الباحث القرآني

﴿وأدْخِلْ يَدَكَ في جَيْبِكَ﴾ أيْ: جَيْبِ (p-167)قَمِيصِكَ، وهو مَدْخَلُ الرَّأْسِ مِنهُ المَفْتُوحُ إلى الصَّدْرِ، لا ما يُوضَعُ فِيهِ الدَّراهِمُ ونَحْوُها كَما هو مَعْرُوفٌ الآنَ؛ لِأنَّهُ مُوَلَّدٌ، ولَمْ يَقُلْ سُبْحانَهُ: (فِي كُمِّكَ) لِأنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - كانَ لابِسًا إذْ ذاكَ مُدَرَّعَةً مِن صُوفٍ لا كُمَّ لَها، وقِيلَ: الجَيْبُ القَمِيصُ نَفْسُهُ؛ لِأنَّهُ يُجابُ أيْ يُقْطَعُ، فَهو فَعْلٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ، وقالَ السُّدِّيُّ: (فِي جَيْبِكَ) أيْ: تَحْتَ إبِطِكَ. ولَعَلَّ مُرادَهُ أنَّ المَعْنى: أدْخِلْها في جَيْبِكَ وضَعْها تَحْتَ إبِطِكَ، وكانَتْ مُدَرَّعَتُهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - عَلى ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - لا أزْرارَ لَها، وقَدْ ورَدَ في بَعْضِ الآثارِ أنَّ نَبِيَّنا ﷺ كانَ مُطْلَقَ القَمِيصِ في بَعْضِ الأوْقاتِ. فَفِي سُنَنِ أبِي داوُدَ، بابٌ في حَلِّ الأزْرارِ، ثُمَّ أخْرَجَ فِيهِ مِن طَرِيقِ مُعاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ قالَ: حَدَّثَنِي أبِي قالَ: أتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ في رَهْطٍ مِن مُزَيْنَةَ فَبايَعْناهُ وإنَّ قَمِيصَهُ لَمُطْلَقٌ - وفي رِوايَةِ البَغَوِيِّ في مُعْجَمِ الصَّحابَةِ (لَمُطْلَقُ الأزْرارِ) - قالَ: فَبايَعْتُهُ، ثُمَّ أدْخَلْتُ يَدِي في جَيْبِ قَمِيصِهِ فَمَسِسْتُ الخاتَمَ، قالَ عُرْوَةُ: فَما رَأيْتُ مُعاوِيَةَ ولا أباهُ قَطُّ إلّا مُطْلِقِي أزْرارَهُما، ولا يَزِرّانِها أبَدًا. وجاءَ أيْضًا أنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - أمَرَ بِزَرِّ الأزْرارِ، فَقَدْ أخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ، «عَنْ زَيْدِ بْنِ أبِي أوْفى أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَظَرَ إلى عُثْمانَ بْنِ عَفّانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - فَإذا أزْرارُهُ مَحْلُولَةً فَزَرَّها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ – بِيَدِهِ، وقالَ: «اجْمَعْ عَطْفَيْ رِدائِكَ عَلى نَحْرِكَ»». وفِي هَذَيْنِ الأثَرَيْنِ ما هو ظاهِرٌ في أنَّ جَيْبَ القَمِيصِ كانَ إذْ ذاكَ عَلى الصَّدْرِ كَما هو اليَوْمَ عِنْدَ العَرَبِ، وهو يُبْطِلُ القَوْلَ بِأنَّهُ خِلافُ السُّنَّةِ، وأنَّهُ مِن شَعائِرِ اليَهُودِ، وأمْرُهُ تَعالى إيّاهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - بِإدْخالِ يَدِهِ في جَيْبِهِ - مَعَ أنَّهُ سُبْحانَهُ قادِرٌ عَلى أنْ يَجْعَلَها بَيْضاءَ مِن غَيْرِ إدْخالٍ – لِلِامْتِحانِ، ولَهُ سُبْحانُهُ أنْ يَمْتَحِنَ عِبادَهُ بِما شاءَ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿تَخْرُجْ﴾ جَوابُ الأمْرِ؛ لِأنَّ خُرُوجَها مُتَرَتِّبٌ عَلى إدْخالِها، وقِيلَ: في الكَلامِ حَذْفٌ، تَقْدِيرُهُ: وأدْخِلْ يَدَكَ في جَيْبِكَ تَدْخُلْ وأخْرِجْها تَخْرُجْ، فَحُذِفَ مِنَ الأوَّلِ ما أُثْبِتَ مُقابِلُهُ في الثّانِي، ومِنَ الثّانِي ما أُثْبِتَ مُقابِلُهُ في الأوَّلِ، فَيَكُونُ في الكَلامِ صَنْعَةُ الِاحْتِباكِ، وهو تَكَلُّفٌ لا حاجَةَ إلَيْهِ. وقَوْلَهُ تَعالى: ﴿بَيْضاءَ﴾ حالٌ، وكَذا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن غَيْرِ سُوءٍ﴾ وهو احْتِراسٌ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ فِيهِ، وكَذا قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿فِي تِسْعِ آياتٍ﴾ أيْ: آيَةً مَعْدُودَةً مِن جُمْلَةِ تِسْعِ آياتٍ، أوْ مُعْجِزَةً لَكَ مَعَها، عَلى أنَّ التِّسْعَ هِيَ: الفَلْقُ والطُّوفانُ والجَرادُ والقُمَّلُ والضَّفادِعُ والدَّمُ والطِّمْسَةُ - وهي جَعْلُ أسْبابِهِمْ حِجارَةً - والجَدْبُ في بَوادِيهِمْ، والنُّقْصانُ في مَزارِعِهِمْ، ولِمَن عَدَّ العَصا واليَدَ مِنَ التِّسْعِ أنْ يَعُدَّ الجَدْبَ والنُّقْصانَ في المَزارِعِ واحِدًا، ولا يَعُدَّ الفَلْقَ مِنها؛ لِأنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - لَمْ يُبْعَثْ بِهِ إلى فِرْعَوْنَ، وإنَّ تَقَدَّمَهُ بِيَسِيرٍ، ومَن عَدَّهُ يَقُولُ: يَكْفِي مُعايَنَتُهُ لَهُ في البَعْثِ بِهِ، أوْ هو بَعْثٌ بِهِ لِمَن آمَنَ مِن قَوْمِهِ ولِمَن تَخَلَّفَ مِنَ القِبْطِ ولَمْ يُؤْمِن، وفي التَّقْرِيبِ أنَّ الطِّمْسَةَ والجَدْبَ والنُّقْصانَ يَرْجِعُ إلى شَيْءٍ واحِدٍ، فالتِّسْعُ هَذا الواحِدُ والعَصا واليَدُ وما بَقِيَ مِنَ المَذْكُوراتِ. وذَهَبَ صاحِبُ الفَرائِدِ إلى أنَّ الجَرادَ والقُمَّلَ واحِدٌ، والجَدْبَ والنُّقْصانَ واحِدٌ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ (فِي تِسْعٍ) مُنْقَطِعًا عَمّا قَبْلَهُ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ أيِ: اذْهَبْ في تِسْعِ آياتٍ، ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى بَعْدُ: ﴿فَلَمّا جاءَتْهم آياتُنا﴾ وفي بِمَعْنى مَعَ، ونَظِيرُ هَذا الحَذْفِ ما في قَوْلِهِ: ؎أتَوْا نارِي فَقُلْتُ مَنُونَ أنْتُمْ فَقالُوا الجِنُّ قُلْتُ عَمُوا ظَلامًا ؎وقُلْتُ إلى الطَّعامِ فَقالَ مِنهم ∗∗∗ فَرِيقٌ يَحْسُدُ الإنْسَ الطَّعاما فَإنَّ التَّقْدِيرَ هَلُمُّوا إلى الطَّعامِ، ويَتَعَلَّقُ بِهَذا المَحْذُوفِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلى فِرْعَوْنَ وقَوْمِهِ﴾ وعَلى ما تَقَدَّمَ يَتَعَلَّقُ (p-168)بِمَحْذُوفٍ وقَعَ حالًا، أيْ مَبْعُوثًا أوْ مُرْسَلًا إلى فِرْعَوْنَ، وأيًّا ما كانَ فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّهم كانُوا قَوْمًا فاسِقِينَ﴾ مُسْتَأْنَفٌ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا، كَأنَّهُ قِيلَ: لِمَ أرْسَلْتَ إلَيْهِمْ بِما ذُكِرَ؟ فَقِيلَ: إنَّهم إلَخْ، والمُرادُ بِالفِسْقِ إمّا الخُرُوجُ عَمّا ألْزَمَهُمُ الشَّرْعُ إيّاهُ إنْ قُلْنا بِأنَّهم قَدْ أُرْسِلَ قَبْلَ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - مَن يَلْزَمُهُمُ اتِّباعُهُ وهو يُوسُفُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وإمّا الخُرُوجُ عَمّا ألْزَمَهُ العَقْلُ واقْتِضاءُ الفِطْرَةِ إنْ قُلْنا بِأنَّهُ لَمْ يُرْسَلْ إلَيْهِمْ أحَدٌ قَبْلَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب