الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ وجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وأنْهارًا ومِن كُلِّ الثَمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَيْلَ النَهارَ إنَّ في ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ ﴿وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وجَنّاتٌ مِن أعْنابٍ وزَرْعٌ ونَخِيلٌ صِنْوانٌ وغَيْرُ صِنْوانٌ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ ونُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ في الأُكُلِ إنَّ في ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ لَمّا فَرَغَتْ آياتُ السَماءِ ذَكَرَ آياتِ الأرْضِ. وقَوْلُهُ: ﴿مَدَّ الأرْضَ﴾ يَقْتَضِي أنَّها بَسِيطَةٌ لا كُرَوِيَّةٌ، وهَذا هو ظاهِرُ الشَرِيعَةِ. والرَواسِي: الجِبالُ الثابِتَةُ، يُقالُ: "رَسا يَرْسُو" إذا ثَبَتَ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ بِهِ خالِداتٌ ما يُرَمْنَ وهامِدٌ ∗∗∗ وأشْعَثُ أرْسَتْهُ الوَلِيدَةُ بِالفِهْرِ والزَوْجُ في هَذِهِ الآيَةِ هو الصِنْفُ والنَوْعُ، ولَيْسَ بِالزَوْجِ المَعْرُوفِ بِالمُتَلازِمِينَ الفَرْدَيْنِ مِنَ الحَيَوانِ وغَيْرِهِ، ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْواجَ كُلَّها﴾ [يس: ٣٦] الآيَةَ، (p-١٧٣)وَمِثْلُ هَذِهِ الآيَةِ: " والأرْضَ مَدَدْناها " الآيَةَ في (ق)، وهَذِهِ الآيَةُ تَقْتَضِي أنَّ كُلَّ ثَمَرَةٍ فَمَوْجُودٌ مِنها نَوْعانِ، فَإنِ اتَّفَقَ أنْ يُوجَدَ في ثَمَرَةٍ أكْثَرُ مِن نَوْعَيْنِ فَغَيْرُ ضارٍّ في مَعْنى الآيَةِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ، وحَفْصٌ عن عاصِمٍ: "يُغْشِي" بِسُكُونِ الغَيْنِ وتَخْفِيفِ الشِينِ، وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ وعاصِمٌ -فِي رِوايَةٍ أبِي بَكْرٍ - بِفَتْحِ الغَيْنِ وتَشْدِيدِ الشِينِ، وكَفى ذِكْرُ الواحِدِ ذِكْرَ الآخَرِ، وباقِي الآيَةِ بَيِّنٌ. ويُشْبِهُ أنَّ الأزْواجَ الَّتِي يُرادُ بِها الأنْواعُ والأصْنافُ والأجْناسُ إنَّما سُمِّيَتْ بِذَلِكَ مِن حَيْثُ هي اثْنانِ اثْنانِ في كُلِّ ثَمَرَةٍ ذَكَرٌ أو أُنْثى، وأشارَ إلى ذَلِكَ الفَرّاءُ عِنْدَ المَهْدَوِيِّ، وحَكى عنهُ غَيْرُهُ ما يَقْتَضِي أنَّ المَعْنى تَمَّ في قَوْلِهِ: "الثَمَراتِ"، ثُمَّ ابْتَدَأ أنَّهُ جَعَلَ في الأرْضِ مِن كُلِّ ذَكَرٍ وأُنْثى زَوْجَيْنِ. وقَوْلُهُ: ﴿وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ﴾ جَمْعُ قِطْعَةٍ، وهي الأجْزاءُ، وقَيَّدَ مِنها في هَذا المِثالِ ما تَجاوَرَ وقَرُبَ بَعْضُهُ مِن بَعْضٍ لِأنَّ اخْتِلافَ ذَلِكَ في القُرْبِ أغْرَبُ، وقَرَأ الجُمْهُورُ: "وَجَنّاتٌ" بِالرَفْعِ عَطْفًا عَلى "قِطَعٌ"، وقَرَأ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: "وَجَنّاتٍ" بِالنَصْبِ بِإضْمارٍ فِعْلٍ، وقِيلَ: هو عَطْفٌ عَلى "رَواسِيَ"، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، وحَفْصٌ عن عاصِمٍ: "وَزَرْعٌ ونَخِيلٌ صِنْوانٌ وغَيْرُ صِنْوانٍ" بِالرَفْعِ في الكُلِّ عَطْفًا عَلى "قِطَعٌ"، وقَرَأ الباقُونَ بِالخَفْضِ في الكُلِّ عَطْفًا عَلى "أعْنابٍ"، وجَعَلَ الجَنَّةَ مِنَ الأعْنابِ، ومَن رَفَعَ "الزَرْعَ" فالجَنَّةُ حَقِيقَةً هي الأرْضُ الَّتِي فِيها الأعْنابُ، وفي ذَلِكَ تَجَوُّزٌ ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ كَأنَّ عَيْنَيَّ في غَرْبَيْ مُقَتَّلَةٍ ∗∗∗ ∗∗∗ مِنَ النَواضِحِ تَسْقِي جَنَّةً سُحُقًا (p-١٧٤)أيْ نَخِيلَ جَنَّةٍ، إذْ لا يُوصَفُ بِالسَحَقِ إلّا النَخْلُ. ومَن خَفَضَ الزَرْعَ فالجَنّاتُ مِن مَجْمُوعِ ذَلِكَ لا مِنَ الزَرْعِ وحْدَهُ، لِأنَّهُ لا يُقالُ لِلْمَزْرَعَةِ جَنَّةً إلّا إذا خالَطَتْها شَجَراتٌ. و"صِنْوانٌ" جَمْعُ صِنْوٍ وهو الفَرْعُ يَكُونُ مَعَ الآخَرِ في أصْلٍ واحِدٍ، ورُبَّما كانَ أكْثَرَ مِن فَرْعَيْنِ، قالَ البَراءُ بْنُ عازِبٍ: الصِنْوانُ: المُجْتَمِعُ، وغَيْرُ الصِنْوانِ: المُتَفَرِّقُ فَرْدًا فَرْدًا، ومِنهُ قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ: « "العَمُّ صِنْوُ الأبِ"،» ورُوِيَ «أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ أسْرَعَ إلَيْهِ العَبّاسُ في مُلاحاةٍ، فَجاءَ إلى النَبِيِّ ﷺ فَقالَ: أرَدْتُ يا رَسُولَ اللهِ أنْ أقُولَ لِلْعَبّاسِ فَذَكَرْتُ مَكانَكَ مِنهُ فَسَكَتُّ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "يَرْحَمُكَ اللهُ يا عُمَرُ، العَمُّ صِنْوُ الأبِ"،» وجَمْعُ الصِنْوِ صِنْوانٌ، وهو جَمْعٌ مُكَسَّرٌ، قالَ أبُو عَلِيٍّ: وكَسْرَةُ الصادِ في الواحِدِ لَيْسَتِ الَّتِي في الجَمْعِ، وهو جارٍ مَجْرى فُلْكٍ، وتَقُولُ: صِنْوٌ وصِنْوانٌ في الجَمْعِ بِتَنْوِينِ النُونِ وإعْرابِهِ. وقَرَأ عاصِمٌ في رِوايَةِ القَوّاسِ -عن حَفْصٍ: "صُنْوانٌ" بِضَمِّ الصادِ، قالَ أبُو عَلِيٍّ: هو مِثْلُ ذِئْبٍ وذُؤْبانٌ، وهي قِراءَةُ ابْنِ مُصَرِّفٍ، وأبِي عَبْدِ الرَحْمَنِ السُلَمِيِّ، وهي لُغَةُ تَمِيمٍ وقَيْسٍ، وكَسْرُ الصادِ هي لُغَةُ أهْلِ الحِجازِ، وقَرَأ الحَسَنُ، وقَتادَةُ: "صَنْوانٌ" بِفَتْحِ الصادِ، وهو اسْمُ جَمْعٍ لا جَمْعٌ، ونَظِيرُ هَذِهِ اللَفْظَةِ قَبْوُ وقَبْوانٌ، وإنَّما نُصَّ عَلى "الصِنْوانِ" في هَذِهِ الآيَةِ لِأنَّها بِمَثابَةِ التَجاوُرِ في القِطَعِ تَظْهَرُ فِيهِ غَرابَةُ اخْتِلافِ الأكْلِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وحَمْزَةُ، (p-١٧٥)والكِسائِيُّ، والحَسَنُ، وأبُو جَعْفَرٍ، وأهْلُ مَكَّةَ: "تُسْقى" بِالتاءِ، وأمالَ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ القافَ، وقَرَأ عاصِمٌ، وابْنُ عامِرٍ: "يُسْقى" بِالياءِ عَلى مَعْنى: يُسْقى ما ذُكِرَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "نُفَضِّلُ" بِالنُونِ، وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "وَيُفَضِّلُ" بِالياءِ، وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: "يُسْقى" و"يُفَضِّلُ" بِالياءِ فِيهِما، وقَرَأ يَحْيى بْنُ يَعْمُرَ، وأبُو حَيْوَةَ: "وَيُفَضَّلُ" بِالياءِ وفَتْحِ الضادِ "بَعْضُها" بِالرَفْعِ، قالَ أبُو حاتِمٍ: وجَدْتُهُ كَذَلِكَ في لَفْظِ يَحْيى بْنِ يَعْمُرَ في مُصْحَفِهِ، وهو أوَّلُ مَن نَقَطَ المَصاحِفَ. و"الأُكُلُ" اسْمُ ما يُؤْكَلُ، بِضَمِّ الهَمْزَةِ، والأكْلُ المَصْدَرُ. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "فِي الأُكُلِ" بِضَمِّ الهَمْزَةِ والكافِ، وقَدْ تَقَدَّمَ هَذا في البَقَرَةِ. وحَكى الطَبَرِيُّ عن غَيْرِ واحِدٍ - ابْنِ عَبّاسٍ وغَيْرِهِ-: ﴿قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ﴾ أيْ: واحِدَةٌ سَبْخَةٌ والأُخْرى عَذْبَةٌ ونَحْوَ هَذا مِنَ القَوْلِ، وقالَ قَتادَةُ: المَعْنى: قُرًى مُتَجاوِراتٌ. وهَذا وجْهٌ مِنَ العِبْرَةِ، كَأنَّهُ قالَ: وفي الأرْضِ قِطَعٌ مُخْتَلِفاتٌ بِتَخْصِيصِ اللهِ لَها بِمَعانٍ، فَهي تُسْقى بِماءٍ واحِدٍ ولَكِنْ تَخْتَلِفُ فِيما تُخْرِجُهُ، والَّذِي يَظْهَرُ مِن وصْفِهِ لَها بِالتَجاوُرِ إنَّما هو مِن تُرْبَةٍ واحِدَةٍ ونَوْعٍ واحِدٍ، والعِبْرَةُ في هَذا أُبْيَنُ، لِأنَّها مَعَ اتِّفاقِها في التُرْبَةِ والماءِ تُفَضِّلُ القُدْرَةُ والإرادَةُ بَعْضَ أُكُلِها عَلى بَعْضٍ، كَما قالَ النَبِيُّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ حِينَ سُئِلَ عن هَذِهِ الآيَةِ فَقالَ: « (الدَقَلُ والفارِسِيُّ والحُلْوُ والحامِضُ)،» وعَلى المَعْنى الأوَّلِ قالَ الحَسَنُ: هَذا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ لِقُلُوبِ بَنِي آدَمَ، كانَتِ الأرْضُ في يَدِ الرَحْمَنِ طِينَةً واحِدَةً، فَسَطَّحَها فَصارَتْ قِطَعًا مُتَجاوِرَةً فَيَنْزِلُ عَلَيْها ماءٌ واحِدٌ مِنَ السَماءِ، فَتُخْرِجُ هَذِهِ زَهْرَةً وثَمَرَةً، وتُخْرِجُ هَذِهِ سَبْخَةً ومِلْحًا وخَبَثًا، فَكَذَلِكَ الناسُ خُلِقُوا مِن آدَمَ فَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَماءِ تَذْكِرَةٌ فَرَقَّتْ قُلُوبٌ وخَشَعَتْ، وقَسَتْ قُلُوبٌ، ولَهَتْ قُلُوبٌ، ووَجَفَتْ قُلُوبٌ، قالَ الحَسَنُ: فَوَ اللهِ ما جالَسَ أحَدٌ القُرْآنَ إلّا قامَ عنهُ (p-١٧٦)بِزِيادَةٍ أو نُقْصانٍ، قالَ اللهُ تَعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ ما هو شِفاءٌ ورَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ولا يَزِيدُ الظالِمِينَ إلا خَسارًا﴾ [الإسراء: ٨٢]، والتَفْضِيلُ في الأُكُلِ [يَشْمَلُ] الأذْواقَ والألْوانَ والمَلْمَسَ وغَيْرَ ذَلِكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب