الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤) ﴾ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا في سبيل الله مما رزقناكم من أموالكم، وتصدقوا منها، وآتوا منها الحقوق التي فرضناها عليكم. وكذلك كان ابن جريج يقول فيما بلغنا عنه: ٥٧٦٠ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم"، قال: من الزكاة والتطوع. * * * ="من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة"، يقول: ادخروا لأنفسكم عند الله في دنياكم من أموالكم، بالنفقة منها في سبيل الله، والصدقة على أهل المسكنة والحاجة، وإيتاء ما فرض الله عليكم فيها، وابتاعوا بها ما عنده مما أعده لأوليائه من الكرامة، بتقديم ذلك لأنفسكم، ما دام لكم السبيل إلى ابتياعه، بما ندبتكم إليه، وأمرتكم به من النفقة من أموالكم="من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه"، يعني من قبل مجيء يوم لا بيع فيه، يقول: لا تقدرون فيه على ابتياع ما كنتم على ابتياعه- بالنفقة من أموالكم التي رزقتكموها- بما أمرتكم به، أو ندبتكم إليه في الدنيا قادرين، [[في المطبوعة والمخطوطة: "بالنفقة من أموالكم التي أمرتكم به"، وهو كلام مختل، سقط فيما أرجح ما أثبته: "رزقتكموها، بما". وسياق العبارة: ما كنتم على ابتياعه ... بما أمرتكم به ... قادرين". والذي بينهما فواصل.]] لأنه يوم جزاء وثواب وعقاب، لا يوم عمل واكتساب وطاعة ومعصية، فيكون لكم إلى ابتياع منازل أهل الكرامة بالنفقة حينئذ- أو بالعمل بطاعة الله، سبيل [[في المطبوعة والمخطوطة: "فيكون لهم إلى ابتياع ... " والصواب في هذا السياق: "لكم وقوله: "سبيل" اسم كان في"فيكون لكم إلى ابتياع ... ".]] . ثم أعلمهم تعالى ذكره أن ذلك اليوم = مع ارتفاع العمل الذي ينال به رضى الله أو الوصول إلى كرامته بالنفقة من الأموال، [[ارتفاع العمل: انقضاؤه وذهابه. يقال: "ارتفع الخصام بينهما"، و"ارتفع الخلاف" أي انقضى وذهب، فلم يبق ما يختلفان عليه أو يختصمان. وهو مجاز من"ارتفع الشيء ارتفاعا": إذا علا. وهذا معنى لم تقيده المعاجم، وهو عربى صحيح كثير الورود في كتب العلماء، ن وقد سلف في كلام أبي جعفر، وشرحته ولا أعرف موضعه الساعة.]] إذ كان لا مال هنالك يمكن إدراك ذلك به = يوم لا مخالة فيه نافعة كما كانت في الدنيا، فإن خليل الرجل في الدنيا قد كان ينفعه فيها بالنصرة له على من حاوله بمكروه وأراده بسوء، والمظاهرة له على ذلك. فآيسهم تعالى ذكره أيضا من ذلك، لأنه لا أحد يوم القيامة ينصر أحدا من الله، بل ﴿الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ﴾ كما قال الله تعالى ذكره، [[هى آية"سورة الزخرف": ٦٧.]] وأخبرهم أيضا أنهم يومئذ= مع فقدهم السبيل إلى ابتياع ما كان لهم إلى ابتياعه سبيل في الدنيا بالنفقة من أموالهم، والعمل بأبدانهم، وعدمهم النصراء من الخلان، والظهراء من الإخوان [[النصراء جمع نصير. والخلان جمع خليل: والظهراء جمع ظهير: وهو المعين الذي يقوى ظهرك ويشد أزرك.]] = لا شافع لهم يشفع عند الله كما كان ذلك لهم في الدنيا، فقد كان بعضهم يشفع في الدنيا لبعض بالقرابة والجوار والخلة، وغير ذلك من الأسباب، فبطل ذلك كله يومئذ، كما أخبر تعالى ذكره عن قيل أعدائه من أهل الجحيم في الآخرة إذا صاروا فيها: ﴿فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾ [الشعراء: ١٠٠-١٠١] * * * وهذه الآية مخرجها في الشفاعة عام والمراد بها خاص، وإنما معناه:"من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة"، لأهل الكفر بالله، لأن أهل ولاية الله والإيمان به، يشفع بعضهم لبعض. وقد بينا صحة ذلك بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع [[انظر ما سلف ٢: ٢٣، ٣٣.]] . * * * وكان قتادة يقول في ذلك بما:- ٥٧٦١ - حدثنا به بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة"، قد علم الله أن ناسا يتحابون في الدنيا، ويشفع بعضهم لبعض، فأما يوم القيامة فلا خلة إلا خلة المتقين. * * * وأما قوله:"والكافرون هم الظالمون"، فإنه يعني تعالى ذكره بذلك: والجاحدون لله المكذبون به وبرسله="هم الظالمون"، يقول: هم الواضعون جحودهم في غير موضعه، والفاعلون غير ما لهم فعله، والقائلون ما ليس لهم قوله. * * * وقد دللنا على معنى"الظلم" بشواهده فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته [[انظر معنى"الكفر" فيما سلف من فهارس اللغة / ومعنى"الظلم" فيما سلف ١: ٥٢٣، ٥٢٤، وفي فهارس اللغة.]] . * * * قال أبو جعفر: وفي قوله تعالى ذكره في هذا الموضع:"والكافرون هم الظالمون"، دلالة واضحة على صحة ما قلناه، وأن قوله:"ولا خلة ولا شفاعة"، إنما هو مراد به أهل الكفر، فلذلك أتبع قوله ذلك:"والكافرون هم الظالمون". فدل بذلك على أن معنى ذلك: حرمنا الكفار النصرة من الأخلاء، والشفاعة من الأولياء والأقرباء، ولم نكن لهم في فعلنا ذلك بهم ظالمين، إذ كان ذلك جزاء منا لما سلف منهم من الكفر بالله في الدنيا، بل الكافرون هم الظالمون أنفسهم بما أتوا من الأفعال التي أوجبوا لها العقوبة من ربهم. * * * فإن قال قائل: وكيف صرف الوعيد إلى الكفار والآية مبتدأة بذكر أهل الإيمان؟ قيل له: إن الآية قد تقدمها ذكر صنفين من الناس: أحدهما أهل كفر، والآخر أهل إيمان، وذلك قوله:"ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر". ثم عقب الله تعالى ذكره الصنفين بما ذكرهم به، بحض أهل الإيمان به على ما يقربهم إليه من النفقة في طاعته [[في المطبوعة: "يحض" بالياء في أوله، فعلا. وهي في المخطوطة غير منقوطة، وصواب قراءتها بباء الجر، اسما. وقوله: "بحض"، متعلق بقوله: "ثم عقب الله".]] وفي جهاد أعدائه من أهل الكفر به، قبل مجيء اليوم الذي وصف صفته. وأخبر فيه عن حال أعدائه من أهل الكفر به، إذ كان قتال أهل الكفر به في معصيته ونفقتهم في الصد عن سبيله، فقال تعالى ذكره: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا أنتم مما رزقناكم في طاعتي، إذ كان أهل الكفر بي ينفقون في معصيتي= من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه فيدرك أهل الكفر فيه ابتياع ما فرطوا في ابتياعه في دنياهم= ولا خلة لهم يومئذ تنصرهم مني، ولا شافع لهم يشفع عندي فتنجيهم شفاعته لهم من عقابي. وهذا يومئذ فعلي بهم جزاء لهم على كفرهم، [[في المخطوطة والمطبوعة: "وهذا يومئذ فعل بهم"، وصواب السياق يقتضى ما أثبت.]] وهم الظالمون أنفسهم دوني، لأني غير ظلام لعبيدي. وقد:- ٥٧٦٢ - حدثني محمد بن عبد الرحيم، قال: حدثني عمرو بن أبي سلمة، قال: سمعت عمر بن سليمان، يحدث عن عطاء بن دينار أنه قال: الحمد لله الذي قال:"والكافرون هم الظالمون"، ولم يقل:"الظالمون هم الكافرون".
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب