الباحث القرآني

[ القِصَّةُ الأُولى: قِصَّةُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ ] ﴿وألْقِ عَصاكَ فَلَمّا رَآها تَهْتَزُّ كَأنَّها جانٌّ ولّى مُدْبِرًا ولَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ المُرْسَلُونَ﴾ ﴿إلّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ﴿وأدْخِلْ يَدَكَ في جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِن غَيْرِ سُوءٍ في تِسْعِ آياتٍ إلى فِرْعَوْنَ وقَوْمِهِ إنَّهم كانُوا قَوْمًا فاسِقِينَ﴾ ﴿فَلَمّا جاءَتْهم آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هَذا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ ﴿وجَحَدُوا بِها واسْتَيْقَنَتْها أنْفُسُهم ظُلْمًا وعُلُوًّا فانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُفْسِدِينَ﴾ . قَوْلُهُ تَعالى: (p-١٥٨)﴿وألْقِ عَصاكَ فَلَمّا رَآها تَهْتَزُّ كَأنَّها جانٌّ ولّى مُدْبِرًا ولَمْ يُعَقِّبْ يامُوسى لا تَخَفْ إنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ المُرْسَلُونَ﴾ ﴿إلّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ﴿وأدْخِلْ يَدَكَ في جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِن غَيْرِ سُوءٍ في تِسْعِ آياتٍ إلى فِرْعَوْنَ وقَوْمِهِ إنَّهم كانُوا قَوْمًا فاسِقِينَ﴾ ﴿فَلَمّا جاءَتْهم آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هَذا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ ﴿وجَحَدُوا بِها واسْتَيْقَنَتْها أنْفُسُهم ظُلْمًا وعُلُوًّا فانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُفْسِدِينَ﴾? اعْلَمْ أنَّ أكْثَرَ ما في هَذَهِ الآياتِ قَدْ مَرَّ شَرْحُهُ، ولْنَذْكُرْ ما هو مِن خَواصِّ هَذا المَوْضِعِ، يُقالُ: عَلامَ عَطَفَ قَوْلَهُ: ﴿وألْقِ عَصاكَ﴾ ؟ جَوابُهُ: عَلى ”بُورِكَ“، لِأنَّ المَعْنى نُودِيَ أنْ بُورِكَ مَن في النّارِ، وأنْ ألْقِ عَصاكَ، كِلاهُما تَفْسِيرٌ لِ ”نُودِيَ“ . أمّا قَوْلُهُ: ﴿كَأنَّها جانٌّ﴾ فالجانُّ الحَيَّةُ الصَّغِيرَةُ، سُمِّيَتْ جانًّا، لِأنَّها تَسْتَتِرُ عَنِ النّاسِ، وقَرَأ الحَسَنُ ”جانٌ“ عَلى لُغَةِ مَن يَهْرُبُ مِنَ التِقاءِ السّاكِنَيْنِ، فَيَقُولُ: شابَةٌ ودابَةٌ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿ولَمْ يُعَقِّبْ﴾ مَعْناهُ لَمْ يَرْجِعْ، يُقالُ: عَقَّبَ المُقاتِلُ إذا مَرَّ بَعْدَ الفِرارِ، وإنَّما خافَ لِظَنِّهِ أنَّ ذَلِكَ لِأمْرٍ أُرِيدَ بِهِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ ﴿إنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ المُرْسَلُونَ﴾ وقالَ بَعْضُهم: المُرادُ إنِّي إذا أمَرْتُهم بِإظْهارِ مُعْجِزٍ فَيَنْبَغِي أنْ لا يَخافُوا فِيما يَتَعَلَّقُ بِإظْهارِ ذَلِكَ وإلّا فالمُرْسِلُ قَدْ يَخافُ لا مَحالَةَ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلّا مَن ظَلَمَ﴾ مَعْناهُ لَكِنْ مَن ظُلِمَ وهو مَحْمُولٌ عَلى ما يَصْدُرُ مِنَ الأنْبِياءِ مَن تَرْكِ الأفْضَلِ أوِ الصَّغِيرَةِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَقْصُودُ مِنهُ التَّعْرِيضَ بِما وُجِدَ مِن مُوسى وهو مِنَ التَّعْرِيضاتِ اللَّطِيفَةِ. قالَ الحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ: كانَ واللَّهِ مُوسى مِمَّنْ ظَلَمَ بِقَتْلِ القِبْطِيِّ ثُمَّ بَدَّلَ، فَإنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ: ﴿رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغْفِرْ لِي﴾ [القصص: ١٦] وقُرِئَ ”ألا مَن ظَلَمَ“ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ﴾ فالمُرادُ حُسْنُ التَّوْبَةِ وسُوءُ الذَّنْبِ، وعَنْ أبِي بَكْرٍ في رِوايَةِ عاصِمٍ ”حَسَنًا“ . أمّا قَوْلُهُ: ﴿فِي تِسْعِ آياتٍ﴾ فَهو كَلامٌ مُسْتَأْنَفٌ، وحَرْفُ الجَرِّ فِيهِ يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، والمَعْنى اذْهَبْ في تِسْعِ آياتٍ إلى فِرْعَوْنَ، ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: كانَتِ الآياتُ إحْدى عَشْرَةَ، اثْنَتانِ مِنها اليَدُ والعَصا، والتُّسْعُ: الفَلْقُ والطُّوفانُ والجَرادُ والقَمَّلُ والضَّفادِعُ والدَّمُ والطَّمْسَةُ والجَدْبُ في بَوادِيهِمْ والنُّقْصانُ في مَزارِعِهِمْ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿فَلَمّا جاءَتْهم آياتُنا مُبْصِرَةً﴾ فَقَدْ جَعَلَ الإبْصارَ لَها، وهو في الحَقِيقَةِ لِمُتَأمِّلِها، وذَلِكَ بِسَبَبِ نَظَرِهِمْ وتَفَكُّرِهِمْ فِيها، أوْ جُعِلَتْ كَأنَّها لِظُهُورِها تُبْصِرُ فَتَهْتَدِي، وقَرَأ عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ وقَتادَةُ ”مَبْصَرَةً“ وهو نَحْوُ مَجْبَنَةٍ ومَبْخَلَةٍ، أيْ مَكانًا يَكْثُرُ فِيهِ التَّبَصُّرُ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿واسْتَيْقَنَتْها أنْفُسُهُمْ﴾ فالواوُ فِيها واوُ الحالِ، وقَدْ بَعْدَها مُضْمَرَةٌ وفائِدَةُ ذِكْرِ الأنْفُسِ أنَّهم جَحَدُوها بِألْسِنَتِهِمْ واسْتَيْقَنُوها في قُلُوبِهِمْ وضَمائِرِهِمْ، والِاسْتِيقانُ أبْلَغُ مِنَ الإيقانِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿ظُلْمًا وعُلُوًّا﴾ فَأيُّ ظُلْمٍ أفْحَشُ مِن ظُلْمِ مَنِ اسْتَيْقَنَ أنَّها آياتٌ بَيِّنَةٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى، ثُمَّ كابَرَ بِتَسْمِيَتِها سِحْرًا بَيِّنًا. وأمّا العُلُوُّ فَهو التَّكَبُّرُ والتَّرَفُّعُ عَنِ الإيمانِ بِما جاءَ بِهِ مُوسى كَقَوْلِهِ: ﴿فاسْتَكْبَرُوا وكانُوا قَوْمًا عالِينَ﴾ [المؤمنون: ٤٦] وقُرِئَ ”عُلِيًّا“ و”عِلِيًّا“ بِالضَّمِّ والكَسْرِ، كَما قُرِئَ ”عِتِيًّا“ . واللَّهُ أعْلَمُ. * * * القِصَّةُ الثّانِيَةُ: قِصَّةُ داوُدَ وسُلَيْمانَ عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ ﴿ولَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وسُلَيْمانَ عِلْمًا وقالا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِن عِبادِهِ المُؤْمِنِينَ﴾ (p-١٥٩)﴿ووَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وقالَ يا أيُّها النّاسُ عُلِّمْنا مَنطِقَ الطَّيْرِ وأُوتِينا مِن كُلِّ شَيْءٍ إنَّ هَذا لَهو الفَضْلُ المُبِينُ﴾ ﴿وحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الجِنِّ والإنْسِ والطَّيْرِ فَهم يُوزَعُونَ﴾ ﴿حَتّى إذا أتَوْا عَلى وادِي النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أيُّها النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكم لا يَحْطِمَنَّكم سُلَيْمانُ وجُنُودُهُ وهم لا يَشْعُرُونَ﴾ ﴿فَتَبَسَّمَ ضاحِكًا مِن قَوْلِها وقالَ رَبِّ أوْزِعْنِي أنْ أشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أنْعَمْتَ عَلَيَّ وعَلى والِدَيَّ وأنْ أعْمَلَ صالِحًا تَرْضاهُ وأدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ في عِبادِكَ الصّالِحِينَ﴾ . قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وسُلَيْمانَ عِلْمًا وقالا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِن عِبادِهِ المُؤْمِنِينَ﴾ ﴿ووَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وقالَ ياأيُّها النّاسُ عُلِّمْنا مَنطِقَ الطَّيْرِ وأُوتِينا مِن كُلِّ شَيْءٍ إنَّ هَذا لَهو الفَضْلُ المُبِينُ﴾ ﴿وحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الجِنِّ والإنْسِ والطَّيْرِ فَهم يُوزَعُونَ﴾ ﴿حَتّى إذا أتَوْا عَلى وادِي النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ ياأيُّها النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكم لا يَحْطِمَنَّكم سُلَيْمانُ وجُنُودُهُ وهم لا يَشْعُرُونَ﴾ ﴿فَتَبَسَّمَ ضاحِكًا مِن قَوْلِها وقالَ رَبِّ أوْزِعْنِي أنْ أشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أنْعَمْتَ عَلَيَّ وعَلى والِدَيَّ وأنْ أعْمَلَ صالِحًا تَرْضاهُ وأدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ في عِبادِكَ الصّالِحِينَ﴾ . أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿عِلْمًا﴾ فالمُرادُ طائِفَةٌ مِنَ العِلْمِ أوْ عِلْمًا سَنِيًّا غَزِيرًا، فَإنْ قِيلَ: ألَيْسَ هَذا مَوْضِعَ الفاءِ دُونَ الواوِ، كَقَوْلِكَ أعْطَيْتُهُ فَشَكَرَ ؟ جَوابُهُ: أنَّ الشُّكْرَ بِاللِّسانِ إنَّما يَحْسُنُ مَوْقِعُهُ إذا كانَ مَسْبُوقًا بِعَمَلِ القَلْبِ وهو العَزْمُ عَلى فِعْلِ الطّاعَةِ وتَرْكِ المَعْصِيَةِ، وبِعَمَلِ الجَوارِحِ وهو الِاشْتِغالُ بِالطّاعاتِ، ولَمّا كانَ الشُّكْرُ بِاللِّسانِ يَجِبُ كَوْنُهُ مَسْبُوقًا بِهِما فَلا جَرَمَ صارَ كَأنَّهُ قالَ: ولَقَدْ آتَيْناهُما عِلْمًا، فَعَمِلا بِهِ قَلْبًا وقالِبًا، وقالا بِاللِّسانِ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَعَلَ كَذا وكَذا. * * * وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِن عِبادِهِ المُؤْمِنِينَ﴾ فَفِيها أبْحاثٌ: أحَدُها: أنَّ الكَثِيرَ المُفَضَّلَ عَلَيْهِ هو مَن لَمْ يُؤْتَ عِلْمًا أوْ مَن لَمْ يُؤْتَ مِثْلَ عِلْمِهِما، وفِيهِ أنَّهُما فُضِّلا عَلى كَثِيرٍ وفُضِّلَ عَلَيْهِما كَثِيرٌ. وثانِيها: في الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى عُلُوِّ مَرْتَبَةِ العِلْمِ لِأنَّهُما أُوتِيا مِنَ المُلْكِ ما لَمْ يُؤْتَ غَيْرُهُما فَلَمْ يَكُنْ شُكْرُهُما عَلى المُلْكِ كَشُكْرِهِما عَلى العِلْمِ. وثالِثُها: أنَّهم لَمْ يُفَضِّلُوا أنْفُسَهم عَلى الكُلِّ وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى حُسْنِ التَّواضُعِ. ورابِعُها: أنَّ الظّاهِرَ يَقْتَضِي أنَّ تِلْكَ الفَضِيلَةَ لَيْسَتْ إلّا ذَلِكَ العِلْمَ، ثُمَّ العِلْمُ بِاللَّهِ وبِصِفاتِهِ أشْرَفُ مِن غَيْرِهِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ هَذا الشُّكْرُ لَيْسَ إلّا عَلى هَذا العِلْمِ، ثُمَّ إنَّ هَذا العِلْمَ حاصِلٌ لِجَمِيعِ المُؤْمِنِينَ فَيَسْتَحِيلُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِفَضِيلَتِهِمْ عَلى المُؤْمِنِينَ فَإذَنْ هو أنْ يَصِيرَ العِلْمُ بِاللَّهِ وبِصِفاتِهِ جَلِيًّا بِحَيْثُ يَصِيرُ المَرْءُ مُسْتَغْرِقًا فِيهِ بِحَيْثُ لا يَخْطُرُ بِبالِهِ شَيْءٌ مِنَ الشُّبَهاتِ ولا يَغْفُلُ القَلْبُ عَنْهُ في حِينٍ مِنَ الأحْيانِ ولا ساعَةٍ مِنَ السّاعاتِ. * * * (p-١٦٠)أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ووَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ﴾ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقالَ الحَسَنُ: المالُ؛ لِأنَّ النُّبُوَّةَ عَطِيَّةٌ مُبْتَدَأةٌ ولا تُورَثُ، وقالَ غَيْرُهُ: بَلِ النُّبُوَّةُ، وقالَ آخَرُونَ: بَلِ المُلْكُ والسِّياسَةُ، ولَوْ تَأمَّلَ الحَسَنُ لَعَلِمَ أنَّ المالَ إذا ورِثَهُ الوَلَدُ فَهو أيْضًا عَطِيَّةٌ مُبْتَدَأةٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى، ولِذَلِكَ يَرِثُ الوَلَدُ إذا كانَ مُؤْمِنًا ولا يَرِثُ إذا كانَ كافِرًا أوْ قاتِلًا، لَكِنَّ اللَّهَ تَعالى جَعَلَ سَبَبَ الإرْثِ فِيمَن يَرِثُ المَوْتَ عَلى شَرائِطَ، ولَيْسَ كَذَلِكَ النُّبُوَّةُ لِأنَّ المَوْتَ لا يَكُونُ سَبَبًا لِنُبُوَّةِ الوَلَدِ فَمِن هَذا الوجه يَفْتَرِقانِ، وذَلِكَ لا يَمْنَعُ مِن أنْ يُوصَفَ بِأنَّهُ ورِثَ النُّبُوَّةَ لَمّا قامَ بِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ، كَما يَرِثُ الوَلَدُ المالَ إذا قامَ بِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ؛ ومِمّا يُبَيِّنُ ما قُلْناهُ أنَّهُ تَعالى لَوْ فَصَّلَ فَقالَ: ووَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ مالَهُ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: ﴿وقالَ ياأيُّها النّاسُ عُلِّمْنا مَنطِقَ الطَّيْرِ﴾ مَعْنًى، وإذا قُلْنا ووَرِثَ مَقامَهُ مِنَ النُّبُوَّةِ والمُلْكِ حَسُنَ ذَلِكَ لِأنَّ تَعْلِيمَ مَنطِقِ الطَّيْرِ يَكُونُ داخِلًا في جُمْلَةِ ما ورِثَهُ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأُوتِينا مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ لِأنَّ وارِثَ المُلْكِ يَجْمَعُ ذَلِكَ ووارِثَ المالِ لا يَجْمَعُهُ وقَوْلُهُ: ﴿إنَّ هَذا لَهو الفَضْلُ المُبِينُ﴾ لا يَلِيقُ أيْضًا إلّا بِما ذَكَرْنا دُونَ المالِ الَّذِي قَدْ يَحْصُلُ لِلْكامِلِ والنّاقِصِ، وما ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى مِن جُنُودِ سُلَيْمانَ بَعْدَهُ لا يَلِيقُ إلّا بِما ذَكَرْناهُ، فَبَطَلَ بِما ذَكَرْنا قَوْلُ مَن زَعَمَ أنَّهُ لَمْ يَرِثْ إلّا المالَ، فَأمّا إذا قِيلَ: ورِثَ المالَ والمُلْكَ مَعًا فَهَذا لا يَبْطُلُ بِالوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْناها، بَلْ بِظاهِرِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«نَحْنُ مُعاشِرَ الأنْبِياءِ لا نُوَرَّثُ» “ . فَأمّا قَوْلُهُ: ﴿ياأيُّها النّاسُ﴾ فالمَقْصُودُ مِنهُ تَشْهِيرُ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعالى والتَّنْوِيهُ بِها ودُعاءُ النّاسِ إلى التَّصْدِيقِ بِذِكْرِ المُعْجِزَةِ الَّتِي هي عِلْمُ مَنطِقِ الطَّيْرِ، قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: المَنطِقُ كُلُّ ما يُصَوَّتُ بِهِ مِنَ المُفْرَدِ والمُؤَلَّفِ المُفِيدِ وغَيْرِ المُفِيدِ، وقَدْ تَرْجَمَ يَعْقُوبُ كِتابَهُ بِإصْلاحِ المَنطِقِ وما أصْلَحَ فِيهِ إلّا مُفْرَداتِ الكَلِمِ، وقالَتِ العَرَبُ: نَطَقَتِ الحَمامَةُ؛ فالَّذِي عَلَّمَ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِن مَنطِقِ الطَّيْرِ هو ما يُفْهَمُ بَعْضُهُ مِن بَعْضٍ مِن مَقاصِدِهِ وأغْراضِهِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأُوتِينا مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ فالمُرادُ كَثْرَةُ ما أُوتِيَ وذَلِكَ لِأنَّ الكُلَّ والبَعْضَ الكَثِيرَ يَشْتَرِكانِ في صِفَةِ الكَثْرَةِ، والمُشارَكَةُ سَبَبٌ لِجَوازِ الِاسْتِعارَةِ فَلا جَرَمَ يُطْلَقُ لَفْظُ الكُلِّ عَلى الكَثِيرِ ومِثْلُهُ قَوْلُهُ: ﴿وأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ . أمّا قَوْلُهُ: ﴿إنَّ هَذا لَهو الفَضْلُ المُبِينُ﴾ فَهو تَقْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا﴾ والمَقْصُودُ مِنهُ الشُّكْرُ والمَحْمَدَةُ كَما قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«أنا سَيِّدُ ولَدِ آدَمَ ولا فَخْرَ» “ فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ قالَ: ”عُلِّمْنا، وأُوتِينا“ وهو مِن كَلامِ المُتَكَبِّرِينَ ؟ جَوابُهُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنْ يُرِيدَ نَفْسَهُ وأباهُ. والثّانِي: أنَّ هَذِهِ النُّونَ يُقالُ لَها: نُونُ الواحِدِ المُطاعِ وكانَ مَلِكًا مُطاعًا، وقَدْ يَتَعَلَّقُ بِتَعْظِيمِ المَلِكِ مَصالِحُ فَيَصِيرُ ذَلِكَ التَّعْظِيمُ واجِبًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب