الباحث القرآني

قَوْلُهُ: ﴿يَعْتَذِرُونَ إلَيْكُمْ﴾ إخْبارٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ عَنِ المُنافِقِينَ المُتَعَذِّرِينَ بِالباطِلِ بِأنَّهم يَعْتَذِرُونَ إلى المُؤْمِنِينَ إذا رَجَعُوا مِنَ الغَزْوِ، وهَذا كَلامٌ مُسْتَأْنَفٌ. وإنَّما قالَ: إلَيْهِمْ أيْ إلى المُعْتَذِرِينَ بِالباطِلِ ولَمْ يَقُلْ إلى المَدِينَةِ، لِأنَّ مَدارَ الِاعْتِذارِ هو الرُّجُوعُ إلَيْهِمْ لا الرُّجُوعُ إلى المَدِينَةِ، ورُبَّما يَقَعُ الِاعْتِذارُ عِنْدَ المُلاقاةِ قَبْلَ الوُصُولِ إلَيْها، ثُمَّ أخْبَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ رَسُولَهُ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ بِما يُجِيبُ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَقالَ: (p-٥٩٣)﴿قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ﴾ فَنَهاهم أوَّلًا عَنِ الِاعْتِذارِ بِالباطِلِ، ثُمَّ عَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ﴾ أيْ لَنْ نُصَدِّقَكم، كَأنَّهُمُ ادَّعَوْا أنَّهم صادِقُونَ في اعْتِذارِهِمْ، لِأنَّ غَرَضَ المُعْتَذِرِ أنْ يُصَدَّقَ فِيما يَعْتَذِرُ بِهِ، فَإذا عَرَفَ أنَّهُ لا يُصَدَّقُ تَرَكَ الِاعْتِذارَ، وجُمْلَةُ ﴿قَدْ نَبَّأنا اللَّهُ مِن أخْبارِكُمْ﴾ تَعْلِيلِيَّةٌ لِلَّتِي قَبْلَها: أيْ لا يَقَعُ مِنّا تَصْدِيقٌ لَكم لِأنَّ اللَّهَ قَدْ أعْلَمَنا بِالوَحْيِ ما هو مُنافٍ لِصِدْقِ اعْتِذارِكم، وإنَّما خَصَّ الرَّسُولَ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - بِالجَوابِ عَلَيْهِمْ، فَقالَ: ﴿قُلْ لا تَعْتَذِرُوا﴾ مَعَ أنَّ الِاعْتِذارَ مِنهم كائِنٌ إلى جَمِيعِ المُؤْمِنِينَ، لِأنَّهُ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - رَأْسُهم، والمُتَوَلِّي لِما يَرِدُ عَلَيْهِمْ مِن جِهَةِ الغَيْرِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالضَّمِيرِ في قَوْلِهِ: إلَيْكم هو الرَّسُولَ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - عَلى التَّأْوِيلِ المَشْهُورِ في مِثْلِ هَذا. قَوْلُهُ: ﴿وسَيَرى اللَّهُ عَمَلَكُمْ﴾ أيْ ما سَتَفْعَلُونَهُ مِنَ الأعْمالِ فِيما بَعْدُ هَلْ تُقْلِعُونَ عَمّا أنْتُمْ عَلَيْهِ الآنَ مِنَ الشَّرِّ أمْ تَبْقُونَ عَلَيْهِ ؟ . وقَوْلُهُ: ورَسُولِهِ مَعْطُوفٌ عَلى الِاسْمِ الشَّرِيفِ، ووَسَّطَ مَفْعُولَ الرُّؤْيَةِ إيذانًا، بِأنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ سُبْحانَهُ لِما سَيَفْعَلُونَهُ مِن خَيْرٍ أوْ شَرٍّ هي الَّتِي يَدُورُ عَلَيْها الإثابَةُ أوِ العُقُوبَةُ، وفي جُمْلَةِ ﴿ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عالِمِ الغَيْبِ﴾ إلى آخِرِها تَخْوِيفٌ شَدِيدٌ، لِما هي مُشْتَمِلَةٌ عَلَيْهِ مِنَ التَّهْدِيدِ، ولا سِيَّما ما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِن وضْعِ الظّاهِرِ مَوْضِعَ المُضْمَرِ، لِإشْعارِ ذَلِكَ بِإحاطَتِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ يَقَعُ مِنهم مِمّا يَكْتُمُونَهُ ويَتَظاهَرُونَ بِهِ، وإخْبارِهِ لَهم بِهِ ومُجازاتِهِمْ عَلَيْهِ. ثُمَّ ذَكَرَ أنَّ هَؤُلاءِ المُعْتَذِرِينَ بِالباطِلِ سَيُؤَكِّدُونَ ما جاءُوا بِهِ مِنَ الأعْذارِ الباطِلَةِ بِالحَلِفِ عِنْدَ رُجُوعِ المُؤْمِنِينَ إلَيْهِمْ مِنَ الغَزْوِ، وغَرَضُهم مِن هَذا التَّأْكِيدِ هو أنْ يُعْرِضَ المُؤْمِنُونَ عَنْهم فَلا يُوَبِّخُونَهم ولا يُؤاخِذُونَهم بِالتَّخَلُّفِ ويُظْهِرُونَ الرِّضا عَنْهم كَما يُفِيدُهُ ذِكْرُ الرِّضا مِن بَعْدُ، وحَذْفُ المَحْلُوفِ عَلَيْهِ لِكَوْنِ الكَلامِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وهو اعْتِذارُهُمُ الباطِلُ، وأمْرُ المُؤْمِنِينَ بِالإعْراضِ عَنْهُمُ المُرادُ بِهِ تَرْكُهم والمُهاجَرَةُ لَهم، لا الرِّضا عَنْهم والصَّفْحُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ، كَما تُفِيدُهُ جُمْلَةُ ﴿إنَّهم رِجْسٌ﴾ الواقِعَةُ عِلَّةً لِلْأمْرِ بِالإعْراضِ. والمَعْنى: أنَّهم في أنْفُسِهِمْ رِجْسٌ لِكَوْنِ جَمِيعِ أعْمالِهِمْ نَجِسَةٌ، فَكَأنَّها قَدْ صَيَّرَتْ ذَواتِهِمْ رِجْسًا، أوْ أنَّهم ذَوُو رِجْسٍ: أيْ ذَوُو أعْمالٍ قَبِيحَةٍ، ومِثْلُهُ ﴿إنَّما المُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ وهَؤُلاءِ لَمّا كانُوا هَكَذا كانُوا غَيْرَ مُتَأهِّلِينَ لِقَبُولِ الإرْشادِ إلى الخَيْرِ والتَّحْذِيرِ مِنَ الشَّرِّ، فَلَيْسَ لَهم إلّا التَّرْكُ. وقَوْلُهُ: ﴿ومَأْواهم جَهَنَّمُ﴾ مِن تَمامِ التَّعْلِيلِ، فَإنَّ مَن كانَ مِن أهْلِ النّارِ لا يُجْدِي فِيهِ الدُّعاءُ إلى الخَيْرِ، والمَأْوى كُلُّ مَكانٍ يَأْوِي إلَيْهِ الشَّيْءُ لَيْلًا أوْ نَهارًا. وقَدْ أوى فُلانٌ إلى مَنزِلِهِ يَأْوِي أُوِيًّا وإيواءً، وجَزاءً مَنصُوبٌ عَلى المَصْدَرِيَّةِ، أوْ عَلى العِلِّيَّةِ، والباءُ في ﴿بِما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ لِلسَّبَبِيَّةِ. وجُمْلَةُ ﴿يَحْلِفُونَ لَكُمْ﴾ بَدَلٌ مِمّا تَقَدَّمَ. وحُذِفَ هُنا المَحْلُوفُ بِهِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا مِمّا سَبَقَ، والمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لِمِثْلِ ما تَقَدَّمَ، وبَيَّنَ سُبْحانَهُ أنَّ مَقْصِدَهم بِهَذا الحَلِفِ هو رِضا المُؤْمِنِينَ عَنْهم، ثُمَّ ذَكَرَ ما يُفِيدُ أنَّهُ لا يَجُوزُ الرِّضا عَنْ هَؤُلاءِ المُعْتَذِرِينَ بِالباطِلِ، فَقالَ: ﴿فَإنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ﴾ كَما هو مَطْلُوبُهم مُساعَدَةً لَهم ﴿فَإنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ القَوْمِ الفاسِقِينَ﴾ وإذا كانَ هَذا هو ما يُرِيدُهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ مِن عَدَمِ الرِّضا عَلى هَؤُلاءِ الفَسَقَةِ العُصاةِ، فَيَنْبَغِي لَكم أيُّها المُؤْمِنُونَ أنْ لا تَفْعَلُوا خِلافَ ذَلِكَ، بَلْ واجِبٌ عَلَيْكم أنْ لا تَرْضَوْا عَنْهم عَلى أنَّ رِضاكم عَنْهم لَوْ وقَعَ لَكانَ غَيْرَ مُعْتَدٍّ بِهِ ولا مُفِيدٍ لَهم، والمَقْصُودُ مِن إخْبارِ اللَّهِ سُبْحانَهُ بِعَدَمِ رِضاهُ عَنْهم نَهْيُ المُؤْمِنِينَ عَنْ ذَلِكَ، لِأنَّ الرِّضا عَلى مَن لا يَرْضى اللَّهُ عَلَيْهِ مِمّا لا يَفْعَلُهُ مُؤْمِنٌ. قَوْلُهُ: ﴿الأعْرابُ أشَدُّ كُفْرًا ونِفاقًا﴾ لَمّا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ أحْوالَ المُنافِقِينَ بِالمَدِينَةِ، ذَكَرَ حالَ مَن كانَ خارِجًا عَنْها مِنَ الأعْرابِ، وبَيَّنَ أنَّ كُفْرَهم ونِفاقَهم أشَدُّ مِن كُفْرِ غَيْرِهِمْ ومِن نِفاقِ غَيْرِهِمْ، لِأنَّهم أقْسى قَلْبًا وأغْلَظُ طَبْعًا وأجْفى قَوْلًا، وأبْعَدُ عَنْ سَماعِ كُتُبِ اللَّهِ وما جاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ، والأعْرابُ: هم مَن سَكَنَ البَوادِيَ بِخِلافِ العَرَبِ، فَإنَّهُ عامٌّ لِهَذا النَّوْعِ مِن بَنِي آدَمَ سَواءٌ سَكَنُوا البَوادِيَ أوِ القُرى، هَكَذا قالَ أهْلُ اللُّغَةِ، ولِهَذا قالَ سِيبَوَيْهِ: إنَّ الأعْرابَ صِيغَةُ جَمْعٍ ولَيْسَتْ بِصِيغَةِ جَمْعٍ العَرَبُ. قالَ النَّيْسابُورِيُّ: قالَ أهْلُ اللُّغَةِ: رَجُلٌ عَرَبِيٌّ إذا كانَ نَسَبُهُ إلى العَرَبِ ثابِتًا، وجَمْعُهُ عَرَبٌ، كالمَجُوسِيِّ والمَجُوسِ، واليَهُودِيِّ واليَهُودِ، فالأعْرابِيُّ إذا قِيلَ لَهُ: يا عَرَبِيُّ فَرِحَ، وإذا قِيلَ لِلْعَرَبِيِّ: يا أعْرابِيُّ غَضِبَ، وذَلِكَ أنَّ مَنِ اسْتَوْطَنَ القُرى العَرَبِيَّةَ فَهو عَرَبِيٌّ، ومَن نَزَلَ البادِيَةَ فَهو أعْرابِيٌّ، ولِهَذا لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ لِلْمُهاجِرِينَ والأنْصارِ أعْرابٌ، وإنَّما هم عَرَبٌ. قالَ: قِيلَ: إنَّما سُمِّيَ العَرَبُ عَرَبًا لِأنَّ أوْلادَ إسْماعِيلَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - نَشَئُوا بِالعَرَبِ، وهي مِن تِهامَةَ فَنُسِبُوا إلى بَلَدِهِمْ، وكُلُّ مَن يَسْكُنُ جَزِيرَةَ العَرَبِ ويَنْطِقُ بِلِسانِهِمْ فَهو مِنهم، وقِيلَ: لِأنَّ ألْسُنَهم مُعْرِبَةٌ عَمّا في ضَمائِرِهِمْ، ولِما في لِسانِهِمْ مِنَ الفَصاحَةِ والبَلاغَةِ انْتَهى. وأجْدَرُ مَعْطُوفٌ عَلى ( أشَدُّ )، ومَعْناهُ أخْلَقُ، يُقالُ: فُلانٌ جَدِيرٌ بِكَذا: أيْ خَلِيقٌ بِهِ، وأنْتَ جَدِيرٌ أنْ تَفْعَلَ كَذا، والجَمْعُ جُدُرٌ أوْ جَدِيرُونَ، وأصْلُهُ مِن جَدْرِ الحائِطِ، وهو رَفْعُهُ بِالبِناءِ. والمَعْنى: أنَّهم أحَقُّ وأخْلَقُ بِـ ﴿ألّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أنْزَلَ اللَّهُ﴾ مِنَ الشَّرائِعِ والأحْكامِ، لِبُعْدِهِمْ عَنْ مَواطِنِ الأنْبِياءِ ودِيارِ التَّنْزِيلِ ﴿واللَّهُ عَلِيمٌ﴾ بِأحْوالِ مَخْلُوقاتِهِ عَلى العُمُومِ، وهَؤُلاءِ مِنهم حَكِيمُ فِيما يُجازِيهِمْ بِهِ مِن خَيْرٍ وشَرٍّ. قَوْلُهُ: ﴿ومِنَ الأعْرابِ مَن يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَمًا﴾ هَذا تَنْوِيعٌ لِجِنْسٍ أوْ نَوْعَيْنِ، الأوَّلُ هَؤُلاءِ، والثّانِي ﴿ومِنَ الأعْرابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ﴾ والمَغْرَمُ الغَرامَةُ والخُسْرانُ، وأصْلُ الغُرْمِ والغَرامَةِ: ما يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ ولَيْسَ بِلازِمٍ لَهُ في اعْتِقادِهِ ولَكِنَّهُ يُنْفِقُهُ لِلرِّياءِ والتَّقِيَّةِ، وقِيلَ: أصْلُ الغُرْمِ اللُّزُومُ كَأنَّهُ اعْتَقَدَ أنَّهُ يَلْزَمُهُ لِأمْرٍ خارِجٍ لا تَنْبَعِثُ لَهُ النَّفْسُ. والدَّوائِرَ جُمَعُ دائِرَةٍ، وهي الحالَةُ المُنْقَلِبَةُ عَنِ النِّعْمَةِ إلى البَلِيَّةِ، وأصْلُها ما يُحِيطُ بِالشَّيْءِ، ودَوائِرُ الزَّمانِ: نُوَبُهُ وتَصارِيفُهُ ودُوَلُهُ، وكَأنَّها لا تُسْتَعْمَلُ إلّا في المَكْرُوهِ، ثُمَّ دَعا سُبْحانَهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ﴾ وجَعَلَ ما دَعا بِهِ عَلَيْهِمْ مُماثِلًا لِما (p-٥٩٤)أرادُوهُ بِالمُسْلِمِينَ، والسَّوْءُ بِالفَتْحِ عِنْدَ جُمْهُورِ القُرّاءِ مَصْدَرٌ أُضِيفَتْ إلَيْهِ الدّائِرَةُ لِلْمُلابَسَةِ كَقَوْلِكَ: رَجُلُ صِدْقٍ. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو وابْنُ كَثِيرٍ بِضَمِّ السِّينِ، وهو المَكْرُوهُ. قالَ الأخْفَشُ: أيْ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ الهَزِيمَةِ والشَّرِّ. وقالَ الفَرّاءُ: ﴿عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ﴾ العَذابُ والبَلاءُ. قالَ: والسَّوْءُ بِالفَتْحِ مَصْدَرُ سُؤْتُهُ سَوْءًا ومَساءَةً، وبِالضَّمِّ اسْمٌ لا مَصْدَرَ، وهو كَقَوْلِكَ دائِرَةُ البَلاءِ والمَكْرُوهِ﴿واللَّهُ سَمِيعٌ﴾ لِما يَقُولُونَهُ عَلِيمٌ بِما يُضْمِرُونَهُ. قَوْلُهُ: ﴿ومِنَ الأعْرابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ هَذا النَّوْعُ الثّانِي مِن أنْواعِ الأعْرابِ كَما تَقَدَّمَ: أيْ يُصَدِّقُ بِهِما ﴿ويَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ﴾ أيْ يَجْعَلُ ما يُنْفِقُهُ في سَبِيلِ اللَّهِ قُرُباتٍ وهي جَمْعُ قُرْبَةٍ، وهي: ما يُتَقَرَّبُ بِهِ إلى اللَّهِ سُبْحانَهُ، تَقُولُ مِنهُ قَرَّبْتُ لِلَّهِ قُرْبانًا، والجَمْعُ قُرَبٌ وقُرُباتٌ. والمَعْنى: أنَّهُ يَجْعَلُ ما يُنْفِقُهُ سَبَبًا لِحُصُولِ القُرُباتِ عِنْدَ اللَّهِ وسَبَبًا لِ صَلَواتِ الرَّسُولِ أيْ لِدَعَواتِ الرَّسُولِ لَهم، لِأنَّهُ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - كانَ يَدْعُو لِلْمُتَصَدِّقِينَ، ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿وصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾ [التوبة: ١٠٣]، ومِنهُ قَوْلُهُ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى آلِ أبِي أوْفى» ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ بَيَّنَ بِأنَّ ما يُنْفِقُهُ هَذا النَّوْعُ مِنَ الأعْرابِ تَقَرُّبًا إلى اللَّهِ مَقْبُولٌ واقِعٌ عَلى الوَجْهِ الَّذِي أرادُوهُ فَقالَ: ﴿ألا إنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ﴾ فَأخْبَرَ سُبْحانَهُ بِقَبُولِها خَبَرًا مُؤَكَّدًا بِأِسْمِيَّةِ الجُمْلَةِ وحَرْفَيِ التَّنْبِيهِ والتَّحْقِيقِ، وفي هَذا مِنَ التَّطْيِيبِ لِخَواطِرِهِمْ والتَّطْمِينِ لِقُلُوبِهِمْ ما لا يُقادَرُ قَدْرُهُ مَعَ ما يَتَضَمَّنُهُ مِنَ النَّعْيِ عَلى مَن يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَمًا، والتَّوْبِيخِ لَهُ بِأبْلَغِ وجْهٍ، والضَّمِيرُ في إنَّها راجِعٌ إلى ما في ما يُنْفِقُ وتَأْنِيثُهُ بِاعْتِبارِ الخَبَرِ. وقَرَأ نافِعٌ، في رِوايَةٍ عَنْهُ " قُرُبَةٌ " بِضَمِّ الرّاءِ، وقَرَأ الباقُونَ بِسُكُونِها تَخْفِيفًا، ثُمَّ فَسَّرَ سُبْحانَهُ القُرْبَةَ بِقَوْلِهِ: ﴿سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ في رَحْمَتِهِ﴾ والسِّينُ لِتَحْقِيقِ الوَعْدِ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنِ السُّدِّيِّ، في قَوْلِهِ: ﴿قَدْ نَبَّأنا اللَّهُ مِن أخْبارِكُمْ﴾ قالَ: أخْبَرَنا أنَّكم لَوْ خَرَجْتُمْ ما زِدْتُمُونا إلّا خَبالًا، وفي قَوْلِهِ: ﴿فَأعْرِضُوا عَنْهُمْ﴾ قالَ: «لَمّا رَجَعَ النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - قالَ لِلْمُؤْمِنِينَ: لا تُكَلِّمُوهم ولا تُجالِسُوهم، فَأعْرَضُوا عَنْهم كَما أمَرَ اللَّهُ». وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ، عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ﴾ قالَ: لِتُجاوِزُوا عَنْهم. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ، عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿الأعْرابُ أشَدُّ كُفْرًا ونِفاقًا﴾ قالَ: مِن مُنافِقِي المَدِينَةِ ﴿وأجْدَرُ ألّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ﴾ يَعْنِي الفَرائِضَ، وما أمَرَ بِهِ مِنَ الجِهادِ. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ، عَنِ الكَلْبِيِّ، أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في أسَدٍ وغَطَفانَ. وأخْرَجَ أحْمَدُ، وأبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ، والنَّسائِيُّ، والبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإيمانِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - قالَ: «مَن سَكَنَ البادِيَةَ جَفا، ومَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ، ومَن أتى السُّلْطانَ افْتُتِنَ» وإسْنادُ أحْمَدَ هَكَذا: حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنا سُفْيانُ، عَنْ أبِي مُوسى، عَنْ وهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - فَذَكَرَهُ. قالَ في التَّقْرِيبِ: وأبُو مُوسى عَنْ وهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ مَجْهُولٌ مِنَ السّادِسَةِ، ووَهِمَ مَن قالَ: إنَّهُ إسْرائِيلُ بْنُ مُوسى، وقالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ إخْراجِهِ: حَسَنٌ غَرِيبٌ لا نَعْرِفُهُ إلّا مِن حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ. وأخْرَجَ أبُو داوُدَ والبَيْهَقِيُّ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: «مَن بَدا جَفا ومَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ، ومَن أتى أبْوابَ السُّلْطانِ افْتُتِنَ، وما ازْدادَ أحَدٌ مِن سُلْطانِهِ قُرْبًا إلّا ازْدادَ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا» . وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ، عَنِ الضَّحّاكِ، في قَوْلِهِ: ﴿ومِنَ الأعْرابِ مَن يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَمًا﴾ قالَ: يَعْنِي بِالمَغْرَمِ أنَّهُ لا يَرْجُو لَهُ ثَوابًا عِنْدَ اللَّهِ ولا مُجازاةً، وإنَّما يُعْطِي مَن يُعْطِي مِنَ الصَّدَقاتِ كَرْهًا ﴿ويَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ﴾ الهِلْكاتِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ في الآيَةِ قالَ: هَؤُلاءِ المُنافِقُونَ مِنَ الأعْرابِ الَّذِينَ إنَّما يُنْفِقُونَ رِياءً، اتِّقاءً عَلى أنْ يَغْزُوا ويُحارِبُوا ويُقاتِلُوا ويَرَوْنَ نَفَقاتِهِمْ مَغْرَمًا. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿ومِنَ الأعْرابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ﴾ قالَ: هم بَنُو مُقَرِّنٍ مِن مُزَيْنَةَ، وهُمُ الَّذِينَ قالَ اللَّهُ: ﴿ولا عَلى الَّذِينَ إذا ما أتَوْكَ لِتَحْمِلَهم﴾ [التوبة: ٩٢] الآيَةَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْقِلٍ قالَ: كُنّا عَشَرَةً ولَدَ مُقَرِّنٍ، فَنَزَلَتْ فِينا: ﴿ومِنَ الأعْرابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ﴾ الآيَةَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، في قَوْلِهِ: ﴿وصَلَواتِ الرَّسُولِ﴾ يَعْنِي اسْتِغْفارَ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب