الباحث القرآني

﴿وهْوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ وجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وأنْهارًا ومِن كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ﴾ [الرعد: ٢] فَبَيْنَ الجُمْلَتَيْنِ شِبْهُ التَّضادِّ اشْتَمَلَتِ الأُولى عَلى ذِكْرِ العَوالِمِ العُلْوِيَّةِ وأحْوالِها، واشْتَمَلَتِ الثّانِيَةُ عَلى ذِكْرِ العَوالِمِ السُّفْلِيَّةِ. والمَعْنى: أنَّهُ خالِقُ جَمِيعِ العَوالِمِ وأعْراضِها. والمَدُّ: البَسْطُ والسِّعَةُ، ومِنهُ: ظِلٌّ مَدِيدٌ. ومِنهُ مَدُّ البَحْرِ وجَزْرُهُ، ومَدَّ يَدَهُ إذا بَسَطَها. والمَعْنى: خَلَقَ الأرْضَ مَمْدُودَةً مُتَّسِعَةً لِلسَّيْرِ والزَّرْعِ لِأنَّهُ لَوْ خَلَقَها أسْنِمَةً مِن حَجَرٍ أوْ جِبالًا شاهِقَةً مُتَلاصِقَةً لَما تَيَسَّرَ لِلْأحْياءِ الَّتِي عَلَيْها الِانْتِفاعُ بِها والسَّيْرُ مِن مَكانٍ إلى آخَرَ في طَلَبِ الرِّزْقِ وغَيْرِهِ. ولَيْسَ المُرادُ أنَّها كانَتْ غَيْرَ مَمْدُودَةٍ فَمَدَّها بَلْ هو كَقَوْلِهِ ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ﴾ [الرعد: ٢] . فَهَذِهِ خِلْقَةٌ دالَّةٌ عَلى القُدْرَةِ وعَلى اللُّطْفِ بِعِبادِهِ فَهي آيَةٌ ومِنَّةٌ. والرَّواسِي: جَمْعُ راسٍ. وهو الثّابِتُ المُسْتَقِرُّ، أيْ جِبالًا رَواسِيَ. وقَدْ حُذِفَ مَوْصُوفُهُ لِظُهُورِهِ فَهو كَقَوْلِهِ ﴿ولَهُ الجَوارِي﴾ [الرحمن: ٢٤]، أيِ السُّفُنُ الجارِيَةُ. وسَيَأْتِي في قَوْلِهِ ﴿وألْقى في الأرْضِ رَواسِيَ﴾ [النحل: ١٥] في سُورَةِ النَّحْلِ بِأبْسَطَ مِمّا هُنا. وجِيءَ في جَمْعِ راسٍ بِوَزْنِ فَواعِلَ؛ لِأنَّ المَوْصُوفَ بِهِ غَيْرُ عاقِلٍ، ووَزْنُ فَواعِلَ يَطَّرِدُ فِيما مُفْرَدُهُ صِفَةٌ لِغَيْرِ عاقِلٍ مِثْلَ: صاهِلٍ وبازِلٍ. والِاسْتِدْلالُ بِخَلْقِ الجِبالِ عَلى عَظِيمِ القُدْرَةِ لِما في خَلْقِها مِنَ العَظَمَةِ المُشاهَدَةِ بِخِلافِ خِلْقَةِ المَعادِنِ والتُّرابِ فَهي خَفِيَّةٌ، كَما قالَ تَعالى ﴿وإلى الجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ﴾ [الغاشية: ١٩] . (p-٨٣)والأنْهارُ: جَمْعُ نَهْرٍ، وهو الوادِي العَظِيمُ. وتَقَدَّمَ في سُورَةِ البَقَرَةِ ﴿إنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكم بِنَهَرٍ﴾ [البقرة: ٢٤٩] . وقَوْلُهُ ومِن كُلِّ الثَّمَراتِ عَطْفٌ عَلى (أنْهارًا) فَهو مَعْمُولٌ لِـ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ، ودُخُولُ (مِن) عَلى (كُلِّ) جَرى عَلى الِاسْتِعْمالِ العَرَبِيِّ في ذِكْرِ أجْناسِ غَيْرِ العاقِلِ كَقَوْلِهِ وبَثَّ فِيها مِن كُلِّ دابَّةٍ، و(مِن) هَذِهِ تُحْمَلُ عَلى التَّبْعِيضِ؛ لِأنَّ حَقائِقَ الأجْناسِ لا تَنْحَصِرُ والمَوْجُودُ مِنها ما هو إلّا بَعْضُ جُزْئِيّاتِ الماهِيَّةِ؛ لِأنَّ مِنها جُزْئِيّاتٍ انْقَضَتْ ومِنها جُزْئِيّاتٍ سَتُوجَدُ. والمُرادُ بِـ (الثَّمَراتِ) هي وأشْجارُها. وإنَّما ذُكِرَتِ الثَّمَراتُ لِأنَّها مَوْقِعُ مِنَّةٍ مَعَ العِبْرَةِ كَقَوْلِهِ ﴿فَأخْرَجْنا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَراتِ﴾ [الأعراف: ٥٧] . فَيَنْبَغِي الوَقْفُ عَلى ومِن كُلِّ الثَّمَراتِ، وبِذَلِكَ انْتَهى تَعْدادُ المَخْلُوقاتِ المُتَّصِلَةِ بِالأرْضِ. وهَذا أحْسَنُ تَفْسِيرًا. ويُعَضِّدُهُ نَظِيرُهُ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿يُنْبِتُ لَكم بِهِ الزَّرْعَ والزَّيْتُونَ والنَّخِيلَ والأعْنابَ ومِن كُلِّ الثَّمَراتِ إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: ١١] في سُورَةِ النَّحْلِ. وقِيلَ: إنَّ قَوْلَهُ ومِن كُلِّ الثَّمَراتِ ابْتِداءُ كَلامٍ. وتَتَعَلَّقُ مِن كُلِّ الثَّمَراتِ بِـ ﴿جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾، وبِهَذا فَسَّرَ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ. ويُبْعِدُهُ أنَّهُ لا نُكْتَةَ في تَقْدِيمِ الجارِّ والمَجْرُورِ عَلى عامِلِهِ عَلى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ؛ لِأنَّ جَمِيعَ المَذْكُورِ مَحَلُّ اهْتِمامٍ فَلا خُصُوصِيَّةَ لِلثَّمَراتِ هُنا، ولِأنَّ الثَّمَراتِ لا يَتَحَقَّقُ فِيها وُجُودُ أزْواجٍ ولا كَوْنُ الزَّوْجَيْنِ اثْنَيْنِ. وأيْضًا فِيهِ فَواتُ المِنَّةِ بِخَلْقِ الحَيَوانِ وتَناسُلِهِ مَعَ أنَّ مِنهُ مُعْظَمَ نَفْعِهِمْ ومَعاشِهِمْ. ومِمّا يُقَرِّبُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى في نَحْوِ هَذا المَعْنى ﴿ألَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهادًا والجِبالَ أوْتادًا وخَلَقْناكم أزْواجًا﴾ [النبإ: ٦]، والمَعْرُوفُ أنَّ الزَّوْجَيْنِ هَمّا الذَّكَرُ والأُنْثى قالَ تَعالى ﴿فَجَعَلَ مِنهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والأُنْثى﴾ [القيامة: ٣٩] . والظّاهِرُ أنَّ جُمْلَةَ ﴿جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ لِلِاهْتِمامِ بِهَذا الجِنْسِ مِنَ المَخْلُوقاتِ وهو جِنْسُ الحَيَوانِ المَخْلُوقِ صِنْفَيْنِ ذَكَرًا وأُنْثى أحَدُهُما زَوْجٌ (p-٨٤)مَعَ الآخَرِ، وشاعَ إطْلاقُ الزَّوْجِ عَلى الذَّكَرِ والأُنْثى مِنَ الحَيَوانِ كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أنْتَ وزَوْجُكَ الجَنَّةَ﴾ [البقرة: ٣٥] في سُورَةِ البَقَرَةِ، وقَوْلُهُ ﴿وخَلَقَ مِنها زَوْجَها﴾ [النساء: ١] في أوَّلِ سُورَةِ النِّساءِ، وقَوْلُهُ ﴿قُلْنا احْمِلْ فِيها مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ [هود: ٤٠]، وأمّا قَوْلُهُ تَعالى ﴿وأنْبَتْنا فِيها مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [ق: ٧] فَذَلِكَ إطْلاقُ الزَّوْجِ عَلى الصِّنْفِ بِناءً عَلى شُيُوعِ إطْلاقِهِ عَلى صِنْفِ الذَّكَرِ وصِنْفِ الأُنْثى فَأُطْلِقَ مَجازًا عَلى مُطْلَقِ صِنْفٍ مِن غَيْرِ ما يَتَّصِفُ بِالذُّكُورَةِ والأُنُوثَةِ بِعَلاقَةِ الإطْلاقِ، والقَرِينَةُ قَوْلُهُ (أنْبَتْنا) مَعَ عَدَمِ التَّثْنِيَةِ، كَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿فَأخْرَجْنا بِهِ أزْواجًا مِن نَباتٍ شَتّى﴾ [طه: ٥٣] في سُورَةِ طَهَ. وتَنْكِيرُ زَوْجَيْنِ لِلتَّنْوِيعِ، أيْ جَعَلَ زَوْجَيْنِ مِن كُلِّ نَوْعٍ. ومَعْنى التَّثْنِيَةِ في زَوْجَيْنِ أنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنَ الزَّوْجِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ زَوْجٌ كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ثَمانِيَةَ أزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ ومِنَ المَعْزِ اثْنَيْنِ﴾ [الأنعام: ١٤٣] الآيَةَ في سُورَةِ الأنْعامِ. والوَصْفُ بِقَوْلِهِ (اثْنَيْنِ) لِلتَّأكُّدِ تَحْقِيقًا لِلِامْتِنانِ. * * * ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ جُمْلَةُ (يُغْشِي) حالٌ مِن ضَمِيرِ (جَعَلَ)، وجِيءَ فِيهِ بِالمُضارِعِ لِما يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ التَّجَدُّدِ؛ لِأنَّ جَعْلَ الأشْياءِ المُتَقَدِّمِ ذِكْرُها جَعْلٌ ثابِتٌ مُسْتَمِرٌّ، وأمّا إغْشاءُ اللَّيْلِ والنَّهارِ فَهو أمْرٌ مُتَجَدِّدٌ كُلَّ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ. وهَذا اسْتِدْلالٌ بِأعْراضِ أحْوالِ الأرْضِ. وذِكْرُهُ مَعَ آياتِ العالَمِ السُّفْلِيِّ في غايَةِ الدِّقَّةِ العِلْمِيَّةِ؛ لِأنَّ اللَّيْلَ والنَّهارَ مِن أعْراضِ الكُرَةِ الأرْضِيَّةِ بِحَسَبِ اتِّجاهِها إلى الشَّمْسِ ولَيْسا مِن أحْوالِ السَّماواتِ إذِ الشَّمْسُ والكَواكِبُ لا يَتَغَيَّرُ حالُها بِضِياءٍ وظُلْمَةٍ. وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى نَظِيرِ قَوْلِهِ ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ﴾ [الأعراف: ٥٤] في أوائِلِ سُورَةِ الأعْرافِ. وقَرَأهُ الجُمْهُورُ بِسُكُونِ الغَيْنِ وتَخْفِيفِ الشِّينِ مُضارِعُ أغْشى. وقَرَأهُ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ، وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ، ويَعْقُوبُ، وخَلَفٌ بِتَشْدِيدِ الشِّينِ مُضارِعُ غَشّى. (p-٨٥)وقَوْلُهُ إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ الإشارَةُ إلى ما تَقَدَّمَ مِن قَوْلِهِ ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ﴾ [الرعد: ٢] إلى هُنا بِتَأْوِيلِ المَذْكُورِ. وجَعَلَ الأشْياءَ المَذْكُوراتِ ظُرُوفًا لِـ (آياتٍ)؛ لِأنَّ كُلَّ واحِدَةٍ مِنَ الأُمُورِ المَذْكُورَةِ تَتَضَمَّنُ آياتٍ عَظِيمَةً يَجْلُوها النَّظَرُ الصَّحِيحُ والتَّفْكِيرُ المُجَرَّدُ عَنِ الأوْهامِ. ولِذَلِكَ أجْرى صِفَةَ التَّفْكِيرِ عَلى لَفْظِ (قَوْمٍ) إشارَةً إلى أنَّ التَّفْكِيرَ المُتَكَرِّرَ المُتَجَدِّدَ هو صِفَةٌ راسِخَةٌ فِيهِمْ بِحَيْثُ جُعِلَتْ مِن مُقَوِّماتِ قَوْمِيَّتِهِمْ، أيْ جِبِلَّتِهِمْ كَما بَيَّنّاهُ في دَلالَةِ لَفْظِ (قَوْمٍ) عَلى ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ في سُورَةِ البَقَرَةِ. وفِي هَذا إيماءٌ إلى أنَّ الَّذِينَ نَسَبُوا أنْفُسَهم إلى التَّفْكِيرِ مِنَ الطَّبائِعِيِّينَ فَعَلَّلُوا صُدُورَ المَوْجُوداتِ عَنِ المادَّةِ ونَفَوُا الفاعِلَ المُخْتارَ ما فَكَّرُوا إلّا تَفْكِيرًا قاصِرًا مَخْلُوطًا بِالأوْهامٍ لَيْسَ ما تَقْتَضِيهِ جِبِلَّةُ العَقْلِ إذِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِمُ العِلَلُ والمَوالِيدُ بِأصْلِ الخَلْقِ والإيجادِ. وجِيءَ في التَّفْكِيرِ بِالصِّيغَةِ الدّالَّةِ عَلى التَّكَلُّفِ وبِصِيغَةِ المُضارِعِ لِلْإشارَةِ إلى تَفْكِيرٍ شَدِيدٍ ومُكَرَّرٍ. والتَّفْكِيرُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى أفَلا تَتَفَكَّرُونَ في سُورَةِ الأنْعامِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب