الباحث القرآني

(p-١٦٣) قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَيْسُوا سَواءً مِن أهْلِ الكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وهم يَسْجُدُونَ﴾ ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ ويَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ ويُسارِعُونَ في الخَيْراتِ وأُولَئِكَ مِنَ الصّالِحِينَ﴾ ﴿وما يَفْعَلُوا مِن خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ واللَّهُ عَلِيمٌ بِالمُتَّقِينَ﴾ فِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّ في قَوْلِهِ: ﴿لَيْسُوا سَواءً﴾ قَوْلَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿لَيْسُوا سَواءً﴾ كَلامٌ تامٌّ، وقَوْلُهُ: ﴿مِن أهْلِ الكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ﴾ كَلامٌ مُسْتَأْنَفٌ لِبَيانِ قَوْلِهِ: ﴿لَيْسُوا سَواءً﴾ كَما وقَعَ قَوْلُهُ: ﴿تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ﴾ بَيانًا لِقَوْلِهِ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ والمَعْنى أنَّ أهْلَ الكِتابِ الَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرُهم لَيْسُوا سَواءً، وهو تَقْرِيرٌ لِما تَقَدَّمَ مِن قَوْلِهِ: ﴿مِنهُمُ المُؤْمِنُونَ وأكْثَرُهُمُ الفاسِقُونَ﴾، ثُمَّ ابْتَدَأ فَقالَ: ﴿مِن أهْلِ الكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ﴾ وعَلى هَذا القَوْلِ احْتِمالانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ لَمّا قالَ: ﴿مِن أهْلِ الكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ﴾ كانَ تَمامُ الكَلامِ أنْ يُقالَ: ومِنهم أُمَّةٌ مَذْمُومَةٌ، إلّا أنَّهُ أضْمَرَ ذِكْرَ الأُمَّةِ المَذْمُومَةِ عَلى مَذْهَبِ العَرَبِ مِن أنَّ ذِكْرَ أحَدِ الضِّدَّيْنِ يُغْنِي عَنْ ذِكْرِ الضِّدِّ الآخَرِ، وتَحْقِيقُهُ أنَّ الضِّدَّيْنِ يُعْلَمانِ مَعًا، فَذِكْرُ أحَدِهِما يَسْتَقِلُّ بِإفادَةِ العِلْمِ بِهِما، فَلا جَرَمَ يَحْسُنُ إهْمالُ الضِّدِّ الآخَرِ. قالَ أبُو ذُؤَيْبٍ: ؎دَعانِي إلَيْها القَلْبُ إنِّيَ لامْرُؤٌ مُطِيعٌ فَلا أدْرِي أرُشْدٌ طِلابُها أرادَ (أمْ غَيٌّ) فاكْتَفى بِذِكْرِ الرُّشْدِ عَنْ ذِكْرِ الغَيِّ، وهَذا قَوْلُ الفَرّاءِ وابْنِ الأنْبارِيِّ، وقالَ الزَّجّاجُ: لا حاجَةَ إلى إضْمارِ الأُمَّةِ المَذْمُومَةِ، لِأنَّ ذِكْرَ الأُمَّةِ المَذْمُومَةِ قَدْ جَرى فِيما قَبْلَ هَذِهِ الآياتِ فَلا حاجَةَ إلى إضْمارِها مَرَّةً أُخْرى، لِأنّا قَدْ ذَكَرْنا أنَّهُ لَمّا كانَ العِلْمُ بِالضِّدَّيْنِ مَعًا كانَ ذِكْرُ أحَدِهِما مُغْنِيًا عَنْ ذِكْرِ الآخَرِ، وهَذا كَما يُقالُ: زَيْدٌ وعَبْدُ اللَّهِ لا يَسْتَوِيانِ زَيْدٌ عاقِلٌ دَيِّنٌ زَكِيٌّ، فَيُغْنِي عَنْ هَذا أنْ يُقالَ: وعَبْدُ اللَّهِ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَكَذا هَهُنا لَمّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: ﴿لَيْسُوا سَواءً﴾ أغْنى ذَلِكَ عَنِ الإضْمارِ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿لَيْسُوا سَواءً﴾ كَلامٌ غَيْرُ تامٍّ ولا يَجُوزُ الوَقْفُ عِنْدَهُ، بَلْ هو مُتَعَلِّقٌ بِما بَعْدَهُ، والتَّقْدِيرُ: لَيْسُوا سَواءً مِن أهْلِ الكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ وأُمَّةٌ مَذْمُومَةٌ، فَأُمَّةٌ رُفِعَ بِلَيْسَ وإنَّما قِيلَ (لَيْسُوا) عَلى مَذْهَبِ مَن يَقُولُ: أكَلُونِي البَراغِيثُ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ لا بُدَّ مِن إضْمارِ الأُمَّةِ المَذْمُومَةِ وهو اخْتِيارُ أبِي عُبَيْدَةَ إلّا أنَّ أكْثَرَ النَّحْوِيِّينَ أنْكَرُوا هَذا القَوْلَ لِاتِّفاقِ الأكْثَرِينَ عَلى أنَّ قَوْلَهُ: أكَلُونِي البَراغِيثُ وأمْثالُها لُغَةٌ رَكِيكَةٌ واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: يُقالُ فُلانٌ وفُلانٌ سَواءٌ، أيْ مُتَساوِيانِ وقَوْمٌ سَواءٌ، لِأنَّهُ مَصْدَرٌ لا يُثَنّى ولا يُجْمَعُ ومَضى الكَلامُ في (سَواءٍ) في أوَّلِ سُورَةِ البَقَرَةِ. (p-١٦٤) * * * المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: في المُرادِ بِأهْلِ الكِتابِ قَوْلانِ. الأوَّلُ: وعَلَيْهِ الجُمْهُورُ: أنَّ المُرادَ مِنهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُوسى وعِيسى عَلَيْهِما السَّلامُ، رُوِيَ أنَّهُ لَمّا أسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ وأصْحابُهُ قالَ لَهم بَعْضُ كِبارِ اليَهُودِ: لَقَدْ كَفَرْتُمْ وخَسِرْتُمْ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى لِبَيانِ فَضْلِهِمْ هَذِهِ الآيَةَ، وقِيلَ: إنَّهُ تَعالى لَمّا وصَفَ أهْلَ الكِتابِ في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ بِالصِّفاتِ المَذْمُومَةِ ذَكَرَ هَذِهِ الآيَةَ لِبَيانِ أنَّ كُلَّ أهْلِ الكِتابِ لَيْسُوا كَذَلِكَ، بَلْ فِيهِمْ مَن يَكُونُ مَوْصُوفًا بِالصِّفاتِ الحَمِيدَةِ والخِصالِ المَرْضِيَّةِ، قالَ الثَّوْرِيُّ: بَلَغَنِي أنَّها نَزَلَتْ في قَوْمٍ كانُوا يُصَلُّونَ ما بَيْنَ المَغْرِبِ والعِشاءِ، وعَنْ عَطاءٍ: أنَّها نَزَلَتْ في أرْبَعِينَ مِن أهْلِ نَجْرانَ واثْنَيْنِ وثَلاثِينَ مِنَ الحَبَشَةِ وثَلاثَةٍ مِنَ الرُّومِ كانُوا عَلى دِينِ عِيسى وصَدَّقُوا بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. والقَوْلُ الثّانِي: أنْ يَكُونَ المُرادُ بِأهْلِ الكِتابِ كُلُّ مَن أُوتِيَ الكِتابَ مِن أهْلِ الأدْيانِ، وعَلى هَذا القَوْلِ يَكُونُ المُسْلِمُونَ مِن جُمْلَتِهِمْ، قالَ تَعالى: ﴿ثُمَّ أوْرَثْنا الكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِن عِبادِنا﴾ [فاطر: ٣٢] ومِمّا يَدُلُّ عَلى هَذا ما رَوى ابْنُ مَسْعُودٍ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أخَّرَ صَلاةَ العِشاءِ ثُمَّ خَرَجَ إلى المَسْجِدِ، فَإذا النّاسُ يَنْتَظِرُونَ الصَّلاةَ، فَقالَ: ”أمّا إنَّهُ لَيْسَ مِن أهْلِ الأدْيانِ أحَدٌ يَذْكُرُ اللَّهَ تَعالى هَذِهِ السّاعَةَ غَيْرُكم“» وقَرَأ هَذِهِ الآيَةَ، قالَ القَفّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: ولا يَبْعُدُ أنْ يُقالَ: أُولَئِكَ الحاضِرُونَ كانُوا نَفَرًا مِن مُؤْمِنِي أهْلِ الكِتابِ، فَقِيلَ: لَيْسَ يَسْتَوِي مِن أهْلِ الكِتابِ هَؤُلاءِ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ ﷺ فَأقامُوا صَلاةَ العَتْمَةِ في السّاعَةِ الَّتِي يَنامُ فِيها غَيْرُهم مِن أهْلِ الكِتابِ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا، ولَمْ يَبْعُدْ أيْضًا أنْ يُقالَ: المُرادُ كُلُّ مَن آمَنَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ فَسَمّاهُمُ اللَّهُ بِأهْلِ الكِتابِ، كَأنَّهُ قِيلَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّوْا أنْفُسَهم بِأهْلِ الكِتابِ، حالُهم وصِفَتُهم تِلْكَ الخِصالُ الذَّمِيمَةُ، والمُسْلِمُونَ الَّذِينَ سَمّاهُمُ اللَّهُ بِأهْلِ الكِتابِ حالُهم وصِفَتُهم هَكَذا، يَسْتَوِيانِ ؟ فَيَكُونُ الغَرَضُ مِن هَذِهِ الآيَةِ تَقْرِيرَ فَضِيلَةِ أهْلِ الإسْلامِ تَأْكِيدًا لِما تَقَدَّمَ مِن قَوْلِهِ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ وهو كَقَوْلِهِ: ﴿أفَمَن كانَ مُؤْمِنًا كَمَن كانَ فاسِقًا لا يَسْتَوُونَ﴾ [السجدة: ١٨] . ثُمَّ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى مَدَحَ الأُمَّةَ المَذْكُورَةَ في هَذِهِ الآيَةِ بِصِفاتٍ ثَمانِيَةٍ: الصِّفَةُ الأُولى: أنَّها قائِمَةٌ وفِيها أقْوالٌ. الأوَّلُ: أنَّها قائِمَةٌ في الصَّلاةِ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ فَعَبَّرَ عَنْ تَهَجُّدِهِمْ بِتِلاوَةِ القُرْآنِ في ساعاتِ اللَّيْلِ وهو كَقَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وقِيامًا﴾ [الفرقان: ٦٤] وقَوْلِهِ: ﴿إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أنَّكَ تَقُومُ أدْنى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ﴾ [المزمل: ٢٠] وقَوْلِهِ: ﴿قُمِ اللَّيْلَ﴾ [المزمل: ٢] وقَوْلِهِ: ﴿وقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ﴾ [البقرة: ٢٣٨] والَّذِي يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ مِن هَذا القِيامِ في الصَّلاةِ قَوْلُهُ: ﴿وهم يَسْجُدُونَ﴾ والظّاهِرُ أنَّ السَّجْدَةَ لا تَكُونُ إلّا في الصَّلاةِ. والقَوْلُ الثّانِي: في تَفْسِيرِ كَوْنِها قائِمَةً: أنَّها ثابِتَةٌ عَلى التَّمَسُّكِ بِالدِّينِ الحَقِّ مُلازِمَةٌ لَهُ غَيْرُ مُضْطَرِبَةٍ في التَّمَسُّكِ بِهِ كَقَوْلِهِ: ﴿إلّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِمًا﴾ [آل عمران: ٧٥] أيْ مُلازِمًا لِلِاقْتِضاءِ ثابِتًا عَلى المُطالَبَةِ مُسْتَقْصِيًا فِيها، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قائِمًا بِالقِسْطِ﴾ [آل عمران: ١٨] . وأقُولُ: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ دَلَّتْ عَلى كَوْنِ المُسْلِمِ قائِمًا بِحَقِّ العُبُودِيَّةِ، وقَوْلُهُ: يَدُلُّ عَلى أنَّ المَوْلى قائِمٌ بِحَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ في العَدْلِ والإحْسانِ فَتَمَّتِ المُعاهَدَةُ بِفَضْلِ اللَّهِ تَعالى كَما قالَ: ﴿وأوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ [البقرة: ٤٠] وهَذا قَوْلُ الحَسَنِ البَصْرِيِّ، واحْتُجَّ عَلَيْهِ بِما رُوِيَ أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ قالَ: «يا رَسُولَ (p-١٦٥)اللَّهِ إنْ أُناسًا مِن أهْلِ الكِتابِ يُحَدِّثُونَنا بِما يُعْجِبُنا فَلَوْ كَتَبْناهُ، فَغَضِبَ ﷺ وقالَ: أمُتَهَوِّكُونَ أنْتُمْ يا ابْنَ الخَطّابِ كَما تَهَوَّكَتِ اليَهُودُ، قالَ الحَسَنُ: مُتَحَيِّرُونَ مُتَرَدِّدُونَ ”أما والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ أتَيْتُكم بِها بَيْضاءَ نَقِيَّةً» “ وفي رِوايَةٍ أُخْرى قالَ عِنْدَ ذَلِكَ: ”«إنَّكم لَمْ تُكَلَّفُوا أنْ تَعْمَلُوا بِما في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ وإنَّما أُمِرْتُمْ أنْ تُؤْمِنُوا بِهِما وتُفَوِّضُوا عِلْمَهُما إلى اللَّهِ تَعالى، وكُلِّفْتُمْ أنْ تُؤْمِنُوا بِما أُنْزِلَ عَلَيَّ في هَذا الوَحْيِ غُدْوَةً وعَشِيًّا والَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أدْرَكَنِي إبْراهِيمُ ومُوسى وعِيسى لَآمَنُوا بِي واتَّبَعُونِي» “ فَهَذا الخَبَرُ يَدُلُّ عَلى أنَّ الثَّباتَ عَلى هَذا الدِّينِ واجِبٌ وعَدَمَ التَّعَلُّقِ بِغَيْرِهِ واجِبٌ فَلا جَرَمَ مَدَحَهُمُ اللَّهُ في هَذِهِ الآيَةِ بِذَلِكَ فَقالَ: ﴿مِن أهْلِ الكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ﴾ . القَوْلُ الثّالِثُ: ﴿أُمَّةٌ قائِمَةٌ﴾ أيْ مُسْتَقِيمَةٌ عادِلَةٌ مِن قَوْلِكَ: أقَمْتُ العُودَ فَقامَ بِمَعْنى اسْتَقامَ، وهَذا كالتَّقْرِيرِ لِقَوْلِهِ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ . * * * الصِّفَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: (يَتْلُونَ ويُؤْمِنُونَ) في مَحَلِّ الرَّفْعِ صِفَتانِ لِقَوْلِهِ: (أُمَّةٌ) أيْ أُمَّةٌ قائِمَةٌ تالُونَ مُؤْمِنُونَ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: التِّلاوَةُ القِراءَةُ وأصْلُ الكَلِمَةِ مِنَ الِاتِّباعِ فَكَأنَّ التِّلاوَةَ هي اتِّباعُ اللَّفْظِ اللَّفْظَ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: آياتُ اللَّهِ قَدْ يُرادُ بِها آياتُ القُرْآنِ، وقَدْ يُرادُ بِها أصْنافُ مَخْلُوقاتِهِ الَّتِي هي دالَّةٌ عَلى ذاتِهِ وصِفاتِهِ، والمُرادُ هاهُنا الأُولى. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: ﴿آناءَ اللَّيْلِ﴾ أصْلُها في اللُّغَةِ الأوْقاتُ والسّاعاتُ وواحِدُها إنى، مِثْلُ: مِعى وأمْعاءٍ، وإنْيٌ مِثْلُ نِحْيٍ وأنْحاءِ، مَكْسُورُ الأوَّلِ ساكِنُ الثّانِي، قالَ القَفّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ، كَأنَّ الثّانِي مَأْخُوذٌ مِنهُ لِأنَّهُ انْتِظارُ السّاعاتِ والأوْقاتِ، وفي الخَبَرِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ «قالَ لِلرَّجُلِ الَّذِي أخَّرَ المَجِيءَ إلى الجُمُعَةِ ”آذَيْتَ وآنَيْتَ“» أيْ دافَعْتَ الأوْقاتَ. الصِّفَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وهم يَسْجُدُونَ﴾ وفِيهِ وُجُوهٌ. الأوَّلُ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ حالًا مِنَ التِّلاوَةِ كَأنَّهم يَقْرَءُونَ القُرْآنَ في السَّجْدَةِ مُبالَغَةً في الخُضُوعِ والخُشُوعِ إلّا أنَّ القَفّالَ رَحِمَهُ اللَّهُ رَوى في ”تَفْسِيرِهِ“ حَدِيثًا: أنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جائِزٍ، وهو قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«ألا إنِّي نُهِيتُ أنْ أقْرَأ راكِعًا أوْ ساجِدًا» “ . الثّانِي: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ كَلامًا مُسْتَقِلًّا والمَعْنى أنَّهم يَقُومُونَ تارَةً يَبْتَغُونَ الفَضْلَ والرَّحْمَةَ بِأنْواعِ ما يَكُونُ في الصَّلاةِ مِنَ الخُضُوعِ لِلَّهِ تَعالى وهو كَقَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وقِيامًا﴾ [الفرقان: ٦٤] وقَوْلِهِ: ﴿أمْ مَن هو قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِدًا وقائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ ويَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ [الزمر: ٩] قالَ الحَسَنُ: يُرِيحُ رَأْسَهُ بِقَدَمَيْهِ وقَدَمَيْهِ بِرَأْسِهِ، وهَذا عَلى مَعْنى إرادَةِ الرّاحَةِ وإزالَةِ التَّعَبِ وإحْداثِ النَّشاطِ. الثّالِثُ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿وهم يَسْجُدُونَ﴾ أنَّهم يُصَلُّونَ وصَفَهم بِالتَّهَجُّدِ بِاللَّيْلِ، والصَّلاةُ تُسَمّى سُجُودًا وسَجْدَةً ورُكُوعًا ورَكْعَةً وتَسْبِيحًا وتَسْبِيحَةً، قالَ تَعالى: ﴿وارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ﴾ [البقرة: ٤٣] أيْ صَلُّوا وقالَ: ﴿فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ [الروم: ١٧] والمُرادُ الصَّلاةُ. الرّابِعُ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿وهم يَسْجُدُونَ﴾ أيْ يَخْضَعُونَ ويَخْشَعُونَ لِلَّهِ لِأنَّ العَرَبَ تُسَمِّي الخُشُوعَ سُجُودًا كَقَوْلِهِ: ﴿ولِلَّهِ يَسْجُدُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ [النمل: ٤٩] وكُلُّ هَذِهِ الوُجُوهِ ذَكَرَها القَفّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ. (p-١٦٦)الصِّفَةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ: ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ واعْلَمْ أنَّ اليَهُودَ كانُوا أيْضًا يَقُومُونَ في اللَّيالِي لِلتَّهَجُّدِ وقِراءَةِ التَّوْراةِ، فَلَمّا مَدَحَ المُؤْمِنِينَ بِالتَّهَجُّدِ وقِراءَةِ القُرْآنِ أرْدَفَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ وقَدْ بَيَّنّا أنَّ الإيمانَ بِاللَّهِ يَسْتَلْزِمُ الإيمانَ بِجَمِيعِ أنْبِيائِهِ ورُسُلِهِ والإيمانَ بِاليَوْمِ الآخِرِ يَسْتَلْزِمُ الحَذَرَ مِنَ المَعاصِي، وهَؤُلاءِ اليَهُودُ يُنْكِرُونَ أنْبِياءَ اللَّهِ ولا يَحْتَرِزُونَ عَنْ مَعاصِي اللَّهِ، فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمُ الإيمانُ بِالمَبْدَأِ والمَعادِ. واعْلَمْ أنَّ كَمالَ الإنْسانِ أنْ يَعْرِفَ الحَقَّ لِذاتِهِ، والخَيْرَ لِأجْلِ العَمَلِ بِهِ، وأفْضَلُ الأعْمالِ الصَّلاةُ وأفْضَلُ الأذْكارِ ذِكْرُ اللَّهِ، وأفْضَلُ المَعارِفِ مَعْرِفَةُ المَبْدَأِ ومَعْرِفَةُ المَعادِ، فَقَوْلُهُ: ﴿يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وهم يَسْجُدُونَ﴾ إشارَةٌ إلى الأعْمالِ الصّالِحَةِ الصّادِرَةِ عَنْهم، وقَوْلُهُ: ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ إشارَةٌ إلى فَضْلِ المَعارِفِ الحاصِلَةِ في قُلُوبِهِمْ فَكانَ هَذا إشارَةً إلى كَمالِ حالِهِمْ في القُوَّةِ العَمَلِيَّةِ وفي القُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ، وذَلِكَ أكْمَلُ أحْوالِ الإنْسانِ، وهي المَرْتَبَةُ الَّتِي يُقالُ لَها: إنَّها آخِرُ دَرَجاتِ الإنْسانِيَّةِ وأوَّلُ دَرَجاتِ المَلَكِيَّةِ. الصِّفَةُ الخامِسَةُ: قَوْلُهُ: ﴿ويَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ﴾ . الصِّفَةُ السّادِسَةُ: قَوْلُهُ: ﴿ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ﴾ واعْلَمْ أنَّ الغايَةَ القُصْوى في الكَمالِ أنْ يَكُونَ تامًّا وفَوْقَ التَّمامِ، فَكَوْنُ الإنْسانِ تامًّا لَيْسَ إلّا في كَمالِ قُوَّتِهِ العَمَلِيَّةِ والنَّظَرِيَّةِ وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وكَوْنُهُ فَوْقَ التَّمامِ أنْ يَسْعى في تَكْمِيلِ النّاقِصِينَ، وذَلِكَ بِطَرِيقَيْنِ، إمّا بِإرْشادِهِمْ إلى ما يَنْبَغِي وهو الأمْرُ بِالمَعْرُوفِ، أوْ يَمْنَعُهم عَمّا لا يَنْبَغِي وهو النَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: ﴿يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ﴾ أيْ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ وبِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ ﴿ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ﴾ أيْ يَنْهَوْنَ عَنِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، وعَنْ إنْكارِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، واعْلَمْ أنَّ لَفْظَ المَعْرُوفِ والمُنْكَرِ مُطْلَقٌ فَلَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، فَهو يَتَناوَلُ كُلَّ مَعْرُوفٍ وكُلَّ مُنْكَرٍ. الصِّفَةُ السّابِعَةُ: قَوْلُهُ: ﴿ويُسارِعُونَ في الخَيْراتِ﴾ وفِيهِ وجْهانِ. أحَدُهُما: أنَّهم يَتَبادَرُونَ إلَيْها خَوْفَ الفَوْتِ بِالمَوْتِ، والآخَرُ: يَعْمَلُونَها غَيْرَ مُتَثاقِلِينَ. فَإنْ قِيلَ: ألَيْسَ أنَّ العَجَلَةَ مَذْمُومَةٌ قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«العَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطانِ والتَّأنِّي مِنَ الرَّحْمَنِ» “ فَما الفَرْقُ بَيْنَ السُّرْعَةِ وبَيْنَ العَجَلَةِ ؟ قُلْنا: السُّرْعَةُ مَخْصُوصَةٌ بِأنْ يُقَدَّمَ ما يَنْبَغِي تَقْدِيمُهُ، والعَجَلَةُ مَخْصُوصَةٌ بِأنْ يُقَدَّمَ ما لا يَنْبَغِي تَقْدِيمُهُ، فالمُسارَعَةُ مَخْصُوصَةٌ بِفَرْطِ الرَّغْبَةِ فِيما يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ، لِأنَّ مَن رَغِبَ في الأمْرِ، آثَرَ الفَوْرَ عَلى التَّراخِي، قالَ تَعالى: ﴿وسارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِن رَبِّكُمْ﴾ [آل عمران: ١٣٣] وأيْضًا العَجَلَةُ لَيْسَتْ مَذْمُومَةً عَلى الإطْلاقِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وعَجِلْتُ إلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى﴾ [طه: ٨٤] . الصِّفَةُ الثّامِنَةُ: قَوْلُهُ: ﴿وأُولَئِكَ مِنَ الصّالِحِينَ﴾ والمَعْنى وأُولَئِكَ المَوْصُوفُونَ بِما وُصِفُوا بِهِ مِن جُمْلَةِ الصّالِحِينَ الَّذِينَ صَلَحَتْ أحْوالُهم عِنْدَ اللَّهِ تَعالى ورَضِيَهم، واعْلَمْ أنَّ الوَصْفَ بِذَلِكَ غايَةُ المَدْحِ ويَدُلُّ عَلَيْهِ القُرْآنُ والمَعْقُولُ، أمّا القُرْآنُ، فَهو أنَّ اللَّهَ تَعالى مَدَحَ بِهَذا الوَصْفِ أكابِرَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ فَقالَ: بَعْدَ ذِكْرِ إسْماعِيلَ وإدْرِيسَ وذِي الكِفْلِ وغَيْرِهِمْ ﴿وأدْخَلْناهم في رَحْمَتِنا إنَّهم مِنَ الصّالِحِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٦] وذَكَرَ حِكايَةً عَنْ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ قالَ: ﴿وأدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ في عِبادِكَ الصّالِحِينَ﴾ [النمل: ١٩] وقالَ: ﴿فَإنَّ اللَّهَ هو مَوْلاهُ وجِبْرِيلُ وصالِحُ المُؤْمِنِينَ﴾ [التحريم: ٤] وأمّا المَعْقُولُ فَهو أنَّ الصَّلاحَ ضِدُّ الفَسادِ، وكُلُّ ما لا يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ فَهو فَسادٌ، سَواءٌ كانَ ذَلِكَ في العَقائِدِ، أوْ في الأعْمالِ، فَإذا كانَ كُلُّ ما حَصَلَ مِن بابِ (p-١٦٧)ما يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ، فَقَدْ حَصَلَ الصَّلاحُ، فَكانَ الصَّلاحُ دالًّا عَلى أكْمَلِ الدَّرَجاتِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب