الباحث القرآني

ولَمّا انْقَضى ما أرادَ مِن آياتِ السَّماواتِ، ثَنّى بِما فِيما ثَنّى بِهِ في آيَةِ يُوسُفَ مِنَ الدَّلالاتِ فَقالَ: ﴿وهُوَ﴾ أيْ وحْدَهُ ﴿الَّذِي مَدَّ الأرْضَ﴾ ولَوْ شاءَ لَجَعَلَها كالجِدارِ أوِ الأزَجِ لا يُسْتَطاعُ القَرارُ عَلَيْها، وهَذا لا يُنافِي أنْ تَكُونَ كُرْيَةً، لِأنَّ الكُرَةَ إذا عَظُمَتْ كانَ كُلُّ قِطْعَةٍ مِنها تُشاهَدُ كالسَّطْحِ، كَما أنَّ الجِبالَ أوْتادٌ والحَيَوانَ يَسْتَقِرُّ عَلَيْها ﴿وجَعَلَ فِيها﴾ جِبالًا مَعَ شُهُوقِها ﴿رَواسِيَ﴾ أيْ ثَوابِتَ، واحِدُها راسِيَةٌ أيْ ثابِتَةٌ باقِيَةٌ في حَيِّزِها غَيْرِ مُنْتَقِلَةٍ عَنْ (p-٢٧٥)أماكِنِها لا تَتَحَرَّكُ، فَلا يَتَحَرَّكُ ما هي راسِيَةٌ فِيهِ. ولَمّا غَلَبَ عَلى الجِبالِ وصَفَها بِالرَّواسِي، صارَتِ الصِّفَةُ تُغْنِي عَنِ المَوْصُوفِ فَجُمِعَتْ جَمْعَ الِاسْمِ كَحائِطٍ وكاهِلٍ - قالَهُ أبُو حَيّانَ، ولَمّا كانَتْ طَبِيعَةُ الأرْضِ واحِدَةً كانَ حُصُولُ الجَبَلِ في جانِبٍ مِنها دُونَ آخَرَ ووُجُودُ المَعادِنِ المُتَخالِفَةِ فِيها تارَةً جَوْهَرِيَّةً، وتارَةً خامِيَّةً، وتارَةً نِفْطِيَّةً، وتارَةً كِبْرِيتِيَّةً - إلى غَيْرِ ذَلِكَ، دَلِيلًا عَلى اخْتِصاصِهِ تَعالى بِتَمامِ القُدْرَةِ والِاخْتِيارِ لِأنَّ الجَبَلَ واحِدٌ في الطَّبْعِ كَما أنَّ تَأْثِيرَ الشَّمْسِ واحِدٌ، فَقالَ تَعالى: ﴿وأنْهارًا﴾ أيْ وجَعَلَ فِيها خارِجَةً [مِنها]، وأكْثَرُ ما تَكُونُ الأنْهارُ مِنَ الجِبالِ، لِأنَّها أجْسامٌ صُلْبَةٌ عالِيَةٌ، وفي خِلالِ الأرْضِ أبْخِرَةٌ فَتَصاعَدَ تِلْكَ الأبْخِرَةُ المُتَكَوِّنَةُ في قَعْرِ الأرْضِ، ولا تَزالُ تُخْرَقُ حَتّى تَصِلَ إلَيْها فَتَحْتَبِسُ بِها فَلا تَزالُ تَتَكامَلُ حَتّى يَعْظُمَ تَكاثُفُها، فَإذا بَرُدَتْ صارَتْ ماءً فَيَحْصُلُ بِسَبَبِها مِياهٌ كَثِيرَةٌ كَما تَنْعَقِدُ الأبْخِرَةُ البُخارِيَّةُ المُتَكاثِفَةُ في أعالِي الحَمّاماتِ إذا بَرُدَتْ وتَتَقاطَرُ، فَإذا تَكامَلَ انْعِقادُ تِلْكَ المِياهِ وعَظُمَتْ شَقَّتْ أسافِلَ (p-٢٧٦)الجِبالِ أوْ غَيْرِها مِنَ الأماكِنِ الَّتِي تَسْتَضْعِفُها لِقُوَّتِها وقُوَّةِ الأبْخِرَةِ المُصاحِبَةِ لَها، فَإنْ كانَ لِتِلْكَ المِياهِ مَدَدٌ مِن جِهَةِ الفَواعِلِ والقَوابِلِ بِحَيْثُ كَلَّما نَبَعَ مِنها شَيْءُ حَدَثَ عَقِيبَهُ شَيْءٌ، وهَكَذا عَلى الِاتِّصالِ فَهي النَّهْرُ، والنَّهْرُ: المَجْرى الواسِعُ مِن مَجارِي الماءِ، وأصْلُهُ الِاتِّساعُ، ومِنهُ النَّهارُ - لِاتِّساعِ ضِيائِهِ. ولَمّا ذَكَرَ الأنْهارَ ذَكَرَ ما يَنْشَأُ عَنِ المِياهِ فَقالَ: ﴿ومِن كُلِّ الثَّمَراتِ﴾ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِما قَبْلَهُ، ثُمَّ يَكُونُ كَأنَّهُ قِيلَ: مَن يَنْتَفِعُ بِهَذِهِ الأشْياءِ؟ فَقِيلَ: ﴿جَعَلَ فِيها﴾ أيِ الأرْضَ ﴿زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ ذَكَرًا وأُنْثى مِن كُلِّ صِنْفٍ مِنَ الحَيَوانِ يَنْتَفِعُ بِها، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِما بَعْدَهُ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وجَعَلَ فِيها مِن كُلِّ الثَّمَراتِ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ذَكَرًا وأُنْثى تَنْتَفِعُ [الأُنْثى] بِلِقاحِها مِنَ الذَّكَرِ أوْ قَرَّبَهُ مِنها فَيَجُودُ ثَمَرُها؛ والثَّمَرَةُ طُعْمَةُ الشَّجَرَةِ، والزَّوْجُ: شَكْلٌ [لَهُ] قَرِينٌ مِن نَظِيرٍ أوْ نَقِيضٌ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: ما الَّذِي يُنْضِجُها؟ فَقالَ: ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ﴾ أيْ والنَّهارَ اللَّيْلَ، فَيَنْضَجُ هَذا بَحْرِّهِ ويُمْسِكُ هَذا بِبَرْدِهِ، فَيَعْتَدِلُ فِعْلُهُما عَلى ما قَدَّرَهُ تَعالى لَهُما في السَّيْرِ مِنَ الزِّيادَةِ والنُّقْصانِ لِلْحَرِّ والبَرْدِ لِلْإخْراجِ والإنْضاجِ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الحِكَمِ النّافِعَةِ في الدِّينِ والدُّنْيا الظّاهِرِ لِكُلِّ ذِي عَقْلٍ أنَّها بِتَدْبِيرِهِ بِفِعْلِهِ (p-٢٧٧)واخْتِيارِهِ وقَهْرِهِ واقْتِدارِهِ. ولَمّا ساقَ سُبْحانَهُ هَذِهِ الآياتِ مُفَصَّلَةً إلى أرْبَعٍ وكانَ فِيها دِقَّةٌ، جَمَعَها وناطَها بِالفِكْرِ فَقالَ: ﴿إنَّ في ذَلِكَ﴾ أيِ الَّذِي وقَعَ التَّحْدِيثُ عَنْهُ مِنَ الآياتِ مُتَعاطِفًا ﴿لآياتٍ﴾ أيْ دَلالاتٌ واضِحاتٌ عَجِيباتٌ باهِراتٌ عَلى أنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مُسْتَنِدٌ إلى قُدْرَتِهِ واخْتِيارِهِ، ونَبَّهَ عَلى أنَّ المَقامَ يَحْتاجُ إلى تَعَبٍ بِتَجْرِيدِ النَّفْسِ مِنَ الهَوى وتَحْكِيمِ العَقْلِ صَرْفًا بِقَوْلِهِ: ﴿لِقَوْمٍ﴾ أيْ ذَوِي قُوَّةٍ زائِدَةٍ عَلى القِيامِ فِيما يُحاوِلُونَهُ ﴿يَتَفَكَّرُونَ﴾ أيْ يَجْتَهِدُونَ في الفِكْرِ، قالَ الرُّمّانِيُّ: وهو تَصَرُّفُ القَلْبِ في طَلَبِ المَعْنى، ومَبْدَأُ ذَلِكَ مَعْنًى يُخْطِرُهُ اللَّهُ تَعالى عَلى بالِ الإنْسانِ فَيَطْلُبُ مُتَعَلِّقاتِهِ الَّتِي فِيها بَيانٌ عَنْهُ مِن كُلِّ وجْهٍ يُمْكِنُ فِيهِ، والخَتْمُ بِالتَّفَكُّرِ إشارَةٌ إلى الِاهْتِمامِ بِإعْطاءِ المَقامِ حَقَّهُ في الرَّدِّ عَلى الفَلاسِفَةِ، فَإنَّهم يُسْنِدُونَ حَوادِثَ العالَمِ السُّفْلِيِّ إلى الِاخْتِلافاتِ الواقِعَةِ في الأشْكالِ الكَوْكَبِيَّةِ، وهو كَلامٌ ساقِطٌ لِمَن تَفَكَّرَ فِيما قَرَّرَهُ سُبْحانَهُ في الآيَةِ السّالِفَةِ مِن إسْقاطِ [وُرُودِهِ] مِن أنَّهُ سُبْحانَهُ هو الَّذِي أوْجَدَ الأشْياءَ كُلَّها مِن عَدَمٍ ثُمَّ أخَذَ في تَدْبِيرِها، فاخْتِصاصُ كُلِّ [شَيْءٍ] مِنَ الأجْرامِ العُلْوِيَّةِ بِطَبْعٍ وصِفَةٍ وخاصِّيَّةٍ إنَّما هو بِتَخْصِيصِ المُدَبِّرِ (p-٢٧٨)الحَكِيمِ الفاعِلِ بِالِاخْتِيارِ، فَصارَ وُجُودُ الحَوادِثِ السُّفْلِيَّةِ لَوْ سَلَّمَ أنَّهُ مُتَأثِّرٌ عَنِ الحَوادِثِ العُلْوِيَّةِ إنَّما يَكُونُ مُسْتَنِدًا إلَيْها بِاعْتِبارِ السَّبَبِيَّةِ، والسَّبَبُ والمُسَبِّبُ مُسْتَنِدٌ إلى الصّانِعِ القَدِيمِ المُدَبِّرِ الحَكِيمِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب