الباحث القرآني

﷽ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ وجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وأنْهارًا ومِن كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا قَرَّرَ الدَّلائِلَ السَّماوِيَّةَ أرْدَفَها بِتَقْرِيرِ الدَّلائِلِ الأرْضِيَّةِ، فَقالَ: ﴿وهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ﴾ . واعْلَمْ أنَّ الِاسْتِدْلالَ بِخَلْقِهِ الأرْضَ وأحْوالَها مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ الشَّيْءَ إذا تَزايَدَ حَجْمُهُ ومِقْدارُهُ صارَ كَأنَّ ذَلِكَ الحَجْمَ وذَلِكَ المِقْدارَ يَمْتَدُّ، فَقَوْلُهُ: ﴿وهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ﴾ إشارَةٌ إلى أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ هو الَّذِي جَعَلَ الأرْضَ مُخْتَصَّةً بِذَلِكَ المِقْدارِ المُعَيَّنِ الحاصِلِ لَهُ لا أزْيَدَ ولا أنْقَصَ؛ والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ كَوْنَ الأرْضِ أزْيَدَ مِقْدارًا مِمّا هو الآنَ وأنْقَصَ مِنهُ أمْرٌ جائِزٌ مُمْكِنٌ في نَفْسِهِ، فاخْتِصاصُهُ بِذَلِكَ المِقْدارِ المُعَيَّنِ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ بِتَخْصِيصِ وتَقْدِيرِ مُقَدِّرٍ. الثّانِي: قالَ أبُو بَكْرٍ الأصَمُّ: المَدُّ هو البَسْطُ إلى ما لا يُدْرَكُ مُنْتَهاهُ، فَقَوْلُهُ: ﴿وهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ﴾ يُشْعِرُ بِأنَّهُ تَعالى جَعَلَ حَجْمَ الأرْضِ حَجْمًا عَظِيمًا لا يَقَعُ البَصَرُ عَلى مُنْتَهاهُ؛ لِأنَّ الأرْضَ لَوْ كانَتْ أصْغَرَ حَجْمًا مِمّا هي الآنَ عَلَيْهِ لَما كَمُلَ الِانْتِفاعُ بِهِ. والثّالِثُ: قالَ قَوْمٌ: كانَتِ الأرْضُ مُدَوَّرَةً فَمَدَّها ودَحا مِن مَكَّةَ تَحْتَ البَيْتِ فَذَهَبَتْ كَذا وكَذا. وقالَ آخَرُونَ: كانَتْ مُجْتَمِعَةً عِنْدَ البَيْتِ المُقَدَّسِ، فَقالَ لَها: اذْهَبِي كَذا وكَذا. اعْلَمْ أنَّ هَذا القَوْلَ إنَّما يَتِمُّ إذا قُلْنا: الأرْضُ مُسَطَّحَةٌ لا كُرَةٌ، وأصْحابُ هَذا القَوْلِ احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿والأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحاها﴾ [النّازِعاتِ: ٣٠] وهَذا القَوْلُ مُشْكِلٌ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلائِلِ أنَّ الأرْضَ كُرَةٌ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ المُكابَرَةُ فِيهِ؟ فَإنْ قالُوا: وقَوْلُهُ: ﴿مَدَّ الأرْضَ﴾ يُنافِي كَوْنَها كُرَةً، فَكَيْفَ يُمْكِنُ مَدُّها؟ قُلْنا: لا نُسَلِّمُ أنَّ الأرْضَ جِسْمٌ عَظِيمٌ، والكُرَةُ إذا كانَتْ في غايَةِ الكِبَرِ كانَ كُلُّ قِطْعَةٍ مِنها تُشاهَدُ كالسَّطْحِ، والتَّفاوُتُ الحاصِلُ بَيْنَهُ وبَيْنَ السَّطْحِ لا يَحْصُلُ إلّا في عِلْمِ اللَّهِ، ألا تَرى أنَّهُ قالَ: ﴿والجِبالَ أوْتادًا﴾ (p-٤)[النَّبَأِ: ٧] فَجَعَلَها أوْتادًا مَعَ أنَّ العالَمَ مِنَ النّاسِ يَسْتَقِرُّونَ عَلَيْها فَكَذَلِكَ هاهُنا. والثّانِي: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ إنَّما ذُكِرَتْ لِيُسْتَدَلَّ بِها عَلى وُجُودِ الصّانِعِ، والشَّرْطُ فِيهِ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ أمْرًا مُشاهَدًا مَعْلُومًا حَتّى يَصِحَّ الِاسْتِدْلالُ بِهِ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ، وكَوْنُها مُجْتَمِعَةً تَحْتَ البَيْتِ أمْرٌ غَيْرُ مُشاهَدٍ ولا مَحْسُوسٍ، فَلا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلالُ بِهِ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ، فَثَبَتَ أنَّ التَّأْوِيلَ الحَقَّ هو ما ذَكَرْناهُ. * * * والنوع الثّانِي مِنَ الدَّلائِلِ: الِاسْتِدْلالُ بِأحْوالِ الجِبالِ وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿وجَعَلَ فِيها رَواسِيَ﴾ مِن فَوْقِها ثابِتَةً باقِيَةً في أحْيازِها غَيْرَ مُنْتَقِلَةٍ عَنْ أماكِنِها، يُقالُ: رَسا هَذا الوَتِدُ وأرْسَيْتُهُ، والمُرادُ ما ذَكَرْنا. واعْلَمْ أنَّ الِاسْتِدْلالَ بِوُجُودِ الجِبالِ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ القادِرِ الحَكِيمِ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ طَبِيعَةَ الأرْضِ واحِدَةٌ، فَحُصُولُ الجَبَلِ في بَعْضِ جَوانِبِها دُونَ البَعْضِ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ بِتَخْلِيقِ القادِرِ الحَكِيمِ. قالَتِ الفَلاسِفَةُ: هَذِهِ الجِبالُ إنَّما تَوَلَّدَتْ؛ لِأنَّ البِحارَ كانَتْ في هَذا الجانِبِ مِنَ العالَمِ، فَكانَتْ تَتَوَلَّدُ في البَحْرِ طِينًا لَزِجًا، ثُمَّ يَقْوى تَأْثِيرُ الشَّمْسِ فِيها فَيَنْقَلِبُ حَجَرًا كَما يُشاهَدُ في كُوزِ الفِقاعِ، ثُمَّ إنَّ الماءَ كانَ يَغُورُ ويَقِلُّ فَيَتَحَجَّرُ البَقِيَّةُ، فَلِهَذا السَّبَبِ تَوَلَّدَتْ هَذِهِ الجِبالُ. قالُوا: وإنَّما كانْتِ البِحارُ حاصِلَةً في هَذا الجانِبِ مِنَ العالَمِ؛ لِأنَّ أوْجَ الشَّمْسِ وحَضِيضَها مُتَحَرِّكانِ، فَفي الدَّهْرِ الأقْدَمِ كانَ حَضِيضُ الشَّمْسِ في جانِبِ الشَّمالِ، والشَّمْسُ مَتى كانَتْ في حَضِيضِها كانَتْ أقْرَبَ إلى الأرْضِ، فَكانَ التَّسْخِينُ أقْوى، وشِدَّةُ السُّخُونَةِ تُوجِبُ انْجِذابَ الرُّطُوباتِ، فَحِينَ كانَ الحَضِيضُ في جانِبِ الشَّمالِ كانَتِ البِحارُ في جانِبِ الشَّمالِ، والآنَ لَمّا انْتَقَلَ الأوْجُ إلى جانِبِ الشَّمالِ والحَضِيضُ إلى جانِبِ الجَنُوبِ انْتَقَلَتِ البِحارُ إلى جانِبِ الجَنُوبِ، فَبَقِيَتْ هَذِهِ الجِبالُ في جانِبِ الشَّمالِ، هَذا حاصِلُ كَلامِ القَوْمِ في هَذا البابِ، وهو ضَعِيفٌ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ حُصُولَ الطِّينِ في البَحْرِ أمْرٌ عامٌّ، ووُقُوعَ الشَّمْسِ عَلَيْها أمْرٌ عامٌّ، فَلِمَ يَتَّصِلُ هَذا الجَبَلُ في بَعْضِ الجَوانِبِ دُونَ البَعْضِ ؟ والثّانِي: وهو أنّا نُشاهِدُ في بَعْضِ الجِبالِ كَأنَّ تِلْكَ الأحْجارَ مَوْضُوعَةٌ سافًا فَسافًا، فَكَأنَّ البِناءَ لَبِناتٌ كَثِيرَةٌ مَوْضُوعٌ بَعْضُها عَلى بَعْضٍ، ويَبْعُدُ حُصُولُ مِثْلِ هَذا التَّرْكِيبِ مِنَ السَّبَبِ الَّذِي ذَكَرُوهُ. والثّالِثُ: أنَّ أوْجَ الشَّمْسِ الآنَ قَرِيبٌ مِن أوَّلِ السَّرَطانِ، فَعَلى هَذا مِنَ الوَقْتِ الَّذِي انْتَقَلَ أوْجُ الشَّمْسِ إلى الجانِبِ الشَّمالِيِّ مَضى قَرِيبٌ مِن تِسْعَةِ آلافِ سَنَةٍ، وبِهَذا التَّقْدِيرِ: أنَّ الجِبالَ في هَذِهِ المُدَّةِ الطَّوِيلَةِ كانَتْ في التَّفَتُّتِ، فَوَجَبَ أنْ لا يَبْقى مِنَ الأحْجارِ شَيْءٌ، لَكِنْ لَيْسَ الأمْرُ كَذَلِكَ، فَعَلِمْنا أنَّ السَّبَبَ الَّذِي ذَكَرُوهُ ضَعِيفٌ. والوجه الثّانِي مِن الِاسْتِدْلالِ بِأحْوالِ الجِبالِ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ ذِي الجَلالِ: ما يَحْصُلُ فِيها مِن مَعادِنِ الفِلِزّاتِ السَّبْعَةِ ومَواضِعِ الجَواهِرِ النَّفِيسَةِ، وقَدْ يَحْصُلُ فِيها مَعادِنُ الزّاجاتِ والأمْلاحُ، وقَدْ يَحْصُلُ فِيها مَعادِنُ النِّفْطِ والقِيرِ والكِبْرِيتِ، فَكَوْنُ الأرْضِ واحِدَةً في الطَّبِيعَةِ، وكَوْنُ الجَبَلِ واحِدًا في الطَّبْعِ، وكَوْنُ تَأْثِيرِ الشَّمْسِ واحِدًا في الكُلِّ يَدُلُّ دَلِيلًا ظاهِرًا عَلى أنَّ الكُلَّ بِتَقْدِيرِ قادِرٍ قاهِرٍ مُتَعالٍ عَنْ مُشابَهَةِ المُحْدَثاتِ والمُمْكِناتِ. والوجه الثّالِثُ مِنَ الِاسْتِدْلالِ بِأحْوالِ الجِبالِ: أنَّ بِسَبَبِها تَتَوَلَّدُ الأنْهارُ عَلى وجْهِ الأرْضِ، وذَلِكَ أنَّ الحَجَرَ جِسْمٌ صُلْبٌ فَإذا تَصاعَدَتِ الأبْخِرَةُ مِن قَعْرِ الأرْضِ ووَصَلَتْ إلى الجَبَلِ احْتَبَسَتْ هُناكَ فَلا تَزالُ تَتَكامَلُ، فَيَحْصُلُ تَحْتَ الجَبَلِ مِياهٌ عَظِيمَةٌ، ثُمَّ إنَّها لِكَثْرَتِها وقُوَّتِها تَثْقُبُ وتَخْرُجُ وتَسِيلُ عَلى وجْهِ الأرْضِ، فَمَنفَعَةُ الجِبالِ في تَوَلُّدِ الأنْهارِ هو مِن هَذا الوجه، ولِهَذا السَّبَبِ فَفي أكْثَرِ الأمْرِ أيْنَما ذَكَرَ اللَّهُ الجِبالَ قَرَنَ بِها ذِكْرَ الأنْهارِ مِثْلَ ما في هَذِهِ الآيَةِ، ومِثْلَ قَوْلِهِ: ﴿وجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وأسْقَيْناكم ماءً فُراتًا﴾ [المُرْسَلاتِ: ٢٧]. * * * (p-٥)والنوع الثّالِثُ مِنَ الدَّلائِلِ المَذْكُورَةِ في هَذِهِ الآيَةِ: الِاسْتِدْلالُ بِعَجائِبِ خِلْقَةِ النَّباتِ، وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿ومِن كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: أنَّ الحَبَّةَ إذا وُضِعَتْ في الأرْضِ وأثَّرَتْ فِيها نَداوَةُ الأرْضِ رَبَتَ وكَبُرَتْ، وبِسَبَبِ ذَلِكَ يَنْشَقُّ أعْلاها وأسْفَلُها، فَيَخْرُجُ مِنَ الشِّقِّ الأعْلى الشَّجَرَةُ الصّاعِدَةُ في الهَواءِ، ويَخْرُجُ مِنَ الشِّقِّ الأسْفَلِ العُرُوقُ الغائِصَةُ في أسْفَلِ الأرْضِ وهَذا مِنَ العَجائِبِ، لِأنَّ طَبِيعَةَ تِلْكَ الحَبَّةِ واحِدَةٌ وتَأْثِيرُ الطَّبائِعِ والأفْلاكِ والكَواكِبِ فِيها واحِدٌ، ثُمَّ إنَّهُ خَرَجَ مِنَ الجانِبِ الأعْلى مِن تِلْكَ الحَبَّةِ جِرْمٌ صاعِدٌ إلى الهَواءِ، ومِنَ الجانِبِ الأسْفَلِ مِنهُ جِرْمٌ غائِصٌ في الأرْضِ، ومِنَ المُحالِ أنْ يَتَوَلَّدَ مِنَ الطَّبِيعَةِ الواحِدَةِ طَبِيعَتانِ مُتَضادَّتانِ، فَعَلِمْنا أنَّ ذَلِكَ إنَّما كانَ بِسَبَبِ تَدْبِيرِ المُدَبِّرِ الحَكِيمِ والمُقَدِّرِ القَدِيمِ، لا بِسَبَبِ الطَّبْعِ والخاصِّيَّةِ، ثُمَّ إنَّ الشَّجَرَةَ الثّابِتَةَ مِن تِلْكَ الحَبَّةِ بَعْضُها يَكُونُ خَشَبًا وبَعْضُها يَكُونُ نَوْرًا وبَعْضُها يَكُونُ ثَمَرَةً، ثُمَّ إنَّ تِلْكَ الثَّمَرَةَ أيْضًا يَحْصُلُ فِيها أجْسامٌ مُخْتَلِفَةُ الطَّبائِعِ، فالجَوْزُ لَهُ أرْبَعَةُ أنْواعٍ مِنَ القُشُورِ، فالقِشْرُ الأعْلى وتَحْتَهُ القِشْرَةُ الخَشَبَةُ وتَحْتَهُ القِشْرَةُ المُحِيطَةُ بِاللَّبِنَةِ، وتَحْتَ تِلْكَ القِشْرَةِ قِشْرَةٌ أُخْرى في غايَةِ الرِّقَّةِ تَمْتازُ عَمّا فَوْقَها حالَ كَوْنِ الجَوْزِ رَطْبًا، وأيْضًا فَقَدْ يَحْصُلُ في الثَّمَرَةِ الواحِدَةِ الطِّباعُ المُخْتَلِفَةُ، فالأُتْرُجُّ قِشْرُهُ حارٌّ يابِسٌ، ولَحْمُهُ حارٌّ رَطْبٌ، وحُمّاضُهُ بارِدٌ يابِسٌ، وبَزْرُهُ حارٌّ يابِسٌ، ونَوْرُهُ حارٌّ يابِسٌ، وكَذَلِكَ العِنَبُ قِشْرُهُ وعَجَمُهُ بارِدانِ يابِسانِ، ولَحْمُهُ وماؤُهُ حارّانِ رَطْبانِ، فَتَوَلُّدُ هَذِهِ الطَّبائِعِ المُخْتَلِفَةِ مِنَ الحَبَّةِ الواحِدَةِ مَعَ تَساوِي تَأْثِيراتِ الطَّبائِعِ وتَأْثِيراتِ الأنْجُمِ والأفْلاكِ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ لِأجْلِ تَدْبِيرِ الحَكِيمِ القادِرِ القَدِيمِ. المسألة الثّانِيَةُ: المُرادُ بِزَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ: صِنْفَيْنِ اثْنَيْنِ، والِاخْتِلافُ إمّا مِن حَيْثُ الطَّعْمُ كالحُلْوِ والحامِضِ أوِ الطَّبِيعَةُ كالحارِّ والبارِدِ، أوِ اللَّوْنُ كالأبْيَضِ والأسْوَدِ. فَإنْ قِيلَ: الزَّوْجانِ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ اثْنَيْنِ، فَما الفائِدَةُ في قَوْلِهِ: ﴿زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ . قُلْنا: قِيلَ إنَّهُ تَعالى أوَّلَ ما خَلَقَ العالَمَ وخَلَقَ فِيهِ الأشْجارَ خَلَقَ مِن كُلِّ نَوْعٍ مِنَ الأنْواعِ اثْنَيْنِ فَقَطْ، فَلَوْ قالَ: خَلَقَ زَوْجَيْنِ لَمْ يُعْلَمْ أنَّ المُرادَ النوع أوِ الشَّخْصُ، أمّا لَمّا قالَ اثْنَيْنِ عَلِمْنا أنَّ اللَّهَ تَعالى أوَّلَ ما خَلَقَ مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ لا أقَلَّ ولا أزْيَدَ. والحاصِلُ أنَّ النّاسَ فِيهِمُ الآنَ كَثْرَةٌ، إلّا أنَّهم لَمّا ابْتَدَءُوا مِن زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ بِالشَّخْصِ هُما آدَمُ وحَوّاءُ، فَكَذَلِكَ القَوْلُ في جَمِيعِ الأشْجارِ والزَّرْعِ، واللَّهُ أعْلَمُ. النوع الرّابِعُ مِنَ الدَّلائِلِ المَذْكُورَةِ في هَذِهِ الآيَةِ: الِاسْتِدْلالُ بِأحْوالِ اللَّيْلِ والنَّهارِ وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ﴾ والمَقْصُودُ أنَّ الإنْعامَ لا يَكْمُلُ إلّا بِاللَّيْلِ والنَّهارِ وتُعاقُبِهِما، كَما قالَ: ﴿فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً﴾ [الإسْراءِ: ١٢]، ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾ [الأعْرافِ: ٥٤] وقَدْ سَبَقَ الِاسْتِقْصاءُ في تَقْرِيرِهِ فِيما سَلَفَ مِن هَذا الكِتابِ، قَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ: [يُغَشِّي] بِالتَّشْدِيدِ وفَتْحِ الغَيْنِ، والباقُونَ بِالتَّخْفِيفِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ هَذِهِ الدَّلائِلَ النَّيِّرَةَ والقَواطِعَ القاهِرَةَ قالَ: ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ . واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى في أكْثَرِ الأمْرِ حَيْثُ يَذْكُرُ الدَّلائِلَ المَوْجُودَةَ في العالَمِ السُّفْلِيِّ يَذْكُرُ عَقِبَها: ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ أوْ ما يَقْرُبُ مِنهُ بِحَسَبِ المَعْنى، والسَّبَبُ فِيهِ أنَّ الفَلاسِفَةَ يُسْنِدُونَ حَوادِثَ العالَمِ السُّفْلِيِّ إلى الِاخْتِلافاتِ الواقِعَةِ في الأشْكالِ الكَوْكَبِيَّةِ، فَما لَمْ تَقُمِ الدَّلالَةُ عَلى دَفْعِ هَذا السُّؤالِ لا يَتِمُّ (p-٦)المَقْصُودُ، فَلِهَذا المَعْنى قالَ: ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ كَأنَّهُ تَعالى يَقُولُ: مَجالُ الفِكْرِ باقٍ بَعْدُ، ولا بُدَّ بَعْدَ هَذا المَقامِ مِنَ التَّفَكُّرِ والتَّأمُّلِ لِيَتِمَّ الِاسْتِدْلالُ. واعْلَمْ أنَّ الجَوابَ عَنْ هَذا السُّؤالِ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنْ نَقُولَ هَبْ أنَّكم أسْنَدْتُمْ حَوادِثَ العالَمِ السُّفْلِيِّ إلى الأحْوالِ الفَلَكِيَّةِ والِاتِّصالاتِ الكَوْكَبِيَّةِ إلّا أنّا أقَمْنا الدَّلِيلَ القاطِعَ عَلى أنَّ اخْتِصاصَ كُلِّ واحِدٍ مِنَ الأجْرامِ الفَلَكِيَّةِ وطَبْعَهُ ووَضْعَهُ وخاصِّيَّتَهُ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ بِتَخْصِيصِ المُقَدِّرِ القَدِيمِ والمُدَبِّرِ الحَكِيمِ، فَقَدْ سَقَطَ هَذا السُّؤالُ، وهَذا الجَوابُ قَدْ قَرَّرَهُ اللَّهُ تَعالى في هَذا المَقامِ؛ لِأنَّهُ تَعالى ابْتَدَأ بِذِكْرِ الدَّلائِلِ السَّماوِيَّةِ وقَدْ بَيَّنّا أنَّها كَيْفَ تَدُلُّ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أتْبَعَها بِالدَّلائِلِ الأرْضِيَّةِ. فَإنْ قالَ قائِلٌ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الحَوادِثُ الأرْضِيَّةُ لِأجْلِ الأحْوالِ الفَلَكِيَّةِ، كانَ جَوابُنا أنْ نَقُولَ: فَهَبْ أنَّ الأمْرَ كَذَلِكَ إلّا أنّا دَلَّلَنا فِيما تَقَدَّمَ عَلى افْتِقارِ الأجْرامِ الفَلَكِيَّةِ إلى الصّانِعِ الحَكِيمِ، فَحِينَئِذٍ لا يَكُونُ هَذا السُّؤالُ قادِحًا في غَرَضِنا. والوجه الثّانِي مِنَ الجَوابِ: أنْ نُقِيمَ الدَّلالَةَ عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ حُدُوثُ الحَوادِثِ السُّفْلِيَّةِ لِأجْلِ الِاتِّصالاتِ الفَلَكِيَّةِ، وذَلِكَ هو المَذْكُورُ في الآيَةِ الَّتِي تَأْتِي بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ، ومَن تَأمَّلَ في هَذِهِ اللَّطائِفِ ووَقَفَ عَلَيْها عَلِمَ أنَّ هَذا الكِتابَ اشْتَمَلَ عَلى عُلُومِ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب