الباحث القرآني

(p-١)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثُمَّ شَرَعَ يُخْبِرُ عَنْ أشْياءَ تَقَعُ مِنهم عِنْدَ الرُّجُوعِ دَلالَةً عَلى أنَّ هَذا كَلامُهُ، وأنَّهُ عالِمٌ بِالمُغَيَّباتِ كُلِّيِّها وجُزْئِيِّها، يَعْلَمُ ما كانَ وما يَكُونُ وما لَمْ يَكُنْ لَوْ كانَ كَيْفَ [كانَ] يَكُونُ، فَقالَ مُبَيِّنًا لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ: ”﴿يَعْتَذِرُونَ﴾“ أيْ: يُثْبِتُونَ الأعْذارَ لِأنْفُسِهِمْ: وأشارَ إلى بُعْدِهِمْ بِالقُلُوبِ بِقَوْلِهِ: ”إلَيْكُمْ“ أيْ عَنِ التَّخَلُّفِ ﴿إذا رَجَعْتُمْ إلَيْهِمْ﴾ أيْ مِن هَذِهِ الغَزْوَةِ، كَأنَّهُ قِيلَ: فَماذا يُقالُ في جَوابِهِمْ؟ فَقالَ لِلرَّأْسِ الَّذِي لا تَأْخُذُهُ في اللَّهِ لَوْمَةُ لائِمٍ: ﴿قُلْ لا تَعْتَذِرُوا﴾ أيْ: فَإنَّ أعْذارَكم كاذِبَةٌ، ولِذَلِكَ عَلَّلَ النَّهْيَ بِقَوْلِهِ: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ﴾ أيْ: نُصَدِّقَكم في شَيْءٍ مِنها، ثُمَّ عَلَّلَ عَدَمَ تَصْدِيقِهِمْ بِما أوْجَبَ لَهُمُ القَطْعَ بِذَلِكَ فَقالَ: ﴿قَدْ نَبَّأنا اللَّهُ﴾ أيْ: أعْلَمَنا المَلِكُ الَّذِي لَهُ الإحاطَةُ الكامِلَةُ بِكُلِّ شَيْءٍ إعْلامًا جَلِيلًا. ﴿مِن أخْبارِكُمْ﴾ أيِ الَّتِي ظَنَنْتُمْ جَهْلًا بِاللَّهِ أنَّها تَخْفى فَقَدْ عَلِمْناها؛ ثُمَّ هَدَّدَهم بِقَوْلِهِ: ﴿وسَيَرى اللَّهُ﴾ أيْ: لِأنَّهُ عالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وإنْ دَقَّ، قادِرٌ عَلى كُلِّ شَيْءٍ ”عَمَلَكُمْ“ أيْ بَعْدَ ذَلِكَ أتَتَبَيَّنُونَ أمْ تَثْبُتُونَ عَلى حالِكم هَذا الخَبِيثِ \ كَما رَأى الَّذِي قَبْلُ ”ورَسُولُهُ“ أيْ: بِما يَعْلَمُهُ بِهِ سُبْحانَهُ (p-٢)وحْيًا أوْ تَفَرُّسًا، ولَمّا كانَ الكَلامُ في المُنافِقِينَ، فَكانَتِ الرُّؤْيَةُ لِنِفاقِهِمُ الَّذِي يَجْتَهِدُونَ في إخْفائِهِ، وكانَ المُؤْمِنُونَ لا اطِّلاعَ لِجَمِيعِهِمْ عَلَيْهِمْ، لَمْ يُذَكِّرْهم بِخِلافِ مَن يَأْتِي بَعْدُ؛ فَإنَّهم مُؤْمِنُونَ. ولَمّا كانَ هَذا رُبَّما أوْهَمَهم أنَّهُ لا يَعْلَمُ إلّا ما أوْقَعُوهُ بِالفِعْلِ، نَفى ذَلِكَ بِإظْهارِ وصْفِهِ في مَوْضِعِ الإضْمارِ مُهَدِّدًا بِقَوْلِهِ مُشِيرًا بِأداةِ التَّراخِي إلى اسْتِبْعادِهِمْ لِقِيامِهِمْ إلى مَعادِهِمْ: ﴿ثُمَّ تُرَدُّونَ﴾ أيْ بِرادٍّ قاهِرٍ لا تَقْدِرُونَ عَلى دِفاعِهِ بَعْدَ اسْتِيفاءِ آجالِكم بِالمَوْتِ وإنْ طالَتْ ثُمَّ البَعْثِ ﴿إلى عالِمِ الغَيْبِ﴾ وهو ما غابَ عَنِ الخَلْقِ ”والشَّهادَةِ“ وهو ما اطَّلَعَ عَلَيْهِ أحَدٌ مِنهم. فَصارَ بِحَيْثُ يَطَّلِعُونَ عَلَيْهِ وهَذا تَرْجَمَةٌ عَنِ الَّذِي يَعْلَمُ الشَّيْءَ قَبْلَ كَوْنِهِ ما يَعْلَمُ بَعْدَ كَوْنِهِ ”فَيُنَبِّئُكُمْ“ أيْ: يُخْبِرُكم إخْبارًا عَظِيمًا جَلِيلًا مُسْتَوْعِبًا ﴿بِما كُنْتُمْ﴾ أيْ: بِجِبِلّاتِكم ”تَعْمَلُونَ“ أيْ: مِمّا أبْرَزْتُمُوهُ إلى الخارِجِ ومِمّا كانَ في جِبِلّاتِكُمْ، ولَوْ تَأخَّرْتُمْ لَبَرَزَ، وهو تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ، ووَقَعَ تَرْتِيبُهم لِلِاعْتِذارِ عَلى الأسْهَلِ فالأسْهَلِ عَلى ثَلاثِ مَراتِبَ: الأُولى: مُطْلِقُ الِاعْتِذارِ؛ وقَدْ مَضى ما فِيها؛ الثّانِيَةُ: تَأْكِيدُ ذَلِكَ بِالحَلِفِ لِلْإعْراضِ عَنْهم فَقالَ سُبْحانَهُ: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ﴾ أيِ الَّذِي لا أعْظَمَ مِنهُ ﴿لَكم إذا انْقَلَبْتُمْ إلَيْهِمْ﴾ أيْ: جَهْدَ إيمانِهِمْ أنَّهم كانُوا مَعْذُورِينَ في التَّخَلُّفِ (p-٣)كَذِبًا مِنهم إرادَةَ أنْ يَقْلِبُوا قُلُوبَكم عَمّا اعْتَقَدْتُمْ فِيهِمْ ﴿لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ﴾ أيْ: إعْراضَ الصَّفْحِ عَنْ مُعاتَبَتِهِمْ ﴿فَأعْرِضُوا عَنْهُمْ﴾ إعْراضَ المَقْتِ؛ رُوِيَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: ««لا تُجالِسُوهم ولا تُكَلِّمُوهم»»؛ ثُمَّ عَلَّلَ وُجُوبَ الإعْراضِ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّهم رِجْسٌ﴾ أيْ: لا يُطَهِّرُهُمُ العِتابُ فَهو عَبَثٌ. ولَمّا كانَ مِنَ المُقَرَّرِ أنَّهُ لا بُدَّ لَهم مِن جَزاءٍ. وأنَّ النَّفْسَ تَتَشَوَّفُ إلى مَعْرِفَتِهِ، قالَ: ﴿ومَأْواهُمْ﴾ أيْ: في الآخِرَةِ ﴿جَهَنَّمُ جَزاءً﴾ أيْ: لِأجْلِ جَزائِهِمْ ﴿بِما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ أيْ: فَلا تَتَكَلَّفُوا لَهم جَزاءً غَيْرَ ذَلِكَ بِتَوْبِيخٍ ولا غَيْرِهِ؛ المَرْتَبَةُ الثّالِثَةُ: الحَلِفُ لِلرِّضى عَنْهم فَقالَ: ﴿يَحْلِفُونَ لَكُمْ﴾ أيْ: مُجْتَهِدِينَ في الحَلِفِ بِمَن تَقَدَّمَ أنَّهم يَحْلِفُونَ بِهِ وهو اللَّهُ ﴿لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ﴾ خَوْفًا مِن غائِلَةِ غَضَبِكم ﴿فَإنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ﴾ أيْ: لِمُجَرَّدِ أيْمانِهِمُ المَبْنِيِّ عَلى عَدَمِ إيمانِهِمْ ﴿فَإنَّ اللَّهَ﴾ [أيِ] الَّذِي لَهُ الغِنى المُطْلَقُ ﴿لا يَرْضى﴾ عَنْهُمْ، هَكَذا كانَ الأصْلُ ولَكِنَّهُ قالَ: ﴿عَنِ القَوْمِ الفاسِقِينَ﴾ إشارَةً إلى تَعْلِيقِ الحُكْمِ بِالوَصْفِ وتَعْمِيمًا لِكُلِّ مَنِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ، والمَعْنى أنَّهُ لا يَنْفَعُهم رِضاكم وتَكُونُونَ بِهِ مُخالِفِينَ اللَّهَ، فَهو في الحَقِيقَةِ نَهْيٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَنِ الرِّضى عَنْهُمْ، أُبْرِزَ في هَذا الأُسْلُوبِ العَجِيبِ المُرْقِصِ، وفي ذَلِكَ رَدٌّ عَلى مَن يَتَوَهَّمُ أنَّ رِضى المُؤْمِنِينَ لَوْ رَضُوا عَنْهم [يَقْتَضِي] رِضى اللَّهِ، فَإنَّ ذَلِكَ رَدُّ نَزْعَةٍ مِمّا يَفْعَلُ الأحْبارُ والرُّهْبانُ في رِضاهم وغَضَبِهِمْ وتَحْلِيلِهِمْ وتَحْرِيمِهِمُ الَّذِي يَعْتَقِدُ أتْباعُهم أنَّهُ عَنِ اللَّهِ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب