الباحث القرآني
.
لَمّا ذَكَرَ سُبْحانَهُ بَعْضَ أحْوالِ الحَيَوانِ وما فِيها مِن عَجائِبِ الصَّنْعَةِ الباهِرَةِ، وخَصائِصِ القُدْرَةِ القاهِرَةِ، أتْبَعَهُ بِعَجائِبِ خَلْقِ الإنْسانِ وما فِيهِ مِنَ العِبَرِ فَقالَ: ﴿واللَّهُ خَلَقَكُمْ﴾ ولَمْ تَكُونُوا شَيْئًا ﴿ثُمَّ يَتَوَفّاكُمْ﴾ عِنْدَ انْقِضاءِ آجالِكم ﴿ومِنكم مَن يُرَدُّ إلى أرْذَلِ العُمُرِ﴾ يُقالُ رَذَلَ يَرْذُلُ رَذالَةً، والأرْذَلُ والرَّذالَةُ أرْدَأُ الشَّيْءِ وأوْضَعُهُ.
قالَ النَّيْسابُورِيُّ: واعْلَمْ أنَّ العُقَلاءَ ضَبَطُوا مَراتِبَ عُمْرِ الإنْسانِ في أرْبَعٍ: أُولاها سِنُّ النُّشُوِّ.
وثانِيها سِنُّ الوُقُوفِ وهو سِنُّ الشَّبابِ.
وثالِثُها سِنُّ الِانْحِطاطِ اليَسِيرِ، وهو سِنُّ الكُهُولَةِ.
ورابِعُها سِنُّ الِانْحِطاطِ الظّاهِرِ، وهو سِنُّ الشَّيْخُوخَةِ.
قِيلَ: وأرْذَلُ العُمُرِ هو عِنْدَ أنْ يَصِيرَ الإنْسانُ إلى الخَرَفِ، وهو أنْ يَصِيرَ بِمَنزِلَةِ الصَّبِيِّ الَّذِي لا عَقْلَ لَهُ، وقِيلَ خَمْسٌ وسَبْعُونَ سَنَةً، وقِيلَ تِسْعُونَ سَنَةً، ومِثْلُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ في أحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ﴾ [التين: ٤، ٥] ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحانَهُ رَدَّ مَن يَرُدُّهُ إلى أرْذَلِ العُمُرِ بِقَوْلِهِ: ﴿لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ﴾ كانَ قَدْ حَصَلَ لَهُ شَيْئًا مِنَ العِلْمِ لا كَثِيرًا ولا قَلِيلًا أوْ شَيْئًا مِنَ المَعْلُوماتِ إذا كانَ العِلْمُ هُنا بِمَعْنى المَعْلُومِ، وقِيلَ المُرادُ بِالعِلْمِ هُنا العَقْلُ، وقِيلَ المُرادُ لِئَلّا يَعْلَمَ زِيادَةً عَلى عِلْمِهِ الَّذِي قَدْ حَصَلَ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ.
ثُمَّ لَمّا بَيَّنَ سُبْحانَهُ خَلْقَ الإنْسانِ وتَقَلُّبَهُ في أطْوارِ العُمْرِ ذَكَرَ طَرَفًا مِن أحْوالِهِ لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ عِنْدَ ذَلِكَ فَقالَ: ﴿واللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكم عَلى بَعْضٍ في الرِّزْقِ﴾ فَجَعَلَكم مُتَفاوِتِينَ فِيهِ فَوَسَّعَ عَلى بَعْضِ عِبادِهِ حَتّى جَعَلَ لَهُ مِنَ الرِّزْقِ ما يَكْفِي أُلُوفًا مُؤَلَّفَةً مِن بَنِي آدَمَ، وضَيَّقَهُ عَلى بَعْضِ عِبادِهِ حَتّى صارَ لا يَجِدُ القُوتَ إلّا بِسُؤالِ النّاسِ والتَّكَفُّفِ لَهم، وذَلِكَ لِحِكْمَةٍ بالِغَةٍ تَقْصُرُ عُقُولُ العِبادِ عَنْ تَعَقُّلِها والِاطِّلاعِ عَلى حَقِيقَةِ أسْبابِها، وكَما جَعَلَ التَّفاوُتَ بَيْنَ عِبادِهِ في المالِ جَعَلَهُ بَيْنَهم في العَقْلِ والعِلْمِ والفَهْمِ وقُوَّةِ البَدَنِ وضَعْفِهِ والحُسْنِ والقُبْحِ والصِّحَّةِ والسُّقْمِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأحْوالِ، وقِيلَ: مَعْنى الآيَةِ: أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ أعْطى المَوالِيَ أفْضَلَ مِمّا أعْطى مَمالِيكَهم بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ﴿فَما الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أيْمانُهم﴾ أيْ فَما الَّذِينَ فَضَّلَهُمُ اللَّهُ بِسَعَةِ الرِّزْقِ عَلى غَيْرِهِمْ بِرادِّي رِزْقِهِمُ الَّذِي رَزَقَهُمُ اللَّهُ إيّاهُ عَلى ما مَلَكَتْ أيْمانُهم مِنَ المَمالِيكِ فَهم أيِ المالِكُونَ والمَمالِيكُ فِيهِ أيْ في الرِّزْقِ سَواءٌ أيْ لا يَرُدُّونَهُ عَلَيْهِمْ بِحَيْثُ يُساوُونَهم، فالفاءُ عَلى هَذا لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ التَّساوِيَ مُتَرَتِّبٌ عَلى التَّرادِّ، أيْ: لا يَرُدُّونَهُ عَلَيْهِمْ رَدًّا مُسْتَتْبِعًا لِلتَّساوِي، وإنَّما يَرُدُّونَ عَلَيْهِمْ مِنهُ شَيْئًا يَسِيرًا، وهَذا مِثْلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ بِعَبَدَةِ الأصْنامِ، أيْ: إذا لَمْ يَكُونُوا عَبِيدَكم مَعَكم سَواءً ولا تَرْضَوْنَ بِذَلِكَ فَكَيْفَ تَجْعَلُونَ عَبِيدِي مَعِي سَواءً والحالُ أنَّ عَبِيدَكم مُساوُونَ لَكم في البَشَرِيَّةِ والمَخْلُوقِيَّةِ، فَلَمّا لَمْ تَجْعَلُوا عَبِيدَكم مُشارِكِينَ لَكم في أمْوالِكم، فَكَيْفَ تَجْعَلُونَ بَعْضَ عِبادِ اللَّهِ سُبْحانَهُ شُرَكاءَ لَهُ فَتَعْبُدُونَهم مَعَهُ، أوْ كَيْفَ تَجْعَلُونَ بَعْضَ مَخْلُوقاتِهِ كالأصْنامِ شُرَكاءَ لَهُ في العِبادَةِ ذَكَرَ مَعْنى هَذا ابْنُ جَرِيرٍ، (p-٧٩٢)ومِثْلُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿ضَرَبَ لَكم مَثَلًا مِن أنْفُسِكم هَلْ لَكم مِن ما مَلَكَتْ أيْمانُكم مِن شُرَكاءَ في ما رَزَقْناكم﴾ [الروم: ٢٨]، وقِيلَ إنَّ الفاءَ في ﴿فَهم فِيهِ سَواءٌ﴾ بِمَعْنى حَتّى، " أفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ " حَيْثُ تَفْعَلُونَ ما تَفْعَلُونَ مِنَ الشَّرَكِ، والنِّعْمَةُ هي كَوْنُهُ سُبْحانَهُ جَعَلَ المالِكِينَ مُفَضَّلِينَ عَلى المَمالِيكِ، وقَدْ قُرِئَ ﴿يَجْحَدُونَ﴾ بِالتَّحْتِيَّةِ والفَوْقِيَّةِ.
قالَ أبُو عُبَيْدَةَ، وأبُو حاتِمٍ: وقِراءَةُ الغَيْبَةِ أوْلى لِقُرْبِ المُخْبَرِ عَنْهُ، ولِأنَّهُ لَوْ كانَ خِطابًا لَكانَ ظاهِرُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، والِاسْتِفْهامُ لِلْإنْكارِ، والفاءُ لِلْعَطْفِ عَلى مُقَدَّرٍ، أيْ: يُشْرِكُونَ بِهِ فَيَجْحَدُونَ نِعْمَتَهُ، ويَكُونُ المَعْنى عَلى قِراءَةِ الخِطابِ أنَّ المالِكِينَ لَيْسُوا بِرادِّي رِزْقِهِمْ عَلى مَمالِيكِهِمْ، بَلْ أنا الَّذِي أرْزُقُهم وإيّاهم فَلا يَظُنُّوا أنَّهم يُعْطُونَهم شَيْئًا، وإنَّما هو رِزْقِي أُجْرِيهِ عَلى أيْدِيهِمْ وهم جَمِيعًا في ذَلِكَ سَواءٌ لا مَزِيَّةَ لَهم عَلى مَمالِيكِهِمْ، فَيَكُونُ المَعْطُوفُ عَلَيْهِ المُقَدَّرُ فِعْلًا يُناسِبُ هَذا المَعْنى كَأنْ يُقالَ: لا يَفْهَمُونَ ذَلِكَ فَيَجْحَدُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحانَهُ الحالَةَ الأُخْرى مِن أحْوالِ الإنْسانِ فَقالَ: ﴿واللَّهُ جَعَلَ لَكم مِن أنْفُسِكم أزْواجًا﴾ قالَ المُفَسِّرُونَ: يَعْنِي النِّساءَ فَإنَّهُ خَلَقَ حَوّاءَ مِن ضِلْعِ آدَمَ، أوِ المَعْنى: خَلَقَ لَكم مِن جِنْسِكم أزْواجًا لِتَسْتَأْنِسُوا بِها، لِأنَّ الجِنْسَ يَأْنَسُ إلى جِنْسِهِ ويَسْتَوْحِشُ مِن غَيْرِ جِنْسِهِ، وبِسَبَبِ هَذِهِ الأُنْسَةِ يَقَعُ بَيْنَ الرِّجالِ والنِّساءِ ما هو سَبَبٌ لِلنَّسْلِ الَّذِي هو المَقْصُودُ بِالزَّواجِ، ولِهَذا قالَ: ﴿وجَعَلَ لَكم مِن أزْواجِكم بَنِينَ وحَفَدَةً﴾ الحَفْدَةُ جَمْعُ حافِدٍ، يُقالُ حَفَدَ يَحْفِدُ حَفْدًا وحُفُودًا: إذا أسْرَعَ، فَكُلُّ مَن أسْرَعَ في الخِدْمَةِ فَهو حافِدٌ. قالَ أبُو عُبَيْدٍ: الحَفْدُ العَمَلُ والخِدْمَةُ.
قالَ الخَلِيلُ بْنُ أحْمَدَ: الحَفَدَةُ عِنْدَ العَرَبِ الخَدَمُ، ومِن ذَلِكَ قَوْلُ الشّاعِرِ وهو الأعْشى:
؎كَلَّفْتَ مَجْهُولَنا نُوقًا يَمانِيَّةً إذِ الحُداةُ عَلى أكْتافِها حَفَدُوا
أيِ الخَدَمُ والأعْوانُ.
وقالَ الأزْهَرِيُّ: قِيلَ: الحَفَدَةُ أوْلادُ الأوْلادِ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وقِيلَ: الأخْتانُ، قالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وعَلْقَمَةُ، وأبُو الضُّحى، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وإبْراهِيمُ النَّخَعِيُّ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ:
؎فَلَوْ أنَّ نَفْسِي طاوَعَتْنِي لَأصْبَحَتْ ∗∗∗ لَها حَفَدٌ مِمّا يُعَدُّ كَثِيرُ
؎ولَكِنَّها نَفْسٌ عَلَيَّ أبِيَّةٌ ∗∗∗ عَيُوفٌ لِأصْهارِ اللِّئامِ قَذُورُ
وقِيلَ الحَفَدَةُ: الأصْهارُ.
قالَ الأصْمَعِيُّ: الخَتْنُ مَن كانَ مِن قِبَلِ المَرْأةِ كابْنِها وأخِيها وما أشْبَهَهُما، والأصْهارُ مِنهُما جَمِيعًا، يُقالُ: أصْهَرُ فُلانٌ إلى بَنِي فُلانٍ وصاهَرَ، وقِيلَ: هم أوْلادُ امْرَأةِ الرَّجُلِ مِن غَيْرِهِ، وقِيلَ: الأوْلادُ الَّذِينَ يَخْدِمُونَهُ، وقِيلَ: البَناتُ الخادِماتُ لِأبِيهِنَّ.
ورَجَّحَ كَثِيرٌ مِنَ العُلَماءِ أنَّهم أوْلادُ الأوْلادِ؛ لِأنَّهُ سُبْحانَهُ امْتَنَّ عَلى عِبادِهِ بِأنَّ جَعَلَ لَهم مِنَ الأزْواجِ بَنِينَ وحَفَدَةً، فالحَفَدَةُ في الظّاهِرِ مَعْطُوفُونَ عَلى البَنِينَ وإنْ كانَ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: جَعَلَ لَكم مِن أزْواجِكم بَنِينَ وجَعَلَ لَكم حَفَدَةً، ولَكِنْ لا يَمْتَنِعُ عَلى هَذا المَعْنى الظّاهِرِ أنْ يُرادَ بِالبَنِينَ مَن لا يَخْدِمُ، وبِالحَفَدَةِ مَن يَخْدِمُ الأبَ مِنهم، أوْ يُرادُ بِالحَفَدَةِ البَناتُ فَقَطْ، ولا يُفِيدُ أنَّهم أوْلادُ الأوْلادِ إلّا إذا كانَ تَقْدِيرُ الآيَةِ: وجَعَلَ لَكم مِن أزْواجِكم بَنِينَ، ومِنَ البَنِينِ حَفَدَةً ﴿ورَزَقَكم مِنَ الطَّيِّباتِ﴾ الَّتِي تَسْتَطِيبُونَها وتَسْتَلِذُّونَها ومِن لِلتَّبْعِيضِ لِأنَّ الطَّيِّباتِ لا تَكُونُ مُجْتَمِعَةً إلّا في الجَنَّةِ، ثُمَّ خَتَمَ سُبْحانَهُ الآيَةَ بِقَوْلِهِ: ﴿أفَبِالباطِلِ يُؤْمِنُونَ﴾ والِاسْتِفْهامُ لِلْإنْكارِ التَّوْبِيخِيِّ، والفاءُ لِلْعَطْفِ عَلى مُقَدَّرٍ، أيْ: يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ فَيُؤْمِنُونَ بِالباطِلِ، وقَدْ تَقَدَّمَ ( بِالباطِلِ ) عَلى الفِعْلِ دَلالَةً عَلى أنَّهُ لَيْسَ لَهم إيمانٌ إلّا بِهِ، والباطِلُ هو اعْتِقادُهم في أصْنامِهِمْ أنَّها تَضُرُّ وتَنْفَعُ، وقِيلَ الباطِلُ ما زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ مِن تَحْرِيمِ البَحِيرَةِ والسّائِبَةِ ونَحْوِهِما.
قَرَأ الجُمْهُورُ يُؤْمِنُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ، وقَرَأ أبُو بَكْرٍ بِالفَوْقِيَّةِ عَلى الخِطابِ ﴿وبِنِعْمَةِ اللَّهِ هم يَكْفُرُونَ﴾ أيْ ما أنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِمّا لا يُحِيطُ بِهِ حَصْرٌ، وفي تَقْدِيمِ النِّعْمَةِ وتَوْسِيطِ ضَمِيرِ الفَصْلِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ كُفْرَهم مُخْتَصٌّ بِذَلِكَ لا يَتَجاوَزُهُ لِقَصْدِ المُبالَغَةِ والتَّأْكِيدِ.
﴿ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ هو مَعْطُوفٌ عَلى يَكْفُرُونَ داخِلٌ تَحْتَ الإنْكارِ التَّوْبِيخِيِّ إنْكارًا مِنهُ سُبْحانَهُ عَلَيْهِمْ حَيْثُ يَعْبُدُونَ الأصْنامَ، وهي لا تَنْفَعُ ولا تَضُرُّ، ولِهَذا قالَ ﴿ما لا يَمْلِكُ لَهم رِزْقًا مِنَ السَّماواتِ والأرْضِ شَيْئًا﴾ قالَ الأخْفَشُ: إنَّ شَيْئًا بَدَلٌ مِنَ الرِّزْقِ.
وقالَ الفَرّاءُ: هو مَنصُوبٌ بِإيقاعِ الرِّزْقِ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ رِزْقًا مَصْدَرًا عامِلًا في شَيْئًا، والأخْفَشُ جَعَلَهُ اسْمًا لِلرِّزْقِ، وقِيلَ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ ﴿لا يَمْلِكُ﴾ أيْ لا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنَ المِلْكِ، والمَعْنى: أنَّ هَؤُلاءِ الكُفّارَ يَعْبُدُونَ مَعْبُوداتٍ لا تَمْلِكُ لَهم رِزْقًا أيَّ رِزْقٍ، و﴿مِنَ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ صِفَةٌ لِرِزْقٍ، أيْ: كائِنًا مِنهُما، والضَّمِيرُ في ﴿ولا يَسْتَطِيعُونَ﴾ راجِعٌ إلى ( ما ) وجُمِعَ جَمْعَ العُقَلاءِ بِناءً عَلى زَعْمِهِمُ الباطِلِ، والفائِدَةُ في نَفْيِ الِاسْتِطاعَةِ عَنْهم أنَّ مَن لا يَمْلِكُ شَيْئًا قَدْ يَكُونُ مَوْصُوفًا بِاسْتِطاعَةِ التَّمَلُّكِ بِطَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ، فَبَيَّنَ سُبْحانَهُ أنَّها لا تَمْلِكُ ولا تَسْتَطِيعُ، وقِيلَ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ في يَسْتَطِيعُونَ لِلْكُفّارِ، أيْ: لا يَسْتَطِيعُ هَؤُلاءِ الكُفّارُ مَعَ كَوْنِهِمْ أحْياءً مُتَصَرِّفِينَ، فَكَيْفَ بِالجَماداتِ الَّتِي لا حَياةَ لَها ولا تَسْتَطِيعُ التَّصَرُّفَ ؟ .
ثُمَّ نَهاهم سُبْحانَهُ عَنْ أنْ يُشَبِّهُوهُ بِخَلْقِهِ فَقالَ: ﴿فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثالَ﴾ فَإنَّ ضارِبَ المَثَلِ يُشَبِّهُ حالًا بِحالٍ وقِصَّةً بِقِصَّةٍ.
قالَ الزَّجّاجُ: لا تَجْعَلُوا لِلَّهِ مَثَلًا لِأنَّهُ واحِدٌ لا مَثَلَ لَهُ، وكانُوا يَقُولُونَ: إنَّ إلَهَ العالَمِ أجَلُّ مِن أنْ يَعْبُدَهُ الواحِدُ مِنّا، فَكانُوا يَتَوَسَّلُونَ إلى الأصْنامِ والكَواكِبِ، كَما أنَّ أصاغِرَ النّاسِ يَخْدِمُونَ أكابِرَ حَضْرَةِ المَلِكِ، وأُولَئِكَ الأكابِرُ يَخْدِمُونَ المَلِكَ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ، وعَلَّلَ النَّهْيَ بِقَوْلِهِ: إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ يَعْلَمُ ما عَلَيْكم مِنَ العِبادَةِ ﴿وأنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ ما في عِبادَتِها مِن سُوءِ العاقِبَةِ، والتَّعَرُّضِ لِعَذابِ اللَّهِ سُبْحانَهُ، أوْ أنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِشَيْءٍ مِن ذَلِكَ، وفِعْلُكم هَذا هو عَنْ تَوَهُّمٍ فاسِدٍ وخاطِرٍ باطِلٍ وخَيالٍ مُخْتَلٍّ، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثالَ إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ كَيْفَ تُضْرَبُ الأمْثالُ وأنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذَلِكَ.
وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَلِيٍّ في قَوْلِهِ: ﴿ومِنكم مَن يُرَدُّ إلى أرْذَلِ العُمُرِ﴾ قالَ: خَمْسٌ وسَبْعُونَ سَنَةً.
وأخْرَجَ ابْنُ (p-٧٩٣)أبِي حاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قالَ: هو الخَرَفُ.
وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، وابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قالَ: «مَن قَرَأ القُرْآنَ لَمْ يُرَدَّ إلى أرْذَلِ العُمُرِ،» ثُمَّ قَرَأ ﴿لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا﴾ .
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ عَنْ طاوُسٍ قالَ: العالِمُ لا يُخَرِّفُ.
وقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ ﷺ في الصَّحِيحِ وغَيْرِهِ «أنَّهُ كانَ يَتَعَوَّذُ بِاللَّهِ أنْ يُرَدَّ إلى أرْذَلِ العُمُرِ» .
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿واللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكم عَلى بَعْضٍ في الرِّزْقِ﴾ قالَ: لَمْ يَكُونُوا لِيُشْرِكُوا عَبِيدَهم في أمْوالِهِمْ ونِسائِهِمْ فَكَيْفَ يُشْرِكُونَ عَبِيدِي مَعِي في سُلْطانِي.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُجاهِدٍ في الآيَةِ قالَ: هَذا مَثَلٌ لِآلِهَةِ الباطِلِ مَعَ اللَّهِ.
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿واللَّهُ جَعَلَ لَكم مِن أنْفُسِكم أزْواجًا﴾ قالَ: خَلَقَ آدَمَ، ثُمَّ خَلَقَ زَوْجَتَهُ مِنهُ.
وأخْرَجَ الفِرْيابِيُّ، وسَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، والبُخارِيُّ في تارِيخِهِ وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والطَّبَرانِيُّ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ في قَوْلِهِ: ﴿بَنِينَ وحَفَدَةً﴾ قالَ: الحَفَدَةُ الأخْتانُ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: الحَفَدَةُ الأصْهارُ.
وأخْرَجا عَنْهُ قالَ: الحَفَدَةُ الوَلَدُ ووَلَدُ الوَلَدِ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ أيْضًا قالَ: الحَفَدَةُ بَنُو البَنِينَ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أبِي جَمْرَةَ قالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿بَنِينَ وحَفَدَةً﴾ قالَ: مَن أعانَكَ فَقَدْ حَفَدَكَ، أما سَمِعْتَ الشّاعِرَ يَقُولُ:
؎حَفَدَ الوَلائِدُ حَوْلَهُنَّ وأسْلَمَتْ ∗∗∗ بِأكُفِّهِنَّ أزِمَّةُ الأجْمالِ
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ أيْضًا قالَ: الحَفَدَةُ بَنُو امْرَأةِ الرَّجُلِ لَيْسُوا مِنهُ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ قَتادَةَ ﴿أفَبِالباطِلِ يُؤْمِنُونَ﴾ قالَ: الشِّرْكُ.
وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قالَ هو الشَّيْطانُ ﴿وبِنِعْمَةِ اللَّهِ﴾ قالَ: مُحَمَّدٌ.
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ الآيَةَ قالَ: هَذِهِ الأوْثانُ الَّتِي تُعْبَدُ مِن دُونِ اللَّهِ لا تَمْلِكُ لِمَن يَعْبُدُها ﴿رِزْقًا مِنَ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ ولا خَيْرًا ولا حَياةً ولا نُشُورًا ﴿فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثالَ﴾ فَإنَّهُ أحَدٌ صَمَدٌ لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحَدٌ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثالَ﴾ يَعْنِي اتِّخاذَهُمُ الأصْنامَ، يَقُولُ لا تَجْعَلُوا مَعِي إلَهًا غَيْرِي، فَإنَّهُ لا إلَهَ غَيْرِي.
{"ayahs_start":70,"ayahs":["وَٱللَّهُ خَلَقَكُمۡ ثُمَّ یَتَوَفَّىٰكُمۡۚ وَمِنكُم مَّن یُرَدُّ إِلَىٰۤ أَرۡذَلِ ٱلۡعُمُرِ لِكَیۡ لَا یَعۡلَمَ بَعۡدَ عِلۡمࣲ شَیۡـًٔاۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمࣱ قَدِیرࣱ","وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضࣲ فِی ٱلرِّزۡقِۚ فَمَا ٱلَّذِینَ فُضِّلُوا۟ بِرَاۤدِّی رِزۡقِهِمۡ عَلَىٰ مَا مَلَكَتۡ أَیۡمَـٰنُهُمۡ فَهُمۡ فِیهِ سَوَاۤءٌۚ أَفَبِنِعۡمَةِ ٱللَّهِ یَجۡحَدُونَ","وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَ ٰجࣰا وَجَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَزۡوَ ٰجِكُم بَنِینَ وَحَفَدَةࣰ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّیِّبَـٰتِۚ أَفَبِٱلۡبَـٰطِلِ یُؤۡمِنُونَ وَبِنِعۡمَتِ ٱللَّهِ هُمۡ یَكۡفُرُونَ","وَیَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا یَمۡلِكُ لَهُمۡ رِزۡقࣰا مِّنَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ شَیۡـࣰٔا وَلَا یَسۡتَطِیعُونَ","فَلَا تَضۡرِبُوا۟ لِلَّهِ ٱلۡأَمۡثَالَۚ إِنَّ ٱللَّهَ یَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ"],"ayah":"وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضࣲ فِی ٱلرِّزۡقِۚ فَمَا ٱلَّذِینَ فُضِّلُوا۟ بِرَاۤدِّی رِزۡقِهِمۡ عَلَىٰ مَا مَلَكَتۡ أَیۡمَـٰنُهُمۡ فَهُمۡ فِیهِ سَوَاۤءٌۚ أَفَبِنِعۡمَةِ ٱللَّهِ یَجۡحَدُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق