الباحث القرآني

﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكم مِن قَبْلِ أنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ ولا خُلَّةٌ ولا شَفاعَةٌ والكافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾ . مَوْقِعُ هَذِهِ الآيَةِ مِثْلُ مَوْقِعِ ﴿مَن ذا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ [البقرة: ٢٤٥] الآيَةَ. لِأنَّهم لَمّا دَعاهم إلى بَذْلِ نُفُوسِهِمْ لِلْقِتالِ في سَبِيلِ اللَّهِ فَقالَ: ﴿وقاتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٤٤] شَفَعَهُ بِالدَّعْوَةِ إلى بَذْلِ المالِ في الجِهادِ بِقَوْلِهِ: ﴿مَن ذا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضاعِفُهُ لَهُ أضْعافًا كَثِيرَةً﴾ [البقرة: ٢٤٥] عَلى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ: ﴿وجاهِدُوا بِأمْوالِكم وأنْفُسِكم في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٤١] وكانَتْ هَذِهِ الآيَةُ في قُوَّةِ التَّذْيِيلِ لِآيَةِ: ﴿مَن ذا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ [البقرة: ٢٤٥] لِأنَّ صِيغَةَ هَذِهِ الآيَةِ (p-١٤)أظْهَرُ في إرادَةِ عُمُومِ الإنْفاقِ المَطْلُوبِ في الإسْلامِ، فالمُرادُ بِالإنْفاقِ هُنا ما هو أعَمُّ مِنَ الإنْفاقِ في سَبِيلِ اللَّهِ، ولِذَلِكَ حُذِفَ المَفْعُولُ والمُتَعَلِّقُ لِقَصْدِ الِانْتِقالِ إلى الأمْرِ بِالصَّدَقاتِ الواجِبَةِ وغَيْرِها، وسَتَجِيءُ آياتٌ في تَفْصِيلِ ذَلِكَ. وقَوْلُهُ: ﴿مِمّا رَزَقْناكُمْ﴾ حَثٌّ عَلى الإنْفاقِ واسْتِحْقاقٌ فِيهِ. وقَوْلُهُ: ﴿مِن قَبْلِ أنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ﴾ حَثٌّ آخَرُ لِأنَّهُ يُذَكِّرُ بِأنَّ هُنالِكَ وقْتًا تَنْتَهِي الأعْمالُ إلَيْهِ ويَتَعَذَّرُ الِاسْتِدْراكُ فِيهِ، واليَوْمُ هو يَوْمُ القِيامَةِ، وانْتِفاءُ البَيْعِ والخُلَّةِ والشَّفاعَةِ كِنايَةٌ عَنْ تَعَذُّرِ التَّدارُكِ لِلْفائِتِ، لِأنَّ المَرْءَ يُحَصِّلُ ما يَعُوزُهُ بِطُرُقٍ هي المُعاوَضَةُ المُعَبَّرُ عَنْها بِالبَيْعِ والِارْتِفاقِ مِنَ الغَيْرِ وذَلِكَ بِسَبَبِ الخُلَّةِ، أوْ بِسَبَبِ تَوَسُّطِ الواسِطَةِ إلى مَن لَيْسَ بِخَلِيلٍ. والخُلَّةُ - بِضَمِّ الخاءِ - المَوَدَّةُ والصُّحْبَةُ، ويَجُوزُ كَسْرُ الخاءِ ولَمْ يَقْرَأْ بِهِ أحَدٌ، وتُطْلَقُ الخُلَّةُ - بِالضَّمِّ - عَلى الصَّدِيقِ تَسْمِيَةً بِالمَصْدَرِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الواحِدُ وغَيْرُهُ والمُذَكَّرُ وغَيْرُهُ قالَ الحَماسِيُّ: ؎ألا أبْلِغا خُلَّتِي راشِدًا وصِنْوِي قَدِيمًا إذا ما اتَّصَلْ وقالَ كَعْبٌ: أكْرِمْ بِها خُلَّةً. . . .، البَيْتَ. فَيَجُوزُ أنْ يُرادَ هُنا بِالخُلَّةِ المَوَدَّةُ، ونَفْيُ المَوَدَّةِ في ذَلِكَ نَفْيٌ لِحُصُولِ أثَرِها وهو الدَّفْعُ عَنِ الخَلِيلِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿واخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ ولَدِهِ ولا مَوْلُودٌ هو جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئًا﴾ [لقمان: ٣٣] ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ نَفْيُ الخَلِيلِ كِنايَةٌ عَنْ نَفْيِ لازِمِهِ، وهو النَّفْعُ كَقَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ ولا بَنُونَ﴾ [الشعراء: ٨٨] قالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ: ؎وقالَ كُلُّ خَلِيلٍ كُنْتُ آمُلُهُ ∗∗∗ لا أُلْهِيَنَّكَ إنِّي عَنْكَ مَشْغُولُ وقَرَأ الجُمْهُورُ (لا بَيْعٌ فِيهِ) - وما بَعْدَهُ - بِالرَّفْعِ لِأنَّ المُرادَ بِالبَيْعِ والخُلَّةِ والشَّفاعَةِ الأجْناسُ لا مَحالَةَ، إذْ هي مِن أسْماءِ المَعانِي الَّتِي لا آحادَ لَها في الخارِجِ فَهي أسْماءُ أجْناسٍ لا نَكِراتٌ، ولِذَلِكَ لا يَحْتَمِلُ نَفْيُها إرادَةَ نَفْيِ الواحِدِ حَتّى يَحْتاجَ عِنْدَ قَصْدِ (p-١٥)التَّنْصِيصِ عَلى إرادَةِ نَفْيِ الجِنْسِ إلى بِناءِ الِاسْمِ عَلى الفَتْحِ، بِخِلافِ نَحْوِ: لا رَجُلَ في الدّارِ، و: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، ولِهَذا جاءَتِ الرِّوايَةُ في قَوْلِ إحْدى صَواحِبِ أُمِّ زَرْعٍ: «زَوْجِي كَلَيْلِ تِهِامَةَ لا حَرٌّ ولا قُرٌّ، ولا مَخافَةٌ ولا سَآمَةٌ» بِالرَّفْعِ لا غَيْرُ، لِأنَّها أسْماءُ أجْناسٍ كَما في هَذِهِ الآيَةِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو ويَعْقُوبُ بِالفَتْحِ لِنَفْيِ الجِنْسِ نَصًّا. فالقِراءَتانِ مُتَساوِيَتانِ مَعْنًى، ومِنَ التَّكَلُّفِ هُنا قَوْلُ البَيْضاوِيِّ: إنَّ وجْهَ قِراءَةِ الرَّفْعِ وُقُوعُ النَّفْيِ في تَقْدِيرِ جَوابٍ لِسُؤالٍ قائِلٍ: هَلْ بَيْعٌ فِيهِ أوْ خُلَّةٌ أوْ شَفاعَةٌ. والشَّفاعَةُ الوَساطَةُ في طَلَبِ النّافِعِ، والسَّعْيُ إلى مَن يُرادُ اسْتِحْقاقُ رِضاهُ عَلى مَغْضُوبٍ مِنهُ عَلَيْهِ أوْ إزالَةُ وحْشَةٍ أوْ بَغْضاءَ بَيْنَهُما، فَهي مُشْتَقَّةٌ مِنَ الشَّفْعِ ضِدِّ الوَتْرِ، يُقالُ: شَفَعَ كَمَنَعَ، إذا صَيَّرَ الشَّيْءَ شَفْعًا، وشَفَعَ أيْضًا كَمَنَعَ إذا سَعى في الإرْضاءِ ونَحْوِهِ؛ لِأنَّ المَغْضُوبَ عَلَيْهِ والمَحْرُومَ يَبْعُدُ عَنْ واصِلِهِ فَيَصِيرُ وتْرًا، فَإذا سَعى الشَّفِيعُ بِجَلْبِ المَنفَعَةِ والرِّضا فَقَدْ أعادَهُما شَفْعًا، فالشَّفاعَةُ تَقْتَضِي مَشْفُوعًا إلَيْهِ ومَشْفُوعًا فِيهِ، وهي - في عُرْفِهِمْ - لا يَتَصَدّى لَها إلّا مَن يَتَحَقَّقُ قَبُولَ شَفاعَتِهِ، ويُقالُ: شَفَعَ فُلانٌ عِنْدَ فُلانٍ في فُلانٍ فَشَفَّعَهُ فِيهِ أيْ فَقَبِلَ شَفاعَتَهُ، وفي الحَدِيثِ: «قالُوا هَذا جَدِيرٌ إنْ خَطَبَ بِأنْ يُنْكَحَ وإنْ شَفَعَ بِأنْ يُشَفَّعَ» . وبِهِذا يَظْهَرُ أنَّ الشَّفاعَةَ تَكُونُ في دَفْعِ المَضَرَّةِ وتَكُونُ في جَلْبِ المَنفَعَةِ، قالَ: ؎فَذاكَ فَتًى إنْ تَأْتِهِ في صَنِيعَةٍ ∗∗∗ إلى مالِهِ لا تَأْتِهِ بِشَفِيعِ ومِمّا جاءَ في مَنشُورِ الخَلِيفَةِ القادِرِ بِاللَّهِ السُّلْطانِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ الغَزْنَوِيِّ: ولَّيْناكَ كُورَةَ خُراسانَ ولَقَّبْناكَ يَمِينَ الدَّوْلَةِ، بِشَفاعَةِ أبِي حامِدٍ الإسْفَرائِينِيِّ. أيْ: بِواسِطَتِهِ ورَغْبَتِهِ. فالشَّفاعَةُ في العُرْفِ تَقْتَضِي إدْلالَ الشَّفِيعِ عِنْدَ المَشْفُوعِ لَدَيْهِ، ولِهَذا نَفاها اللَّهُ تَعالى هُنا بِمَعْنى نَفْيِ اسْتِحْقاقِ أحَدٍ مِنَ المَخْلُوقاتِ أنْ يَكُونَ شَفِيعًا عِنْدَ اللَّهِ بِإدْلالٍ. وأثْبَتَها في آياتٍ أُخْرى كَقَوْلِهِ قَرِيبًا: ﴿مَن ذا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلّا بِإذْنِهِ﴾ [البقرة: ٢٥٥] وقَوْلِهِ: (p-١٦)﴿ولا يَشْفَعُونَ إلّا لِمَنِ ارْتَضى﴾ [الأنبياء: ٢٨] وثَبَتَتْ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلامُ في أحادِيثَ كَثِيرَةٍ، وأُشِيرَ إلَيْها بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿عَسى أنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا﴾ [الإسراء: ٧٩] وفُسِّرَتِ الآيَةُ بِذَلِكَ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ، ولِذَلِكَ كانَ مِن أُصُولِ اعْتِقادِنا إثْباتُ الشَّفاعَةِ لِلنَّبِيءِ ﷺ، وأنْكَرَها المُعْتَزِلَةُ وهم مُخْطِئُونَ في إنْكارِها ومُلَبِّسُونَ في اسْتِدْلالِهِمْ، والمَسْألَةُ مَبْسُوطَةٌ في كُتُبِ الكَلامِ. والشَّفاعَةُ المَنفِيَّةُ هَنا مُرادٌ بِها الشَّفاعَةُ الَّتِي لا يَسَعُ المَشْفُوعَ إلَيْهِ رَدُّها، فَلا يُعارِضُ ما ورَدَ مِن شَفاعَةِ النَّبِيءِ ﷺ في الأحادِيثِ الصَّحِيحَةِ لِأنَّ تِلْكَ كَرامَةٌ أكْرَمَهُ اللَّهُ تَعالى بِها وأذِنَ لَهُ فِيها إذْ يَقُولُ: «اشْفَعْ تُشَفَّعْ» فَهي تَرْجِعُ إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَن ذا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلّا بِإذْنِهِ﴾ [البقرة: ٢٥٥] وقَوْلِهِ ﴿ولا يَشْفَعُونَ إلّا لِمَنِ ارْتَضى﴾ [الأنبياء: ٢٨] وقَوْلِهِ: ﴿ولا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إلّا لِمَن أذِنَ لَهُ﴾ [سبإ: ٢٣] . وقَوْلُهُ: ﴿والكافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾ صِيغَةُ قَصْرٍ نَشَأتْ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿لا بَيْعٌ فِيهِ ولا خُلَّةٌ ولا شَفاعَةٌ﴾ فَدَلَّتْ عَلى أنَّ ذَلِكَ النَّفْيَ تَعْرِيضٌ وتَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ فَعَقَّبَ بِزِيادَةِ التَّغْلِيظِ عَلَيْهِمْ والتَّنْدِيدِ بِأنَّ ذَلِكَ التَّهْدِيدَ والمُهَدَّدَ بِهِ قَدْ جَلَبُوهُ لِأنْفُسِهِمْ بِمُكابَرَتِهِمْ فَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ، وهَذا أشَدُّ وقْعًا عَلى المُعاقَبِ لِأنَّ المَظْلُومَ يَجِدُ لِنَفْسِهِ سَلْوًا بِأنَّهُ مُعْتَدًى عَلَيْهِ، فالقَصْرُ قَصْرُ قَلْبٍ، بِتَنْزِيلِهِمْ مَنزِلَةَ مَن يَعْتَقِدُ أنَّهم مَظْلُومُونَ، ولَكَ أنْ تَجْعَلَهُ قَصْرًا حَقِيقِيًّا ادِّعائِيًّا لِأنَّ ظُلْمَهم لَمّا كانَ أشَدَّ الظُّلْمِ جُعِلُوا كَمَنِ انْحَصَرَ الظُّلْمُ فِيهِمْ. والمُرادُ بِالكافِرِينَ ظاهِرًا المُشْرِكُونَ، وهَذا مِن بَدائِعِ بَلاغَةِ القُرْآنِ، فَإنَّ هَذِهِ الجُمْلَةَ صالِحَةٌ أيْضًا لِتَذْيِيلِ الأمْرِ بِالإنْفاقِ في سَبِيلِ اللَّهِ، لِأنَّ ذَلِكَ الإنْفاقَ لِقِتالِ المُشْرِكِينَ الَّذِينَ بَدَءُوا الدِّينَ بِالمُناوَأةِ، فَهُمُ الظّالِمُونَ لا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يُقاتِلُونَهم لِحِمايَةِ الدِّينِ والذَّبِّ عَنْ حَوْزَتِهِ، وذِكْرُ الكافِرِينَ في مَقامِ التَّسْجِيلِ فِيهِ تَنْزِيهٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَنْ أنْ يَتْرُكُوا الإنْفاقَ إذْ لا يُظَنُّ بِهِمْ ذَلِكَ، فَتَرْكُهُ والكُفْرُ مُتَلازِمانِ. فالكافِرُونَ يَظْلِمُونَ أنْفُسَهم، والمُؤْمِنُونَ لا يَظْلِمُونَها، وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ووَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ﴾ [فصلت: ٦] ﴿الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ﴾ [فصلت: ٧] وذَلِكَ أنَّ القُرْآنَ يُصَوِّرُ المُؤْمِنِينَ في أكْمَلِ مَراتِبِ الإيمانِ ويُقابِلُ حالَهم بِحالِ الكُفّارِ تَغْلِيظًا وتَنْزِيهًا، ومِن هَذِهِ الآيَةِ وأمْثالِها اعْتَقَدَ بَعْضُ فِرَقِ الإسْلامِ أنَّ المَعاصِيَ تُبْطِلُ الإيمانَ كَما قَدَّمْناهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب