الباحث القرآني
(p-٥٠٨)﴿وإنَّ لَكم في الأنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكم مِمّا في بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ ودَمٍ لَبَنًا خالِصًا سائِغًا لِلشّارِبِينَ﴾ ﴿ومِن ثَمَراتِ النَّخِيلِ والأعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنهُ سَكَرًا ورِزْقًا حَسَنًا إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ ﴿وأوْحى رَبُّكَ إلى النَّحْلِ أنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبالِ بُيُوتًا ومِنَ الشَّجَرِ ومِمّا يَعْرِشُونَ﴾ ﴿ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَراتِ فاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِن بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ ألْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾: لَمّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى إحْياءَ الأرْضِ بَعْدَ مَوْتِها، ذَكَرَ ما يَنْشَأُ عَنْ ما يَنْشَأُ عَنِ المَطَرِ وهو حَياةُ الأنْعامِ الَّتِي هي مَأْلُوفُ العَرَبِ بِما يَتَناوَلُهُ مِنَ النَّباتِ النّاشِئِ عَنِ المَطَرِ، ونَبَّهَ عَلى العِبْرَةِ العَظِيمَةِ وهو خُرُوجُ اللَّبَنِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ ودَمٍ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ بِخِلافٍ، والحَسَنُ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وابْنُ عامِرٍ، وأبُو بَكْرٍ، ونافِعٌ، وأهْلُ المَدِينَةِ. نَسْقِيكم هُنا، وفي ﴿قَدْ أفْلَحَ المُؤْمِنُونَ﴾ [المؤمنون: ١]: بِفَتْحِ النُّونِ مُضارِعُ سَقى، وباقِي السَّبْعَةِ بِضَمِّها مُضارِعُ أسْقى، وتَقَدَّمَ الكَلامُ في سَقى وأسْقى في قَوْلِهِ ﴿فَأسْقَيْناكُمُوهُ﴾ [الحجر: ٢٢] وقَرَأ أبُو رَجاءٍ: يُسْقِيكم، بِالياء مَضْمُومَةً، والضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى اللَّهِ، أيْ: يَسْقِيكُمُ اللَّهُ. قالَ صاحِبُ اللَّوامِحِ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُسْنَدًا إلى النَّعَمِ، وذَكَّرَ لِأنَّ النَّعَمَ مِمّا يُذَكَّرُ ويُؤَنَّثُ؛ ومَعْناهُ: وأنَّ لَكم في الأنْعامِ نِعْمًا يَسْقِيكم، أيْ: يَجْعَلُ لَكم سُقْيًا؛ انْتَهى. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: بِالتّاءِ مَفْتُوحَةً؛ مِنهم أبُو جَعْفَرٍ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهي ضَعِيفَةٌ؛ انْتَهى. وضَعْفُها عِنْدَهُ - واللَّهُ أعْلَمُ - مِن حَيْثُ أنَّثَ في (تَسْقِيكم)، وذَكَّرَ في قَوْلِهِ: ﴿مِمّا في بُطُونِهِ﴾، ولا ضَعْفَ في ذَلِكَ مِن هَذِهِ الجِهَةِ، لِأنَّ التَّأْنِيثَ والتَّذْكِيرَ بِاعْتِبارِ وجْهَيْنِ، وأعادَ الضَّمِيرَ مُذَكَّرًا مُراعاةً لِلْجِنْسِ، لِأنَّهُ إذا صَحَّ وُقُوعُ المُفْرَدِ الدّالِّ عَلى الجِنْسِ مَقامَ جَمْعِهِ جازَ عَوْدُهُ عَلَيْهِ مُذَكَّرًا، كَقَوْلِهِمْ: هو أحْسَنُ الفِتْيانِ وأنْبَلُهُ، لِأنَّهُ يَصِحُّ هو أحْسَنُ فَتًى، وإنْ كانَ هَذا لا يَنْقاسُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، إنَّما يَقْتَصِرُ فِيهِ عَلى ما قالَتْهُ العَرَبُ. وقِيلَ: جَمْعُ التَّكْسِيرِ فِيما لا يَعْقِلُ يُعامَلُ مُعامَلَةَ الجَماعَةِ، ومُعامَلَةَ الجَمْعِ، فَيَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ مُفْرَدًا. كَقَوْلِهِ:
؎مِثْلُ الفِراخِ نَبَقَتْ حَواصِلُهُ
وقِيلَ: أفْرَدَ عَلى تَقْدِيرِ المَذْكُورِ كَما يُفْرَدُ اسْمُ الإشارَةِ بَعْدَ الجَمْعِ كَما قالَ:(p-٥٠٩)
؎فِيها خُطُوطٌ مِن سَوادٍ وبَلَقْ ∗∗∗ كَأنَّهُ في الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ
فَقالَ: كَأنَّهُ وقَدَّرَ بَكانَ المَذْكُورِ. قالَ الكِسائِيُّ:، أيْ في بُطُونِ ما ذَكَرْنا. قالَ المُبَرِّدُ: وهَذا سائِغٌ في القُرْآنِ؛ قالَ تَعالى: ﴿إنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ﴾ [المزمل: ١٩] ﴿فَمَن شاءَ ذَكَرَهُ﴾ [المدثر: ٥٥]، أيْ: ذَكَرَ هَذا الشَّيْءَ. وقالَ: ﴿فَلَمّا رَأى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هَذا رَبِّي﴾ [الأنعام: ٧٨]، أيْ: هَذا الشَّيْءُ الطّالِعُ. ولا يَكُونُ هَذا إلّا في التَّأْنِيثِ المَجازِيِّ، لا يَجُوزُ: جارِيَتُكَ ذَهَبَ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: الضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى البَعْضِ، إذِ الذُّكُورُ لا ألْبانَ لَها، فَكَأنَّ العِبْرَةَ إنَّما هي في بَعْضِ الأنْعامِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ الأنْعامَ في بابِ ما لا يَنْصَرِفُ في الأسْماءِ المُفْرَدَةِ عَلى أفْعالٍ، كَقَوْلِهِمْ: ثَوْبُ أكْياشَ، ولِذَلِكَ رَجَعَ الضَّمِيرُ إلَيْهِ مُفْرَدًا، وأمّا ﴿فِي بُطُونِها﴾ [المؤمنون: ٢١] في سُورَةِ المُؤْمِنِينَ فَلِأنَّ مَعْناهُ الجَمْعُ، ويَجُوزُ أنْ يُقالَ في الأنْعامِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ تَكْسِيرُ نَعَمٍ كالأجْبالِ في جَبَلٍ، وأنْ يَكُونَ اسْمًا مُفْرَدًا مُقْتَضِيًا لِمَعْنى الجَمْعِ كَنَعَمٍ، فَإذا ذُكِّرَ فَكَما يُذْكَرُ نَعَمٍ في قَوْلِهِ:
؎فِي كُلِّ عامٍ نَعَمٌ تَحْوُونَهُ ∗∗∗ يُلَقِّحُهُ قَوْمٌ ويُنْتِجُونَهُ
وإذا أُنِّثَ فَفِيهِ وجْهانِ: إنَّهُ تَكْسِيرُ نَعَمٍ، وأنَّهُ في مَعْنى الجَمْعِ؛ انْتَهى. وأمّا ما ذَكَرَهُ عَنْ سِيبَوَيْهِ فَفي كِتابِهِ في هَذا في بابِ ما كانَ عَلى مِثالِ مُفاعِلَ ومَفاعِيلَ ما نَصُّهُ: وأمّا أجَمالٌ وفُلُوسٌ، فَإنَّها تَنْصَرِفُ وما أشْبَهَها، لِأنَّها ضارَعَتِ الواحِدَ. ألا تَرى أنَّكَ تَقُولُ: أقْوالٌ وأقاوِيلُ، وأعْرابٌ وأعارِيبُ، وأيْدٍ وأيادٍ، فَهَذِهِ الأحْرُفُ تَخْرُجُ إلى مِثالِ مُفاعِلَ ومَفاعِيلَ كَما يَخْرُجُ إلَيْهِ الواحِدُ إذا كُسِرَ لِلْجَمْعِ، وأمّا مَفاعِلُ ومَفاعِيلُ فَلا يُكْسَرُ، فَيَخْرُجُ الجَمْعُ إلى بِناءٍ غَيْرِ هَذا، لِأنَّ هَذا البِناءَ هو الغايَةُ، فَلَمّا ضارَعَتِ الواحِدَ صُرِفَتْ. ثُمَّ قالَ: وكَذَلِكَ الفُعُولُ لَوْ كُسِرَتْ مِثْلُ الفُلُوسِ لِأنْ تُجْمَعَ جَمْعًا لَأخْرَجَتْهُ إلى فَعائِلَ، كَما تَقُولُ: جُدُودٌ وجَدائِدُ، ورُكُوبٌ ورَكائِبُ، ولَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ بِمَفاعِلَ ومَفاعِيلَ لَمْ يُجاوِزْ هَذا البِناءَ. ويُقَوِّي ذَلِكَ أنَّ بَعْضَ العَرَبِ يَقُولُ: أتى لِلْواحِدِ، فَيَضُمُّ الألِفَ، وأمّا أفْعالٌ فَقَدْ تَقَعُ لِلْواحِدِ؛ مِنَ العَرَبِ مَن يَقُولُ هو الأنْعامُ، قالَ جَلَّ ثَناؤُهُ وعَزَّ: ﴿نُسْقِيكم مِمّا في بُطُونِهِ﴾ .
وقالَ أبُو الخَطّابِ: سَمِعْتُ العَرَبَ يَقُولُونَ: هَذا ثَوْبُ أكْياشَ؛ انْتَهى. والَّذِي ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ هو الفَرْقُ بَيْنَ مَفاعِلَ ومَفاعِيلَ، وبَيْنَ أفْعالٍ وفُعُولٍ، وإنْ كانَ الجَمِيعُ أبْنِيَةً لِلْجَمْعِ مِن حَيْثُ إنَّ مُفاعِلَ ومَفاعِيلَ لا يُجْمَعانِ، وأفْعالٌ وفُعُولٌ قَدْ يَخْرُجانِ إلى بِناءِ شِبْهِ مَفاعِلَ أوْ مَفاعِيلَ لِشَبَهِ ذَيْنَكَ بِالمُفْرَدِ، مِن حَيْثُ إنَّهُ يُمْكِنُ جَمْعُهُما وامْتِناعُ هَذَيْنِ مِنَ الجَمْعِ، ثُمَّ قَوّى شَبَهُهُما بِالمُفْرَدِ بِأنَّ بَعْضَ العَرَبِ قالَ في أتى: أُتى، بِضَمِّ الهَمْزَةِ، يَعْنِي أنَّهُ قَدْ جاءَ نادِرًا فُعُولٌ مِن غَيْرِ المَصْدَرِ لِلْمُفْرَدِ، وبِأنَّ بَعْضَ العَرَبِ قَدْ يُوقِعُ أفْعالًا لِلْواحِدَةِ مِن حَيْثُ أفْرَدَ الضَّمِيرَ فَتَقُولُ: هو الأنْعامُ، وإنَّما يَعْنِي أنَّ ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ المَجازِ، لِأنَّ الأنْعامَ في مَعْنى النَّعَمِ كَما قالَ الشّاعِرُ:
؎تَرَكْنا الخَيْلَ والنَّعَمَ المُفَدّى ∗∗∗ وقُلْنا لِلنِّساءِ بِها أقِيمِي
ولِذَلِكَ قالَ سِيبَوَيْهِ: وأمّا أفْعالٌ فَقَدْ تَقَعُ لِلْواحِدِ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ بِالوَضْعِ. فَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: إنَّهُ ذَكَرَهُ في الأسْماءِ المُفْرَدَةِ عَلى أفْعالٍ تَحْرِيفٌ في اللَّفْظِ، وفُهِمٌ عَنْ سِيبَوَيْهِ ما لَمْ يُرِدْهُ، ويَدُلُّ عَلى ما قُلْناهُ أنَّ سِيبَوَيْهِ حِينَ ذَكَرَ أبْنِيَةَ الأسْماءِ المُفْرَدَةِ نَصَّ عَلى أنَّ أفْعالًا لَيْسَ مِن أبْنِيَتِها. قالَ سِيبَوَيْهِ في بابِ ما لَحِقَتْهُ الزَّوائِدُ مِن بَناتِ الثَّلاثَةِ ولَيْسَ في الكَلامِ: أفْعِيلٌ، ولا أُفَعْوِلٌ ولا أفْعالٌ، ولا إفْعِيلٌ، ولا إفْعالٌ إلّا أنْ تَكْسِرَ عَلَيْهِ اسْمًا لِلْجَمِيعِ؛ انْتَهى. فَهَذا نَصٌّ مِنهُ عَلى أنَّ أفْعالًا لا يَكُونُ في الأبْنِيَةِ المُفْرَدَةِ. ونَسْقِيكم مِمّا في بُطُونِهِ: تَبْيِينٌ لِلْعِبْرَةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وهو اسْتِئْنافٌ كَأنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ العِبْرَةُ ؟ فَقِيلَ: نَسْقِيكم مِن بَيْنِ فَرْثٍ ودَمٍ، أيْ: يَخْلُقُ اللَّهُ اللَّبَنَ وسَطًا بَيْنَ الفَرْثِ والدَّمِ يَكْتَنِفانِهِ، وبَيْنَهُ وبَيْنَهُما بَرْزَخٌ مِن قُدْرَةِ اللَّهِ لا يَبْغِي أحَدَهُما عَلَيْهِ بِلَوْنٍ ولا طَعْمٍ ولا رائِحَةٍ، بَلْ هو خالِصٌ مِن كُلِّهِ؛ انْتَهى. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: إذا (p-٥١٠)اسْتَقَرَّ العَلَفُ في الكِرْشِ صارَ أسْفَلُهُ فَرْثًا يَبْقى فِيهِ، وأعْلاهُ دَمًا يَجْرِي في العُرُوقِ، وأوْسَطُهُ لَبَنًا يَجْرِي في الضَّرْعِ. وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الفَرْثُ في أوْسَطِ المَصارِينِ، والدَّمُ في أعْلاها، واللَّبَنُ بَيْنَهُما، والكَبِدُ يَقْسِمُ الفَرْثَ إلى الكَرِشِ، والدَّمَ إلى العُرُوقِ، واللَّبَنَ إلى الضُّرُوعِ.
وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: قالَ المُفَسِّرُونَ: المُرادُ مِن قَوْلِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ ودَمٍ، هو أنَّ هَذِهِ الثَّلاثَةَ تَتَوَلَّدُ في مَوْضِعٍ واحِدٍ، فالفَرْثُ يَكُونُ في أسْفَلِ الكَرِشِ، والدَّمُ في أعْلاهُ، واللَّبَنُ في الوَسَطِ، وقَدْ دَلَّلْنا عَلى أنَّ هَذا القَوْلَ عَلى خِلافِ الحِسِّ والتَّجْرِبَةِ، وكانَ الرّازِيُّ قَدْ قَدَّمَ أنَّ الحَيَوانَ يُذْبَحُ ولا يُرى في كَرِشِهِ دَمٌ ولا لَبَنٌ، بَلِ الحَقُّ أنَّ الغِذاءَ إذا تَناوَلَهُ الحَيَوانُ وصَلَ إلى الكَرِشِ وانْطَبَخَ وحَصَلَ الهَضْمُ الأوَّلُ فِيهِ، فَما كانَ مِنهُ كَثِيفًا نَزَلَ إلى الأمْعاءِ، وصافِيًا انْحَدَرَ إلى الكَبِدِ فَيَنْطَبِخُ فِيها ويَصِيرُ دَمًا، وهو الهَضْمُ الثّانِي مَخْلُوطًا بِالصَّفْراءِ والسَّوْداءِ وزِيادَةِ المائِيَّةِ، فَتَذْهَبُ الصَّفْراءُ إلى المَرارَةِ، والسَّوْداءُ إلى الطِّحالِ، والماءُ إلى الكُلْيَةِ، وخالِصُ الدَّمِ يَذْهَبُ إلى الأوْرِدَةِ - وهي العُرُوقُ النّابِتَةُ مِنَ الكَبِدِ - فَيَحْصُلُ الهَضْمُ الثّالِثُ. وبَيْنَ الكَبِدِ وبَيْنَ الضَّرْعِ عُرُوقٌ كَثِيرَةٌ يَنْصَبُّ الدَّمُ مِن تِلْكَ العُرُوقِ إلى الضَّرْعِ، وهو لَحْمٌ رِخْوٌ أبْيَضُ فَيَنْقَلِبُ مِن صُورَةِ الدَّمِ إلى صُورَةِ اللَّبَنِ، فَهَذا هو الصَّحِيحُ في كَيْفِيَّةِ تَوالُدِ اللَّبَنِ؛ انْتَهى، مُلَخَّصًا. وقالَ أيْضًا: وأمّا نَحْنُ فَنَقُولُ: المُرادُ مِنَ الآيَةِ هو أنَّ اللَّبَنَ إنَّما يَتَوَلَّدُ مِن بَعْضِ أجْزاءِ الدَّمِ، والدَّمُ إنَّما يَتَوَلَّدُ مِنَ الأجْزاءِ اللَّطِيفَةِ الَّتِي في الفَرْثِ، وهي الأشْياءُ المَأْكُولَةُ الحاصِلَةُ في الكَرِشِ. فاللَّبَنُ مُتَوَلَّدٌ مِمّا كانَ حاصِلًا فِيما بَيْنُ الفَرْثِ أوَّلًا، ثُمَّ مِمّا كانَ حاصِلًا فِيما بَيْنَ الدَّمِ ثانِيًا؛ انْتَهى، مُلَخَّصًا أيْضًا.
والَّذِي يَظْهَرُ مِن لَفْظِ الآيَةِ أنَّ اللَّبَنَ يَكُونُ وسَطًا بَيْنَ الفَرْثِ والدَّمِ، والبَيْنِيَّةُ يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ بِاعْتِبارِ المَكانِيَّةِ حَقِيقَةً كَما قالَهُ المُفَسِّرُونَ وادَّعى الرّازِيُّ أنَّهُ عَلى خِلافِ الحِسِّ والمُشاهَدَةِ. ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ البَيْنِيَّةُ مَجازِيَّةً، بِاعْتِبارِ تَوَلُّدِهِ مِن ما حَصَلَ في الفَرْثِ أوَّلًا، وتُوَلُّدِهُ مِنَ الدَّمِ النّاشِئِ مِن لَطِيفِ ما كانَ في الفَرْثِ ثانِيًا كَما قَرَّرَهُ الرّازِيُّ. و(مِن) الأُولى: لِلتَّبْعِيضِ مُتَعَلِّقَةٌ بِـ نُسْقِيكم، والثّانِيَةُ: لِابْتِداءِ الغايَةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِـ نُسْقِيكم، وجازَ تَعَلُّقُهُما بِعامِلٍ واحِدٍ لِاخْتِلافِ مَدْلُولَيْهِما. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ﴿مِن بَيْنِ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ، فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، لِأنَّهُ لَوْ تَأخَّرَ لَكانَ صِفَةً، أيْ: كائِنًا مِن بَيْنِ فَرْثٍ ودَمٍ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ﴿مِن بَيْنِ فَرْثٍ﴾ بَدَلًا مِن (ما في بُطُونِهِ) . وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: سَيِّغًا، بِتَشْدِيدِ الياءِ، وعِيسى بْنُ عُمَرَ: سَيْغًا، مُخَفَّفًا مِن سَيِّغٍ، كَهَيْنٍ المُخَفَّفِ مِن هَيِّنٍ، ولَيْسَ بِفِعْلٍ لازِمٍ كانَ يَكُونُ سَوْغًا. والسّائِغُ: السَّهْلُ في الحَلْقِ اللَّذِيذُ، ورُوِيَ في الحَدِيثِ «أنَّ اللَّبَنَ لَمْ يَشْرَقْ بِهِ أحَدٌ قَطُّ» ولَمّا ذَكَرَ تَعالى ما مَنَّ بِهِ مِن بَعْضِ مَنافِعِ الحَيَوانِ، ذَكَرَ ما مَنَّ بِهِ مِن بَعْضِ مَنافِعِ النَّباتِ. والظّاهِرُ تَعَلُّقُ ﴿ومِن ثَمَراتِ﴾ بِـ تَتَّخِذُونَ، وكُرِّرَتْ (مِن) لِلتَّأْكِيدِ، وكانَ الضَّمِيرُ مُفْرَدًا راعِيًا لِمَحْذُوفٍ، أيْ: ومِن عَصِيرِ ثَمَراتٍ، أوْ عَلى مَعْنى الثَّمَراتِ، وهو الثَّمَرُ، أوْ بِتَقْدِيرٍ مِنَ المَذْكُورِ. وقِيلَ: تَتَعَلَّقُ بِـ نُسْقِيكم، فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلى ﴿مِمّا في بُطُونِهِ﴾، أوْ بِـ نُسْقِيكم مَحْذُوفَةً دَلَّ عَلَيْها (نُسْقِيكُمُ) المُتَقَدِّمَةُ، فَيَكُونُ مِن عَطْفِ الجُمَلِ، والَّذِي قَبْلَهُ مِن عَطْفِ المُفْرَداتِ إذا اشْتَرَكا في العامِلِ. وقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلى الأنْعامِ، أيْ: ومِن ثَمَراتِ النَّخِيلِ والأعْنابِ عِبْرَةٌ، ثُمَّ بَيَّنَ العِبْرَةَ بِقَوْلِهِ: تَتَّخِذُونَ. وقالَ الطَّبَرِيُّ: التَّقْدِيرُ ومِن ثَمَراتِ النَّخِيلِ والأعْنابِ ما تَتَّخِذُونَ. فَحَذَفَ (ما) وهو لا يَجُوزُ عَلى مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ صِفَةَ مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ كَقَوْلِهِ: بِكَفِّي كانَ مَن أرْمىالبَشَرِ. تَقْدِيرُهُ: ومِن ثَمَراتِ النَّخِيلِ والأعْنابِ ثَمَرٌ تَتَّخِذُونَ مِنهُ؛ انْتَهى. وهَذا الَّذِي أجازَهُ قالَهُ الحَوْفِيُّ؛ قالَ: أيْ: وإنَّ مِن ثَمَراتِ، وإنْ شِئْتَ شَيْءٌ، بِالرَّفْعِ بِالِابْتِداءِ، ومِن ثَمَراتِ: خَبَرُهُ؛ انْتَهى.
والسَّكَرُ في اللُّغَةِ: الخَمْرُ. قالَ الشّاعِرُ:
؎بِئْسَ الصُّحاةُ وبِئْسَ الشُّرْبُ شُرْبُهم ∗∗∗ إذا جَرى مِنهُمُ المُزّاءُ والسَّكَرُ
(p-٥١١)وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سُمِّيَتْ بِالمَصْدَرِ مِن سَكِرَ سُكْرًا وسَكَرًا نَحْو: رَشُدَ رُشْدًا ورَشَدًا. قالَ الشّاعِرُ:
؎وجاءُونا بِهِمْ سَكَرًا عَلَيْنا ∗∗∗ فَأُجْلِيَ اليَوْمَ والسَّكْرانُ صاحِي
وقالَهُ: ابْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ عُمَرَ، وأبُو رَزِينٍ، والحَسَنُ، ومُجاهِدٌ، والشَّعْبِيُّ، والنَّخْعِيُّ، وابْنُ أبِي لَيْلى، والكَلْبِيُّ، وابْنُ جُبَيْرٍ، وأبُو ثَوْرٍ، والجُمْهُورُ. وهَذِهِ الآيَةُ مَكِّيَّةٌ نَزَلَتْ قَبْلَ تَحْرِيمِ الخَمْرِ، ثُمَّ حُرِّمَتْ بِالمَدِينَةِ فَهي مَنسُوخَةٌ. قالَ الحَسَنُ: ذَكَرَ اللَّهُ نِعْمَتَهُ في السَّكَرِ قَبْلَ تَحْرِيمِ الخَمْرِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هو الخَلُّ بِلُغَةِ الحَبَشَةِ. وقِيلَ: العَصِيرُ الحُلْوُ الحَلالُ، وسُمِّيَ سَكَرًا بِاعْتِبارِ مَآلِهِ إذا تُرِكَ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: السَّكَرُ: الطَّعامُ، يُقالُ هَذا سَكَرٌ لَك، أيْ: طَعامٌ، واخْتارَهُ الطَّبَرِيُّ قالَ: والسَّكَرُ في كَلامِ العَرَبِ: ما يُطْعَمُ. وأنْشَدَ أبُو عُبَيْدَةَ:
؎جَعَلَتْ أعْراضَ الكِرامِ سَكَرًا
أيْ: تَنَقَّلَتْ بِأعْراضِهِمْ. وقِيلَ: هو مِنَ الخَمْرِ، وأنَّهُ إذا ابْتَرَكَ في أعْراضِ النّاسِ فَكَأنَّهُ تَخَمَّرَ بِها، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وتَبِعَ الزَّجّاجُ قالَ: يَصِفُ أنَّهُ يُخَمَّرُ بِعُيُوبِ النّاسِ، وعَلى هَذِهِ الأقْوالِ لا نَسْخَ. وقالَ الزَّجّاجُ: قَوْلُ أبِي عُبَيْدَةَ لا يَصِحُّ، وأهْلُ التَّفْسِيرِ عَلى خِلافِهِ. وقِيلَ: السَّكَرُ: ما لا يُسْكِرُ مِنَ الأنْبِذَةِ، وقِيلَ: السَّكَرُ: النَّبِيذُ، وهو عَصِيرُ العِنَبِ والزَّبِيبِ والتَّمْرِ إذا طُبِخَ حَتّى يَذْهَبَ ثُلُثاهُ ثُمَّ يُتْرَكُ حَتّى يَشْتَدَّ، وهو حَلالٌ عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ إلى حَدِّ السُّكْرِ؛ انْتَهى. وإذا أُرِيدَ بِالسَّكَرِ الخَمْرُ فَقَدْ تَقَدَّمَ أنَّ ذَلِكَ مَنسُوخٌ، وإذا لَمْ نَقُلْ بِنَسْخٍ فَقِيلَ: جَمَعَ بَيْنَ العِتابِ والمِنَّةِ. يَعْنِي بِالعِتابِ عَلى اتِّخاذِ ما يَحْرُمُ، وبِالمِنَّةِ عَلى اتِّخاذِ ما يَحِلُّ، وهو الخَلُّ والرُّبُّ والزَّبِيبُ والتَّمْرُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يُجْعَلَ السَّكَرُ رِزْقًا حَسَنًا كَأنَّهُ قِيلَ: تَتَّخِذُونَ مِنهُ ما هو سَكَرٌ ورِزْقٌ حَسَنٌ؛ انْتَهى. فَيَكُونُ مِن عَطْفِ الصِّفاتِ، وظاهِرُ العَطْفِ المُغايَرَةُ. ولَمّا كانَ مُفْتَتَحُ الكَلامِ: ﴿وإنَّ لَكم في الأنْعامِ لَعِبْرَةً﴾، ناسَبَ الخَتْمَ بِقَوْلِهِ: يَعْقِلُونَ، لِأنَّهُ لا يَعْتَبِرُ إلّا ذَوُو العُقُولِ كَما قالَ: ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الألْبابِ﴾ [آل عمران: ١٣] .
وانْظُرْ إلى الإخْبارِ عَنْ نِعْمَةِ اللَّبَنِ ونِعْمَةِ السَّكَرِ والرِّزْقِ الحَسَنِ، لَمّا كانَ اللَّبَنُ لا يَحْتاجُ إلى مُعالَجَةٍ مِنَ النّاسِ، أخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ تَعالى بِقَوْلِهِ: نُسْقِيكم. ولَمّا كانَ السَّكَرُ والرِّزْقُ الحَسَنُ يَحْتاجُ إلى مُعالَجَةٍ قالَ: تَتَّخِذُونَ، فَأخْبَرَ عَنْهم بِاتِّخاذِهِمْ مِنهُ السَّكَرَ والرِّزْقَ، ولِأمْرٍ ما عَجَزَتِ العَرَبُ العَرْباءُ عَنْ مُعارَضَتِهِ. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى المِنَّةَ بِالمَشْرُوبِ اللَّبَنِ وغَيْرِهِ، أتَمَّ النِّعْمَةَ بِذِكْرِ العَسَلِ النَّحْلِ. ولَمّا كانَتِ المَشْرُوباتِ مِنَ اللَّبَنِ وغَيْرِهِ هو الغالِبَ في النّاسِ أكْثَرَ مِنَ العَسَلِ، قَدَّمَ اللَّبَنَ وغَيْرَهُ عَلَيْهِ، وقَدَّمَ اللَّبَنَ عَلى ما بَعْدَهُ لِأنَّهُ المُحْتاجُ إلَيْهِ كَثِيرًا وهو الدَّلِيلُ عَلى الفِطْرَةِ. ولِذَلِكَ اخْتارَهُ الرَّسُولُ ﷺ حِينَ أُسْرِيَ بِهِ، وعُرِضَ عَلَيْهِ اللَّبَنُ والخَمْرُ والعَسَلُ، وجاءَ تَرْتِيبُها في الجَنَّةِ لِهَذِهِ الآيَةِ قالَ تَعالى: ﴿وأنْهارٌ مِن لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وأنْهارٌ مِن خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشّارِبِينَ وأنْهارٌ مِن عَسَلٍ مُصَفًّى﴾ [محمد: ١٥] فَفي إخْراجِ اللَّبَنِ مِنَ النِّعَمِ، والسَّكَرِ والرِّزْقِ الحَسَنِ مِن ثَمَراتِ النَّخِيلِ والأعْنابِ، والعَسَلِ مِنَ النَّحْلِ، دَلائِلُ باهِرَةٌ عَلى الأُلُوهِيَّةِ والقُدْرَةِ والِاخْتِيارِ. والإيحاءُ هُنا الإلْهامُ والإلْقاءُ في رُوعِها، وتَعْلِيمُها عَلى وجْهٍ هو تَعالى أعْلَمُ بِكُنْهِهِ لا سَبِيلَ إلى الوُقُوفِ عَلَيْهِ. والنَّحْلُ: جِنْسٌ، واحِدُهُ نَحْلَةٌ، ويُؤَنَّثُ في لُغَةِ الحِجازِ، ولِذَلِكَ قالَ: ﴿أنِ اتَّخِذِي﴾ . وقَرَأ ابْنُ وثّابٍ: النَّحَلِ، بِفَتْحِ الحاءِ، و(أنْ) تَفْسِيرِيَّةٌ، لِأنَّهُ تَقَدَّمَ مَعْنى القَوْلِ وهو: وأوْحى. أوْ مَصْدَرِيَّةٌ، أيْ: بِاتِّخاذٍ، قالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: (أنْ) هي المُفَسِّرَةُ لِما في الوَحْيِ مِن مَعْنى القَوْلِ، هَذا قَوْلُ جُمْهُورِ المُفَسِّرِينَ وفِيهِ نَظَرٌ. لِأنَّ الوَحْيَ هُنا بِإجْماعٍ مِنهم هو الإلْهامُ، ولَيْسَ في الإلْهامِ مَعْنى القَوْلِ، وقالَ: قَرَّرَ تَعالى في أنْفُسِها الأعْمالَ العَجِيبَةَ الَّتِي يَعْجِزُ عَنْها لِلْعُقَلاءِ مِنَ البَشَرِ مِنها بِناؤُها البُيُوتَ المُسَدَّسَةَ مِن أضْلاعٍ مُتَساوِيَةٍ بِمُجَرَّدِ طِباعِها، ولا يَتِمُّ مِثْلُ ذَلِكَ لِلْعُقَلاءِ إلّا بِآلاتٍ كالمِسْطَرَةِ والبُرْكانِ، ولَمْ تَبْنِها بِأشْكالٍ غَيْرِ تِلْكَ، فَتَضِيقُ تِلْكَ البُيُوتُ عَنْها لِبَقاءِ فُرَجٍ لا تَسَعُها، ولَها أمِيرٌ أكْبَرُ جُثَّةً مِنها نافِذُ الحُكْمِ يَخْدِمُونَهُ، وإذا نَفَرَتْ (p-٥١٢)عَنْ وكْرِها إلى مَوْضِعٍ آخَرَ وأرادُوا عَوْدَها إلى وكْرِها ضَرَبُوا الطُّبُولَ وآلاتِ المُويْسِيقا، وبِوَساطَةِ تِلْكَ الألْحانِ تَعُودُ إلى وكْرِها، فَلَمّا امْتازَتْ بِهَذِهِ الخَواصِّ العَجِيبَةِ ولَيْسَ إلّا عَلى سَبِيلِ الإلْهامِ، وهي حالَةٌ تُشْبِهُ الوَحْيَ لِذَلِكَ قالَ: وأوْحى رَبُّكَ إلى النَّحْلِ؛ انْتَهى، مُلَخَّصًا. و(مِن) لِلتَّبْعِيضِ لِأنَّها لا تَبْنِي في كُلِّ جَبَلٍ، وكُلِّ شَجَرٍ، وكُلِّ ما يُعْرَشُ، ولا في كُلِّ مَكانٍ مِنها. والظّاهِرُ أنَّ البُيُوتَ هُنا عِبارَةٌ عَنِ الكُوى الَّتِي تَكُونُ في الجِبالِ، وفي مُتَجَوِّفِ الأشْجارِ. وإمّا مِن ما يَعْرِشُ ابْنُ آدَمَ فالخَلايا الَّتِي يَصْنَعُها لِلنَّحْلِ ابْنُ آدَمَ، والكُوى الَّتِي تَكُونُ في الحِيطانِ. ولَمّا كانَ النَّحْلُ نَوْعَيْنِ: مِنهُ ما مَقَرُّهُ في الجِبالِ والغِياضِ ولا يَتَعَهَّدُهُ أحَدٌ، ومِنهُ ما يَكُونُ في بُيُوتِ النّاسِ ويُتَعَهَّدُ في الخَلايا ونَحْوِها، شَمِلَ الأمْرَ بِاتِّخاذِ البُيُوتِ النَّوْعَيْنِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ما يَدُلُّ عَلى أنَّ البُيُوتَ لَيْسَتِ الكُوى، وإنَّما هي ما تَبْنِيهِ هي، فَقالَ: أُرِيدَ مَعْنى البَعْضِيَّةِ، يَعْنِي بِمِن، وأنْ لا يُبْنى بُيُوتُها في كُلِّ جَبَلٍ وكُلِّ شَجَرٍ وكُلِّ ما يُعْرَشُ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: ومِمّا يَعْرِشُونَ: الكُرُومُ. وقالَ الطَّبَرِيُّ: مِمّا يَبْنُونَ مِنَ السُّقُوفِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا مِنهُما تَفْسِيرٌ غَيْرُ مُتْقَنٍ؛ انْتَهى. وقَرَأ السُّلَمِيُّ، وعُبَيْدُ بْنُ نَضْلَةَ، وابْنُ عامِرٍ، وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ: بِضَمِّ الرّاءِ، وباقِي السَّبْعَةِ بِكَسْرِها، وتَقْتَضِي (ثُمَّ) المُهْلَةَ والتَّراخِيَ بَيْنَ الِاتِّخاذِ والأكْلِ الَّذِي تَدَّخِرُ مِنهُ العَسَلَ، فَلِذَلِكَ كانَ العَطْفُ بِثُمَّ وهو مَعْطُوفٌ عَلى (اتَّخِذِي)، وهو أمْرٌ مَعْطُوفٌ عَلى أمْرٍ، وسَيَأْتِي الكَلامُ عَلى أمْرٍ غَيْرِ المُكَلَّفِ في قَوْلِهِ: ﴿يا أيُّها النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ﴾ [النمل: ١٨] - إنْ شاءَ اللَّهُ - وكُلِّ الثَّمَراتِ عامٌّ مَخْصُوصٌ، أيِ: المُعْتادَةِ، لا كُلِّها. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أيِ: ابْنِي البُيُوتَ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ثَمَرَةٍ تَشْتَهِيها؛ انْتَهى. فَدَلَّ قَوْلُهُ: أيْ: ابْنِي البُيُوتَ، أنَّهُ لا يُرِيدُ بِقَوْلِهِ (بُيُوتًا): الكُوى الَّتِي في الجِبالِ ومُتَجَوِّفِ الأشْجارِ ولا الخَلايا، وإنَّما يُرادُ: البُيُوتُ المُسَدَّسَةُ الَّتِي تَبْنِيها هي. وظاهِرُ (مِن) في قَوْلِهِ: ﴿مِن كُلِّ الثَّمَراتِ﴾ أنَّها لِلتَّبْعِيضِ، فَتَأْكُلُ مِنَ الأشْجارِ الطَّيِّبَةِ والأوْراقِ العَطِرَةِ أشْياءَ يُوَلِّدُ اللَّهُ مِنها في أجْوافِها عَسَلًا. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إنَّما تَأْكُلُ النَّوّارَ مِنَ الأشْجارِ.
وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ ما مُلَخَّصُهُ: يُحْدِثُ اللَّهُ تَعالى في الهَواءِ ظِلًّا كَثِيرًا يَجْتَمِعُ مِنهُ أجْزاءٌ مَحْسُوسَةٌ مِثْلُ النَّرَنْجَبِينِ وهو مَحْسُوسٌ، وقَلِيلًا: لَطِيفُ الأجْزاءِ صَغِيرُها، وهو الَّذِي ألْهَمَ اللَّهُ تَعالى النَّحْلَ التِقاطَهُ مِنَ الأزْهارِ وأوْراقِ الأشْجارِ، وتَغْتَذِي بِها فَإذا شَبِعَتِ التَقَطَتْ بِأفْواهِها شَيْئًا مِن تِلْكَ الأجْزاءِ، ووَضَعَتْها في بُيُوتِها كَأنَّها تُحاوِلُ أنْ تَدَّخِرَ لِنَفْسِها غِذاءَها، فالمُجْتَمِعُ مِن ذَلِكَ هو العَسَلُ. وعَلى هَذا القَوْلِ تَكُونُ (مِن) لِابْتِداءِ الغايَةِ، لا لِلتَّبْعِيضِ؛ انْتَهى. وظاهِرُ العَطْفِ بِالفاءِ في (فاسْلُكِي) أنَّهُ بِعَقِيبِ الأكْلِ، أيْ: فَإذا أكَلْتِ فاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ،، أيْ طُرُقَ رَبِّكِ إلى بُيُوتِكِ راجِعَةً، والسُّبُلُ إذْ ذاكَ مَسالِكُها في الطَّيَرانِ. ورُبَّما أخَذَتْ مَكانَها فانْتَجَعَتِ المَكانَ البَعِيدَ، ثُمَّ عادَتْ إلى مَكانِها الأوَّلِ. وقِيلَ: ﴿سُبُلَ رَبِّكِ﴾، أيِ: الطُّرُقَ الَّتِي ألْهَمَكِ وأفْهَمَكِ في عَمَلِ العَسَلِ، أوْ فاسْلُكِي ما أكَلْتِ، أيْ: في سُبُلِ رَبِّكِ، أيْ: في مَسالِكِهِ الَّتِي يُحِيلُ فِيها بِقُدْرَتِهِ النَّوّارَ المُرَّ عَسَلًا مِن أجْوافِكِ ومَنافِذِ مَأْكَلِكِ. وعَلى هَذا القَوْلِ يَنْتَصِبُ ”سُبُلَ“ رَبِّكِ عَلى الظَّرْفِ، وعَلى ما قَبْلَهُ يَنْتَصِبُ عَلى المَفْعُولِ بِهِ. وقِيلَ: المُرادُ بِقَوْلِهِ ﴿ثُمَّ كُلِي﴾، ثُمَّ اقْصِدِي الأكْلَ مِنَ الثَّمَراتِ فاسْلُكِي في طَلَبِها سُبُلَ رَبِّكِ، وهَذا القَوْلُ والقَوْلُ الأوَّلُ أقْرَبُ في المَجازِ في سُبُلَ رَبِّكِ مِنَ القَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ بَيْنَهُما، إلّا أنَّ (كُلِي) بِمَعْنى اقْصِدِي الأكْلَ، مَجازٌ أضافَ السُّبُلَ إلى رَبِّ النَّحْلِ مِن حَيْثُ إنَّهُ تَعالى هو خالِقُها ومالِكُها والنّاظِرُ في تَهْيِئَةِ مَصالِحِها ومَعاشِها. وقالَ مُجاهِدٌ: ذُلُلًا: غَيْرَ مُتَوَعِّرَةٍ عَلَيْها سَبِيلٌ تَسْلُكُهُ، فَعَلى هَذا ذُلُلًا حالٌ مِن سَبِيلِ رَبِّكِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولًا﴾ [الملك: ١٥] وقالَ قَتادَةُ: أيْ: مُطِيعَةً مُنْقادَةً. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَخْرُجُونَ بِالنَّحْلِ: يَنْتَجِعُونَ وهي تَتْبَعُهم، فَعَلى هَذا ذُلُلًا: (p-٥١٣)حالٌ مِنَ النَّحْلِ كَقَوْلِهِ: ﴿وذَلَّلْناها لَهُمْ﴾ [يس: ٧٢] ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى عَلى جِهَةِ تَعْدِيدِ النِّعْمَةِ والتَّنْبِيهِ عَلى المِنَّةِ ثَمَرَةَ هَذا الِاتِّخاذِ والأكْلِ والسُّلُوكِ وهو قَوْلُهُ:﴿يَخْرُجُ مِن بُطُونِها شَرابٌ﴾، وهو العَسَلُ. وسَمّاهُ شَرابًا لِأنَّهُ مِمّا يُشْرَبُ، كَما ذَكَرَ ثَمَرَةَ الأنْعامِ وهي سَقْيُ اللَّبَنِ، وثَمَرَةَ النَّخِيلِ والأعْنابِ وهو اتِّخاذُ السَّكَرِ والرِّزْقِ الحَسَنِ. وذَكَرَ تَعالى المَقَرَّ الَّذِي يَخْرُجُ مِنهُ الشَّرابُ وهو بُطُونُها، وهو مَبْدَأُ الغايَةِ الأُولى، والجُمْهُورُ عَلى أنَّهُ يَخْرُجُ مِن أفْواهِها وهو مَبْدَأُ الغايَةِ الأخِيرَةِ، ولِذَلِكَ قالَ الحَرِيرِيُّ:
؎تَقُولُ هَذا مُجاجُ النَّحْلِ تَمْدَحُهُ ∗∗∗ وإنْ ذَمَمْتَ تَقُلْ قَيْءَ الزَّنابِيرِ
والمُجاجُ والقَيْءُ لا يَكُونانِ إلّا مِنَ الفَمِ. ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ - أنَّهُ قالَ في تَحْقِيرِ الدُّنْيا: أشْرَفُ لِباسِ ابْنِ آدَمَ فِيها لُعابُ دُودَةٍ، وأشْرَفَ شَرابِهِ رَجِيعُ نَحْلَةٍ. وعَنْهُ أيْضًا: أمّا العَسَلُ فَوَنِيمُ ذُبابٍ، فَظاهِرُ هَذا أنَّ العَسَلَ يَخْرُجُ مِن غَيْرِ الفَمِ، وقَدْ خَفِيَ مِن أيِّ المَخْرَجَيْنِ يَخْرُجُ، أمِنَ الفَمِ ؟ أمْ مِن أسْفَلُ ؟ وحُكِيَ أنَّ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ، والإسْكَنْدَرَ، وأرِسْطاطالِيسَ، صَنَعُوا لَها بُيُوتًا مِن زُجاجٍ لِيَنْظُرُوا إلى كَيْفِيَّةِ صُنْعِها، وهَلْ يَخْرُجُ العَسَلُ مِن فِيها أمْ مِن أسْفَلِها ؟ فَلَمْ تَضَعْ مِنَ العَسَلِ شَيْئًا حَتّى لَطَّخَتْ باطِنَ الزُّجاجِ بِالطِّينِ بِحَيْثُ يَمْنَعُ المُشاهَدَةَ. وقالَ الحَسَنُ: لُبابُ البُرِّ بِلُعابِ النَّحْلِ بِخالِصِ السَّمْنِ ما عابَهُ مُسْلِمٌ، فَجَعَلَهُ لُعابًا كالرِّيقِ الدّائِمِ الَّذِي يَخْرُجُ مِن فَمِ ابْنِ آدَمَ. وقِيلَ: ﴿مِن بُطُونِها﴾: مِن أفْواهِها، سَمّى الفَمَ بَطْنًا لِأنَّهُ في حُكْمِ البَطْنِ، ولِأنَّهُ مِمّا يَبْطَنُ ولا يَظْهَرُ. واخْتِلافُ ألْوانِهِ بِالبَياضِ والصُّفْرَةِ والحُمْرَةِ والسَّوادِ، وذَلِكَ لِاخْتِلافِ طِباعِ النَّحْلِ، واخْتِلافِ المَراعِي. وقَدْ يَخْتَلِفُ طَعْمُهُ لِاخْتِلافِ المَرْعى، كَما في الحَدِيثِ «جَرَسَتْ نَحْلُهُ العَرْفَطَ» وقِيلَ: الأبْيَضُ تُلْقِيهِ شَبابُ النَّحْلِ، والأصْفَرُ كُهُولُها، والأحْمَرُ شَبِيبُها. والظّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِيهِ إلى الشَّرابِ وهو العَسَلُ، لِأنَّهُ شِفاءٌ مِن جُمْلَةِ الأشْفِيَةِ والأدْوِيَةِ المَشْهُورَةِ النّافِعَةِ. وقَلَّ مَعْجُونٌ مِنَ المَعاجِينِ لَمْ يَذْكُرِ الأطِبّاءُ فِيهِ العَسَلَ، والعَسَلُ مَوْجُودٌ كَثِيرٌ في أكْثَرِ البُلْدانِ. وأمّا السَّكَرُ فَمُخْتَصٌّ بِهِ بَعْضُ البِلادِ وهو مُحْدَثٌ، ولَمْ يَكُنْ فِيما تَقَدَّمَ في أكْثَرِ البُلْدانِ. وأمّا السَّكَرُ فَمُخْتَصٌّ بِهِ بَعْضُ البِلادِ وهو مُحْدَثٌ، ولَمْ يَكُنْ فِيما تَقَدَّمَ مِنَ الأزْمانِ يُجْعَلُ في الأشْرِبَةِ والأدْوِيَةِ إلّا العَسَلَ، ولَيْسَ المُرادُ بِالنّاسِ هُنا العُمُومَ، لِأنَّ كَثِيرًا مِنَ الأمْراضِ لا يَدْخُلُ في دَوائِها العَسَلُ، وإنَّما المَعْنى لِلنّاسِ الَّذِي يُنْجَعُ العَسَلُ في أمْراضِهِمْ. ونَكَّرَ شِفاءً إمّا لِلتَّعْظِيمِ فَيَكُونُ المَعْنى فِيهِ شِفاءٌ، أيْ: شِفاءٌ، وإمّا لِدَلالَتِهِ عَلى مُطْلَقِ الشِّفاءِ، أيْ: فِيهِ بَعْضُ الشِّفاءِ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، والحَسَنِ، ومُجاهِدٍ، والضَّحّاكِ، والفَرّاءِ، وابْنِ كَيْسانَ: أنَّ الضَّمِيرَ في (فِيهِ) عائِدٌ عَلى القُرْآنِ، أيْ: في القُرْآنِ شِفاءٌ لِلنّاسِ. قالَ النَّحّاسُ: وهو قَوْلٌ حَسَنٌ، أيْ: فِيما قَصَصْنا عَلَيْكم مِنَ الآياتِ والبَراهِينِ شِفاءٌ لِلنّاسِ. قالَ القاضِي أبُو بَكْرِ بْنُ العَرَبِيِّ: أرى هَذا القَوْلَ لا يَصِحُّ نَقْلُهُ عَنْ هَؤُلاءِ، ولَوْ صَحَّ نَقْلًا لَمْ يَصِحَّ عَقْلًا فَإنَّ سِياقَ الكَلامِ كُلِّهِ لِلْعَسَلِ لَيْسَ لِلْقُرْآنِ فِيهِ ذِكْرٌ، ولَمّا كانَ أمْرُ النِّحَلِ عَجِيبًا في بِنائِها تِلْكَ البُيُوتَ المُسَدَّسَةَ، وفي أكْلِها مِن أنْواعِ الأزْهارِ والأوْراقِ الحامِضِ والمُرِّ والضّارِّ، وفي طَواعِيَتِها لِأمِيرِها ولِمَن يَمْلِكُها في النُّقْلَةِ مَعَهُ، وكَأنَّ النَّظَرُ في ذَلِكَ يَحْتاجُ إلى تَأمُّلٍ وزِيادَةِ تَدَبُّرٍ خَتَمَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ .
﴿واللَّهُ خَلَقَكم ثُمَّ يَتَوَفّاكم ومِنكم مَن يُرَدُّ إلى أرْذَلِ العُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ ﴿واللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكم عَلى بَعْضٍ في الرِّزْقِ فَما الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أيْمانُهم فَهم فِيهِ سَواءٌ أفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ ﴿واللَّهُ جَعَلَ لَكم مِن أنْفُسِكم أزْواجًا وجَعَلَ لَكم مِن أزْواجِكم بَنِينَ وحَفَدَةً ورَزَقَكم مِنَ الطَّيِّباتِ أفَبِالباطِلِ يُؤْمِنُونَ وبِنِعْمَةِ اللَّهِ هم يَكْفُرُونَ﴾ ﴿ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهم رِزْقًا مِنَ السَّماواتِ والأرْضِ شَيْئًا ولا يَسْتَطِيعُونَ﴾ ﴿فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثالَ إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وأنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ (p-٥١٤)لَمّا ذَكَرَ تَعالى تِلْكَ الآياتِ الَّتِي في الأنْعامِ والثَّمَراتِ والنَّحْلِ، ذَكَرَ ما نَبَّهَنا بِهِ عَلى قُدْرَتِهِ التّامَّةِ في إنْشائِنا مِنَ العَدَمِ وإماتَتِنا، وتَنَقُّلِنا في حالِ الحَياةِ مِن حالَةِ الجَهْلِ إلى حالَةِ العِلْمِ، وذَلِكَ كُلُّهُ دَلِيلٌ عَلى القُدْرَةِ التّامَّةِ والعِلْمِ الواسِعِ، ولِذَلِكَ خَتَمَ بِقَوْلِهِ: ﴿عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ .
﴿وأرْذَلُ العُمُرِ﴾: آخِرُهُ الَّذِي تَفْسُدُ فِيهِ الحَواسُّ، ويَخْتَلُّ النُّطْقُ والفِكْرُ. وخَصَّ بِالرَّذِيلَةِ لِأنَّها حالَةٌ لا رَجاءَ بَعْدَها لِإصْلاحِ ما فَسَدَ، بِخِلافِ حالِ الطُّفُولَةِ فَإنَّها حالَةٌ تَتَقَدَّمُ فِيها إلى القُوَّةِ وإدْراكِ الأشْياءِ ولا يَتَقَيَّدُ أرْذَلُ العُمُرِ بِسِنٍّ مَخْصُوصٍ، كَما رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ: أنَّهُ خَمْسٌ وسَبْعُونَ سَنَةً. وعَنْ قَتادَةَ: أنَّهُ تِسْعُونَ، وإنَّما ذَلِكَ بِحَسْبِ إنْسانٍ إنْسانٍ فَرُبَّ ابْنِ خَمْسِينَ؛ انْتَهى، إلى أرْذَلِ العُمُرِ، ورُبَّ ابْنِ مِائَةٍ لَمْ يُرَدَّ إلَيْهِ. والظّاهِرُ أنَّ مَن يُرَدُّ إلى أرْذَلِ العُمُرِ عامٌّ، فِيمَن يَلْحَقُهُ الخَرَفُ والهَرَمُ. وقِيلَ: هَذا في الكافِرِ، لِأنَّ المُسْلِمَ لا يَزْدادُ بِطُولِ عُمُرِهِ إلّا كَرامَةً عَلى اللَّهِ، ولِذَلِكَ قالَ تَعالى: ﴿ثُمَّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ﴾ [التين: ٥] ﴿إلّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ [التين: ٦]، أيْ: لَمْ يُرَدُّوا إلى أسْفَلَ سافِلِينَ. وقالَ قَتادَةُ: مَن قَرَأ القُرْآنَ لَمْ يُرَدَّ إلى أرْذَلِ العُمُرِ.
واللّامُ في (لِكَيْ) قالَ الحَوْفِيُّ: هي لامُ كَيْ دَخَلَتْ عَلى (كَيْ) لِلتَّوْكِيدِ، وهي مُتَعَلِّقَةٌ بِيُرَدُّ؛ انْتَهى. والَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ مُحَقِّقُو النُّحاةِ في مِثْلِ (لِكَيْ) أنَّ كَيْ حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ إذا دَخَلَتْ عَلَيْها اللّامُ، وهي النّاصِبَةُ كَأنْ، واللّامُ جارَّةٌ، فَيَنْسَبِكُ مِن كَيْ والمُضارِعُ بَعْدَها مَصْدَرٌ مَجْرُورٌ بِاللّامِ تَقْدِيرًا، فاللّامُ عَلى هَذا لَمْ تَدْخُلْ عَلى (كَيْ) لِلتَّوْكِيدِ لِاخْتِلافِ مَعْناهُما واخْتِلافِ عَمَلِهِما، لِأنَّ اللّامَ مُشْعِرَةٌ بِالتَّعْلِيلِ، وكَيْ: حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ، واللّامُ جارَّةٌ، وكَيْ: ناصِبَةٌ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُشْبِهُ أنْ تَكُونَ لامَ صَيْرُورَةٍ والمَعْنى: لِيَصِيرَ أمْرُهُ بَعْدَ العِلْمِ بِالأشْياءِ إلى أنْ لا يَعْلَمَ شَيْئًا. وهَذِهِ عِبارَةٌ عَنْ قِلَّةِ عِلْمِهِ، لا أنَّهُ لا يَعْلَمُ شَيْئًا البَتَّةَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِيَصِيرَ إلى حالَةٍ شَبِيهَةٍ بِحالِهِ في النِّسْيانِ، وأنْ يَعْلَمَ شَيْئًا ثُمَّ يُسْرِعُ في نِسْيانِهِ فَلا يَعْلَمُهُ إنْ سُئِلَ عَنْهُ. وقِيلَ: لِئَلّا يَعْقِلَ مِن بَعْدِ عَقْلِهِ الأوَّلِ شَيْئًا. وقِيلَ: لِئَلّا يَعْلَمَ زِيادَةَ عِلْمٍ عَلى عِلْمِهِ؛ انْتَهى. وانْتَصَبَ (شَيْئًا) إمّا بِالمَصْدَرِ عَلى مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ في اخْتِيارِ أعْمالِهِ ما يَلِي لِلْقُرْبِ، أوْ بِـ (يَعْلَمَ) عَلى مَذْهَبِ الكُوفِيِّينَ في اخْتِيارِ أعْمالِ ما سَبَقَ لِلسَّبْقِ.
ولَمّا ذَكَرَ ما يَعْرِضُ في الهَرَمِ مِن ضَعْفِ القُوى والقُدْرَةِ وانْتِفاءِ العِلْمِ، ذَكَرَ عِلْمَهُ وقُدْرَتَهُ اللَّذَيْنِ لا يَتَبَدَّلانِ ولا يَتَغَيَّرانِ ولا يَدْخُلُهُما الحَوادِثُ، ووَلِيَتْ صِفَةُ العِلْمِ ما جاوَرَها مِنِ انْتِفاءِ العِلْمِ، وتَقَدَّمَ أيْضًا ذِكْرُ مُناسَبَةٍ لِلْخَتْمِ بِهَذَيْنِ الوَصْفَيْنِ. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى خَلْقَنا، ثُمَّ إماتَتَنا وتَفاوُتَنا في السِّنِّ، ذَكَرَ تَفاوُتَنا في الرِّزْقِ، وأنَّ رِزْقَنا أفْضَلُ مِن رِزْقِ المَمالِيكِ وهم بَشَرٌ مِثْلُنا، ورُبَّما كانَ المَمْلُوكُ خَيْرًا مِنَ المَوْلى في العَقْلِ والدِّينِ والتَّصَرُّفِ، وأنَّ الفاضِلَ في الرِّزْقِ لا يُساهِمُ مَمْلُوكَهُ فِيما رُزِقَ فَيُساوِيهِ، وكانَ يَنْبَغِي أنْ يَرُدَّ فَضْلَ ما رُزِقَ عَلَيْهِ ويُساوِيهِ في المَطْعَمِ والمَلْبَسِ، كَما يُحْكى عَنْ أبِي ذَرٍّ أنَّهُ رِيءَ عَبْدُهُ وإزارُهُ ورِداؤُهُ مِثْلُ رِدائِهِ مِن غَيْرِ تَفاوُتٍ، عَمَلًا بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: «إنَّما هم إخْوانُكم فاكْسُوهم مِمّا تَلْبَسُونَ وأطْعِمُوهم مِمّا تَطْعَمُونَ» وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وقَتادَةَ: أنَّ الإخْبارَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَما الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرادِّي رِزْقِهِمْ﴾ عَلى سَبِيلِ المَثَلِ، أيْ: أنَّ المُفَضَّلَيْنِ في الرِّزْقِ لا يَصِحُّ مِنهم أنْ يُساهِمُوا مَمالِيكَهم فِيما أُعْطُوا حَتّى تَسْتَوِيَ أحْوالُهم، فَإذا كانَ هَذا في البَشَرِ فَكَيْفَ تَنْسُبُونَ أنْتُمْ أيُّها الكَفَرَةُ إلى اللَّهِ تَعالى أنَّهُ يُشْرِكُ في أُلُوهِيَّتِهِ الأوْثانَ والأصْنامَ، ومَن عُبِدَ مِنَ المَلائِكَةِ وغَيْرِهِمْ والجَمِيعُ عَبِيدُهُ وخَلْقُهُ ؟ وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّ الآيَةَ مُشِيرَةٌ إلى عِيسى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ وعَلى نَبِيِّنا أفْضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ. وقالَ المُفَسِّرُونَ: هَذِهِ الآيَةُ كَقَوْلِهِ: ﴿ضَرَبَ لَكم مَثَلًا مِن أنْفُسِكُمْ﴾ [الروم: ٢٨] (p-٥١٥)الآيَةَ. وقِيلَ: المَعْنى أنَّ المَوالِيَ والمَمالِيكَ أنا رازِقُهم جَمِيعًا، فَهم في رِزْقِي سَواءٌ، فَلا تَحْسَبَنَّ المَوالِيَ أنَّهم يَرُدُّونَ عَلى مَمالِيكِهِمْ مِن عِنْدِهِمْ شَيْئًا مِنَ الرِّزْقِ، فَإنَّما ذَلِكَ أُجْرِيهِ إلَيْهِمْ عَلى أيْدِيهِمْ. وعَلى هَذا القَوْلِ يَكُونُ فَهم فِيهِ سَواءٌ جُمْلَةَ إخْبارٍ عَنْ تَساوِي الجَمِيعِ في أنَّ اللَّهَ تَعالى هو رازِقُهم، وعَلى القَوْلَيْنِ الآخَرَيْنِ تَكُونُ الجُمْلَةُ في مَوْضِعِ جَوابِ النَّفْيِ كَأنَّهُ قِيلَ: فَيَسْتَوُوا. وقِيلَ: هي جُمْلَةٌ اسْتِفْهامِيَّةٌ حُذِفَ مِنها الهَمْزَةُ؛ التَّقْدِيرُ: أفَهم فِيهِ سَواءٌ ؟ أيْ: لَيْسُوا مُسْتَوِينَ في الرِّزْقِ، بَلِ التَّفْضِيلُ واقِعٌ لا مَحالَةَ. ثُمَّ اسْتَفْهَمَ عَنْ جُحُودِهِمْ نِعْمَهُ اسْتِفْهامَ إنْكارٍ، وأتى بِالنِّعْمَةِ الشّامِلَةِ لِلرِّزْقِ وغَيْرِهِ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لا تُحْصى، أيْ: إنَّ مَن تَفَضَّلَ عَلَيْكم بِالنَّشْأةِ أوَّلًا ثُمَّ مِمّا فِيهِ قِوامُ حَياتِكم جَدِيرٌ بِأنْ تُشْكَرَ نِعَمُهُ ولا تُكْفَرَ.
وقَرَأ أبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ، وأبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، والأعْرَجُ بِخِلافِ عَنْهُ: تَجْحَدُونَ، بِالتّاءِ، عَلى الخِطابِ لِقَوْلِهِ: فَضَّلَ، تَبْكِيتًا لَهم في جَحْدِ نِعْمَةِ اللَّهِ. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى امْتِنانَهُ بِالإيجادِ ثُمَّ بِالرِّزْقِ المُفَضَّلِ فِيهِ، ذَكَرَ امْتِنانَهُ بِما يَقُومُ بِمَصالِحِ الإنْسانِ مِمّا يَأْنَسُ بِهِ ويَسْتَنْصِرُ بِهِ ويَخْدِمُهُ، واحْتَمَلَ ﴿مِن أنْفُسِكُمْ﴾ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن جِنْسِكم ونَوْعِكم، واحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِاعْتِبارِ خَلْقِ حَوّاءَ مِن ضِلَعٍ مِن أضْلاعِ آدَمَ، فَنُسِبَ ذَلِكَ إلى بَنِي آدَمَ، وكِلا الِاحْتِمالَيْنِ مُجازٌ. والظّاهِرُ أنَّ عَطْفَ حَفَدَةً عَلى بَنِينَ يُفِيدُ كَوْنَ الجَمِيعِ مِنَ الأزْواجِ، وأنَّهم غَيْرُ البَنِينَ. فَقالَ الحَسَنُ: هم بَنُو ابْنِكَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ والأزْهَرِيُّ: الحَفَدَةُ أوْلادُ الأوْلادِ، واخْتارَهُ ابْنُ العَرَبِيِّ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا: البَنُونَ: صِغارُ الأوْلادِ، والحَفَدَةُ: كِبارُهم. وقالَ مُقاتِلٌ: بِعَكْسِهِ، وقِيلَ: البَناتُ لِأنَّهُنَّ يَخْدِمْنَ في البُيُوتِ أتَمَّ خِدْمَةٍ. فَفي هَذا القَوْلِ خَصَّ البَنِينَ بِالذُّكْرانِ لِأنَّهُ جَمْعٌ مُذَكَّرٌ كَما قالَ: ﴿المالُ والبَنُونَ زِينَةُ الحَياةِ الدُّنْيا﴾ [الكهف: ٤٦] وإنَّما الزِّينَةُ في الذُّكُورَةِ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: هم أوْلادُ الزَّوْجَةِ - مِن غَيْرِ الزَّوْجِ - الَّتِي هي في عِصْمَتِهِ. وقِيلَ: (وحَفَدَةً) مَنصُوبٌ بِجَعَلَ مُضْمَرَةً، ولَيْسُوا داخِلِينَ في كَوْنِهِمْ مِنَ الأزْواجِ. فَقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وعَلْقَمَةُ، وأبُو الضُّحى، وإبْراهِيمُ بْنُ جُبَيْرٍ: الأصْهارُ: وهم قَرابَةُ الزَّوْجَةِ كَأبِيها وأخِيها. وقالَ مُجاهِدٌ: هُمُ الأنْصارُ والأعْوانُ والخَدَمُ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: الحَفَدَةُ هُمُ البَنُونَ، أيْ: جامِعُونَ بَيْنَ البُنُوَّةِ والخِدْمَةِ، فَهو مِن عَطْفِ الصِّفاتِ لِمَوْصُوفٍ واحِدٍ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ ما مَعْناهُ: وهَذِهِ الأقْوالُ مَبْنِيَّةٌ عَلى أنَّ كُلَّ أحَدٍ جَعَلَ لَهُ مِن زَوْجِهِ بَنِينَ وحَفَدَةً، وهَذا إنَّما هو في الغالِبِ ومُعْظَمِ النّاسِ. ويُحْتَمَلُ عِنْدِي أنَّ قَوْلَهُ مِن أزْواجِكم، إنَّما هو عَلى العُمُومِ والِاشْتِراكِ، أيْ: مِن أزْواجِ البَشَرِ جَعَلَ اللَّهُ مِنهُمُ البَنِينَ، ومِنهم جَعَلَ الخِدْمَةَ، وهَكَذا رَتَّبَتِ الآيَةُ النِّعْمَةَ الَّتِي تَشْمَلُ العالَمَ. ويَسْتَقِيمُ لَفْظُ الحَفَدَةِ عَلى مَجْراها في اللُّغَةِ، إذِ البَشَرُ بِجُمْلَتِهِمْ لا يَسْتَغْنِي أحَدٌ مِنهم عَنْ حَفَدَةٍ؛ انْتَهى. وفي قَوْلِهِ: ﴿مِن أنْفُسِكم أزْواجًا﴾ دَلالَةٌ عَلى كَذِبِ العَرَبِ في اعْتِقادِها أنَّ الآدَمِيَّ قَدْ يَتَزَوَّجُ مِنَ الجِنِّ ويُباضِعُها، حَتّى حَكَوْا ذَلِكَ عَنْ عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ أنَّةَ تَزَوَّجَ سِعْلاةً.
و(مِن) في (الطَّيِّباتِ) لِلتَّبْعِيضِ، لِأنَّ كُلَّ الطَّيِّباتِ في الجَنَّةِ، والَّذِي في الدُّنْيا أُنْمُوذَجٌ مِنها. والظّاهِرُ أنَّ الطَّيِّباتِ هُنا: المُسْتَلَذّاتُ لا الحَلالُ، لِأنَّ المُخاطَبِينَ كُفّارٌ لا يَتَلَبَّسُونَ بِشَرْعٍ. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى ما امْتَنَّ بِهِ مِن جَعْلِ الأزْواجِ وما نَنْتَفِعُ بِهِ مِن جِهَتَيْنِ، ذَكَرَ مِنَنَهُ بِالرِّزْقِ. والطَّيِّباتِ: عامٌّ في النَّباتِ والثِّمارِ والحُبُوبِ والأشْرِبَةِ، ومِنَ الحَيَوانِ. وقِيلَ: الطَّيِّباتُ: الغَنائِمُ. وقِيلَ: ما أتى مِن غَيْرِ نَصَبٍ. وقالَ مُقاتِلٌ: الباطِلُ الشَّيْطانُ، ونِعْمَةُ اللَّهِ مُحَمَّدٌ ﷺ وقالَ الكَلْبِيُّ: طاعَةُ الشَّيْطانِ في الحَلالِ والحَرامِ. وقِيلَ: ما يُرْجى مِن شَفاعَةِ الأصْنامِ وبَرَكَتِها. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أفَبِالباطِلِ يُؤْمِنُونَ وهو ما يَعْتَقِدُونَ مِن مَنفَعَةِ الأصْنامِ وبَرَكَتِها وشَفاعَتِها، وما هو إلّا وهْمٌ باطِلٌ لَمْ يَتَوَصَّلُوا إلَيْهِ بِدَلِيلٍ ولا أمارَةٍ، فَلَيْسَ لَهم إيمانٌ إلّا بِهِ. كَأنَّهُ شَيْءٌ مَعْلُومٌ مُسْتَيْقَنٌ. ونِعْمَةُ اللَّهِ المُشاهَدَةُ المُعايَنَةُ الَّتِي لا شُبْهَةَ فِيها لِذِي (p-٥١٦)عَقْلٍ، وتَمْيِيزٍ هم كافِرُونَ بِها مُنْكِرُونَ لَها كَما يُنْكَرُ المُحالَ الَّذِي لا تَتَصَوَّرُهُ العُقُولُ. وقِيلَ: الباطِلُ ما يُسَوِّلُ لَهُمُ الشَّيْطانُ مِن تَحْرِيمِ البَحِيرَةِ والسّائِبَةِ وغَيْرِهِما، ونِعْمَةُ اللَّهِ ما أحَلَّ لَهم؛ انْتَهى. وقَرَأ الجُمْهُورُ: يُؤْمِنُونَ، بِالياءِ، وهو تَوْقِيفٌ لِلرَّسُولِ ﷺ عَلى إيمانِهِمْ بِالباطِلِ، ويَنْدَرِجُ في التَّوْقِيفِ المَعْطُوفِ بَعْدَها. وقَرَأ السُّلَمِيُّ، بِالتّاءِ، ورُوِيَتْ عَنْ عاصِمٍ، وهو خِطابُ إنْكارٍ وتَقْرِيعٍ لَهم، والجُمْلَةُ بَعْدَ ذَلِكَ مُجَرَّدُ إخْبارٍ عَنْهم. فالظّاهِرُ أنَّهُ لا يَنْدَرِجُ في التَّقْرِيعِ. ويَعْبُدُونَ: اسْتِفْهامُ إخْبارٍ عَنْ حالِهِمْ في عِبادَةِ الأصْنامِ، وفي ذَلِكَ تَبْيِينٌ لِقَوْلِهِ: ﴿أفَبِالباطِلِ يُؤْمِنُونَ﴾، نَعى عَلَيْهِمْ فَسادَ نَظَرِهِمْ في عِبادَةِ ما لا يُمْكِنُ أنْ يَقَعَ مِنهُ ما يَسْعى عابِدُهُ في تَحْصِيلِهِ مِنهُ وهو الرِّزْقُ، ولا هو في اسْتِطاعَتِهِ. فَنَفى أوَّلًا أنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنَ الرِّزْقِ في مِلْكِهِمْ، ونَفى ثانِيًا قُدْرَتَها عَلى أنْ تُحاوِلَ ذَلِكَ، وما لا تَمْلِكُ، عامٌّ في جَمِيعِ مَن عُبِدَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن مَلَكٍ أوْ آدَمِيٍّ أوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وأجازُوا في شَيْئًا انْتِصابَهُ، بِقَوْلِهِ: رِزْقًا، أجازَ ذَلِكَ أبُو عَلِيٍّ وغَيْرُهُ. ورَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ الطَّراوَةِ بِأنَّ الرِّزْقَ هو المَرْزُوقُ كالرَّعْيِ والطَّحْنِ، والمَصْدَرُ هو الرَّزْقُ، بِفَتْحِ الرّاءِ، كالرَّعْيِ والطَّحْنِ. ورُدَّ عَلى ابْنِ الطَّراوَةِ بِأنَّ الرِّزْقَ بِالكَسْرِ يَكُونُ أيْضًا مَصْدَرًا، وسُمِعَ ذَلِكَ فِيهِ، فَصَحَّ أنْ يَعْمَلَ في المَفْعُولِ بِهِ والمَعْنى: ما لا يَمْلِكُ أنْ يَرْزُقَ مِنَ السَّماواتِ والأرْضِ شَيْئًا. ومِن السَّماواتِ مُتَعَلِّقٌ إذْ ذاكَ بِالمَصْدَرِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ بَعْدَ أنْ ذَكَرَ إعْمالَ المَصْدَرِ مُنَوَّنًا: والمَصْدَرُ يَعْمَلُ مُضافًا بِاتِّفاقٍ، لِأنَّهُ في تَقْدِيرِ الِانْفِصالِ، ولا يَعْمَلُ إذا دَخَلَهُ الألِفُ واللّامُ لِأنَّهُ قَدْ تَوَغَّلَ في حالِ الأسْماءِ وبَعُدَ عَنِ الفِعْلِيَّةِ. وتَقْدِيرُ الِانْفِصالِ في الإضافَةِ حَسُنَ عَمَلُهُ، وقَدْ جاءَ عامِلًا مَعَ الألِفِ واللّامِ في قَوْلِ الشّاعِرِ:
؎ضَعِيفُ النِّكايَةِ أعْداءَهُ
البَيْتَ؛ وقَوْلِهِ:
؎لَحِقْتُ فَلَمْ أنْكُلْ عَنِ الضَّرْبِ مَسْمَعًا
؛ انْتَهى. أمّا قَوْلُهُ: يَعْمَلُ، مُضافًَا بِالِاتِّفاقِ إنْ عَنى مِنَ البَصْرِيِّينَ فَصَحِيحٌ، وإنْ عَنى مِنَ النَّحْوِيِّينَ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأنَّ بَعْضَ النَّحْوِيِّينَ ذَهَبَ إلى أنَّهُ وإنْ أُضِيفَ لا يَعْمَلُ، وإنْ نَصَبَ ما بَعْدَهُ أوْ رَفَعَهُ إنَّما هو عَلى إضْمارِ الفِعْلِ المَدْلُولِ عَلَيْهِ بِالمَصْدَرِ. وأمّا قَوْلُهُ: لِأنَّهُ في تَقْدِيرِ الِانْفِصالِ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأنَّهُ لَوْ كانَ في تَقْدِيرِ الِانْفِصالِ لَكانَتِ الإضافَةُ غَيْرَ مَحْضَةٍ، وقَدْ قالَ بِذَلِكَ أبُو القاسِمِ بْنُ بُرْهانٍ، وأبُو الحُسَيْنِ بْنُ الطَّراوَةِ، ومَذْهَبُهُما فاسِدٌ لِنَعْتِ هَذا المَصْدَرِ المُضافِ، وتَوْكِيدِهِ بِالمَعْرِفَةِ. وأمّا قَوْلُهُ: (ولا يَعْمَلُ) إلى آخِرِهِ، فَقَدْ ناقَضَ في قَوْلِهِ أخِيرًا: وقَدْ جاءَ عامِلًا مَعَ الألِفِ واللّامِ. وأمّا كَوْنُهُ لا يَعْمَلُ مَعَ الألِفِ واللّامِ فَهو مَذْهَبٌ (p-٥١٧)مَنقُولٌ عَنِ الكُوفِيِّينَ، ومَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ جَوازُ إعْمالِهِ. قالَ سِيبَوَيْهِ: وتَقُولُ عَجِبْتُ مِنَ الضَّرْبِ زَيْدًا، كَما تَقُولُ: عَجِبْتُ مِنَ الضّارِبِ زَيْدًا، تَكُونُ الألِفُ واللّامُ بِمَنزِلَةِ التَّنْوِينِ. وإذا كانَ رِزْقًا يُرادُ بِهِ المَرْزُوقُ، فَقالُوا: انْتَصَبَ شَيْئًا عَلى أنَّهُ بَدَلٌ مِن (رِزْقًا)، كَأنَّهُ قِيلَ: ما لا يَمْلِكُ لَهم مِنَ السَّماواتِ والأرْضِ شَيْئًا، وهو البَدَلُ جارِيًا عَلى جِهَةِ البَيانِ لِأنَّهُ أعَمُّ مِن رِزْقٍ، ولا عَلى جِهَةِ التَّوْكِيدِ لِأنَّهُ لِعُمُومِهِ لَيْسَ مُرادِفًا، فَيَنْبَغِي أنْ لا يَجُوزَ، إذْ لا يَخْلُوَ البَدَلُ مِن أحَدِ نَوْعَيْهِ هَذَيْنِ. إمّا البَيانُ، وإمّا التَّوْكِيدُ. وأجازُوا أيْضًا أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، أيْ: شَيْئًا مِنَ المِلْكِ، كَقَوْلِهِ: ﴿ولا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا﴾ [هود: ٥٧]، أيْ: شَيْئًا مِنَ الضَّرَرِ. وعَلى هَذَيْنِ الإعْرابَيْنِ تَتَعَلَّقُ ﴿مِنَ السَّماواتِ﴾ بِقَوْلِهِ: ﴿لا يَمْلِكُ﴾، أوْ يَكُونُ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ (لِرِزْقٍ) فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ (ومِنَ السَّماواتِ رِزْقًا)، يَعْنِي بِهِ: المَطَرَ، وأُطْلِقَ عَلَيْهِ رِزْقٌ لِأنَّهُ عَنْهُ يَنْشَأُ الرِّزْقُ. والأرْضُ، يَعْنِي: الشَّجَرَ، والثَّمَرَ، والزَّرْعَ. والظّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ في (يَسْتَطِيعُونَ) عَلى ما عَلى مَعْناها، لِأنَّهُ يُرادُ بِها آلِهَتُهم، بَعْدَما عادَ عَلى اللَّفْظِ في قَوْلِهِ: ما لا يَمْلِكُ، فَأفْرَدَ وجازَ أنْ يَكُونَ داخِلًا في صِلَةِ ما، وجازَ أنْ لا يَكُونَ داخِلًا، بَلْ إخْبارٌ عَنْهم بِانْتِفاء الِاسْتِطاعَةِ أصْلًا، لِأنَّهم أمْواتٌ. وأمّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: إنَّهُ يُرادُ بِالجَمْعِ بَيْنَ نَفْيِ المِلْكِ والِاسْتِطاعَةِ التَّوْكِيدِ فَلَيْسَ كَما ذُكِرَ، لِأنَّ نَفْيَ المِلْكَ مُغايِرٌ لِنَفْيِ الِاسْتِطاعَةِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ولا يَسْتَطِيعُونَ أنْ يَرْزُقُوا أنْفُسَهم. وجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ وابْنُ عَطِيَّةَ: أنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلى ما عادَ عَلَيْهِ في قَوْلِهِ: ويَعْبُدُونَ، وهُمُ الكُفّارُ؛ أيْ: ولا يَسْتَطِيعُ هَؤُلاءِ مَعَ أنَّهم أحْياءٌ مُتَصَرِّفُونَ أُولُو ألْبابٍ مِن ذَلِكَ شَيْئًا، فَكَيْفَ بِالجَمادِ الَّذِي لا حِسَّ بِهِ؛ قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لا يَسْتَطِيعُونَ ذَلِكَ بِبُرْهانٍ يُظْهِرُونَهُ وحُجَّةٍ يُثْبِتُونَها؛ انْتَهى. ونَهى تَعالى عَنْ ضَرْبِ الأمْثالِ لِلَّهِ، وضَرْبِ الأمْثالِ تَمْثِيلُها، والمَعْنى هُنا: تَمْثِيلٌ لِلْإشْراكِ بِاللَّهِ والتَّشْبِيهِ بِهِ، لِأنَّ مَن يَضْرِبُ الأمْثالَ مُشَبِّهٌ حالًا بِحالٍ. وقِصَّةً بِقِصَّةٍ مِن قَوْلِهِمْ: هَذا ضَرْبٌ لِهَذا؛ أيْ: مَثَلٌ، والضَّرْبُ: النَّوْعُ. تَقُولُ: الحَيَوانُ عَلى ضُرُوبٍ؛ أيْ: أنْواعٍ، وهَذا مِن ضَرْبٍ واحِدٍ؛ أيْ: مِن نَوْعٍ واحِدٍ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: مَعْناهُ لا تُشَبِّهُوهُ بِخَلْقِهِ؛ انْتَهى. وقالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ﴾: أثْبَتَ العِلْمَ لِنَفْسِهِ، والمَعْنى: أنَّهُ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ مِن عِبادَةِ غَيْرِهِ والإشْراكِ بِهِ، وعَبَّرَ عَنِ الجَزاءِ بِالعِلْمِ: وأنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ كُنْهَ ما أقْدَمْتُمْ عَلَيْهِ، ولا وبالَ عاقِبَتِهِ، فَعَدَمُ عِلْمِكم بِذَلِكَ جَرَّكم وجَرَّأكم وهو كالتَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ عَنِ الإشْراكِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يُرادَ أنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ كَيْفَ نَضْرِبُ الأمْثالَ وأنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ؛ انْتَهى. وقالَهُ ابْنُ السّائِبِ قالَ: يَعْلَمُ بِضَرْبِ المَثَلِ، وأنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذَلِكَ. وقالَ مُقاتِلٌ: يَعْلَمُ أنَّهُ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ، وأنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذَلِكَ. وقِيلَ: يَعْلَمُ خَطَأ ما تَضْرِبُونَ مِنَ الأمْثالِ، وأنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ صَوابَ ذَلِكَ مِن خَطَئِهِ.
{"ayahs_start":66,"ayahs":["وَإِنَّ لَكُمۡ فِی ٱلۡأَنۡعَـٰمِ لَعِبۡرَةࣰۖ نُّسۡقِیكُم مِّمَّا فِی بُطُونِهِۦ مِنۢ بَیۡنِ فَرۡثࣲ وَدَمࣲ لَّبَنًا خَالِصࣰا سَاۤىِٕغࣰا لِّلشَّـٰرِبِینَ","وَمِن ثَمَرَ ٰتِ ٱلنَّخِیلِ وَٱلۡأَعۡنَـٰبِ تَتَّخِذُونَ مِنۡهُ سَكَرࣰا وَرِزۡقًا حَسَنًاۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَةࣰ لِّقَوۡمࣲ یَعۡقِلُونَ","وَأَوۡحَىٰ رَبُّكَ إِلَى ٱلنَّحۡلِ أَنِ ٱتَّخِذِی مِنَ ٱلۡجِبَالِ بُیُوتࣰا وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا یَعۡرِشُونَ","ثُمَّ كُلِی مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَ ٰتِ فَٱسۡلُكِی سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلࣰاۚ یَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابࣱ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَ ٰنُهُۥ فِیهِ شِفَاۤءࣱ لِّلنَّاسِۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَةࣰ لِّقَوۡمࣲ یَتَفَكَّرُونَ","وَٱللَّهُ خَلَقَكُمۡ ثُمَّ یَتَوَفَّىٰكُمۡۚ وَمِنكُم مَّن یُرَدُّ إِلَىٰۤ أَرۡذَلِ ٱلۡعُمُرِ لِكَیۡ لَا یَعۡلَمَ بَعۡدَ عِلۡمࣲ شَیۡـًٔاۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمࣱ قَدِیرࣱ","وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضࣲ فِی ٱلرِّزۡقِۚ فَمَا ٱلَّذِینَ فُضِّلُوا۟ بِرَاۤدِّی رِزۡقِهِمۡ عَلَىٰ مَا مَلَكَتۡ أَیۡمَـٰنُهُمۡ فَهُمۡ فِیهِ سَوَاۤءٌۚ أَفَبِنِعۡمَةِ ٱللَّهِ یَجۡحَدُونَ","وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَ ٰجࣰا وَجَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَزۡوَ ٰجِكُم بَنِینَ وَحَفَدَةࣰ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّیِّبَـٰتِۚ أَفَبِٱلۡبَـٰطِلِ یُؤۡمِنُونَ وَبِنِعۡمَتِ ٱللَّهِ هُمۡ یَكۡفُرُونَ","وَیَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا یَمۡلِكُ لَهُمۡ رِزۡقࣰا مِّنَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ شَیۡـࣰٔا وَلَا یَسۡتَطِیعُونَ","فَلَا تَضۡرِبُوا۟ لِلَّهِ ٱلۡأَمۡثَالَۚ إِنَّ ٱللَّهَ یَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ"],"ayah":"وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضࣲ فِی ٱلرِّزۡقِۚ فَمَا ٱلَّذِینَ فُضِّلُوا۟ بِرَاۤدِّی رِزۡقِهِمۡ عَلَىٰ مَا مَلَكَتۡ أَیۡمَـٰنُهُمۡ فَهُمۡ فِیهِ سَوَاۤءٌۚ أَفَبِنِعۡمَةِ ٱللَّهِ یَجۡحَدُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق