَبَ ما تُفْهِمُهُ كَلِمَةُ ”ثُمَّ“، فاقْتَضى إفْهامُ ذَلِكَ ما نالُوهُ مِنَ الخَيْرِ ثُمَّ تَعَقَّبُوا ذَلِكَ بِالتِزامِ عادَتِهِمْ في مُعاوَدَةِ ما اعْتادُوهُ مِن أعْمالِهِمْ إلى أدْنى عَمَلِ مَن لا عَقْلَ لَهُ ولا بَقِيَّةَ نَظَرِ لَهُ مِنِ اتِّخاذِ جَسَدِ عَجَلٍ إلَهًا بَعْدَ مَعْرِفَةِ آثارِ الإلَهِيَّةِ عَلى الغَيْبِ، فَفِيهِ تَعْجِيبٌ مِن أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ إنَّما واعَدَهُ اللَّهُ بِالمُناجاةِ بَعْدَ مِيقاتِ أرْبَعِينَ صَوْمًا ونُسُكًا وتَحَنُّثًا وانْقِطاعًا إلى رَبِّهِ ثُمَّ يُرُونَهم أنَّهم شَهِدُوا الإلَهَ مُصَوَّرًا مَحْسُوسًا عَلى أنَّ مُوسى الَّذِي ناجاهُ رَبُّهُ مُنِعَ الرُّؤْيَةَ فَكَيْفَ (p-٣٦٥)بِهِمْ وذَلِكَ هو ظُلْمُهم، فَوَضَعُوا الإلَهَ مَحَلَّ الشَّيْءِ المَحْسُوسِ وهو تَعالى قَدْ تَعالى عَنْ أنْ يَراهُ صَفِيُّهُ الَّذِي ناجاهُ في دُنْياهُ وإنَّما ناجاهُ بَعْدَ مِيقاتِهِ، وهم يَهُمُّونَ في تَألُّهِ مَرْئِيٍّ مِن غَيْرِ مُواعَدَةٍ ولا اخْتِصاصٍ ! وفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِن بَعْدِهِ﴾ أيْ مِن بَعْدِ إتْيانِهِ لِمِيعادِنا إضْمارٌ لِذِكْرِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ تَقْرِيرًا لِما كانَ يَنْبَغِي أنْ يَكُونُوا عَلَيْهِ مِنَ الِارْتِقابِ لِما يَأْتِيهِمْ بِهِ مُوسى (p-٣٦٦)مِن فَوائِدِ المُناجاةِ، كَما يَكُونُ مَن تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِمَن هو قُدْوَتُهُ؛ والبُعْدُ بَعْدٌ عَنْ حَدٍّ يُتَّخَذُ مَبْدَأً لِيَكُونَ سابِقَهُ قَبْلُ ولاحِقَهُ بَعْدُ. انْتَهى. وإثْباتُ الجارِّ لِأنَّ اتِّخاذَهم ذَلِكَ لَمْ يَسْتَغْرِقْ زَمانَ البُعْدِ ﴿وأنْتُمْ ظالِمُونَ﴾ فاعِلُونَ فِعْلَ مَن هو في أظْلَمِ الظَّلامِ بَعْدَ إنْجائِكم مُوسى بِالنُّورِ المُبِينِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب