الباحث القرآني

قَوْلُهُ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿واسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ وإنَّها لَكَبِيرَةٌ إلّا عَلى الخاشِعِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أنَّهم مُلاقُو رَبِّهِمْ وأنَّهم إلَيْهِ راجِعُونَ﴾ المَسْألَةُ الأُولى: اخْتَلَفُوا في المُخاطَبِينَ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿واسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ﴾ فَقالَ قَوْمٌ: هُمُ المُؤْمِنُونَ بِالرَّسُولِ، قالَ: لِأنَّ مَن يُنْكِرُ الصَّلاةَ أصْلًا والصَّبْرَ عَلى دِينِ مُحَمَّدٍ ﷺ لا يَكادُ يُقالُ لَهُ: اسْتَعِنْ بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ، فَلا جَرَمَ وجَبَ صَرْفُهُ إلى مَن صَدَّقَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، ولا يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ الخِطابُ أوَّلًا في بَنِي إسْرائِيلَ ثُمَّ يَقَعُ بَعْدَ ذَلِكَ خِطابًا لِلْمُؤْمِنِينَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، والأقْرَبُ أنَّ المُخاطَبِينَ هم بَنُو إسْرائِيلَ؛ لِأنَّ صَرْفَ الخِطابِ إلى غَيْرِهِمْ يُوجِبُ تَفْكِيكَ النَّظْمِ. فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ يُؤْمَرُونَ بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ مَعَ كَوْنِهِمْ مُنْكِرِينَ لَهُما ؟ قُلْنا: لا نُسَلِّمُ كَوْنَهم مُنْكِرِينَ لَهُما؛ وذَلِكَ لِأنَّ كُلَّ أحَدٍ يَعْلَمُ أنَّ الصَّبْرَ عَلى ما يَجِبُ الصَّبْرُ عَلَيْهِ حَسَنٌ، وأنَّ الصَّلاةَ الَّتِي هي تَواضُعٌ لِلْخالِقِ والِاشْتِغالُ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعالى يُسَلِّي عَنْ مِحَنِ الدُّنْيا وآفاتِها، وإنَّما الِاخْتِلافُ في الكَيْفِيَّةِ فَإنَّ صَلاةَ اليَهُودِ واقِعَةٌ عَلى كَيْفِيَّةٍ، وصَلاةَ المُسْلِمِينَ عَلى كَيْفِيَّةٍ أُخْرى. وإذا كانَ مُتَعَلِّقُ الأمْرِ هو الماهِيَّةَ الَّتِي هي القَدْرُ المُشْتَرَكُ زالَ الإشْكالُ المَذْكُورُ، وعَلى هَذا نَقُولُ: إنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَهم بِالإيمانِ وبِتَرْكِ الإضْلالِ وبِالتِزامِ الشَّرائِعِ وهي الصَّلاةُ والزَّكاةُ، وكانَ ذَلِكَ شاقًّا عَلَيْهِمْ لِما فِيهِ مِن تَرْكِ الرِّياساتِ والإعْراضِ عَنِ المالِ والجاهِ لا جَرَمَ عالَجَ اللَّهُ تَعالى هَذا المَرَضَ فَقالَ: ﴿واسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ﴾ . * * * المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ذَكَرُوا في الصَّبْرِ والصَّلاةِ وُجُوهًا: أحَدُها: كَأنَّهُ قِيلَ واسْتَعِينُوا عَلى تَرْكِ ما تُحِبُّونَ مِنَ الدُّنْيا والدُّخُولِ فِيما تَسْتَثْقِلُهُ طِباعُكم مِن قَبُولِ دِينِ مُحَمَّدٍ ﷺ بِالصَّبْرِ، أيْ بِحَبْسِ النَّفْسِ عَنِ اللَّذّاتِ فَإنَّكم إذا كَلَّفْتُمْ أنْفُسَكم ذَلِكَ مُرِّنَتْ عَلَيْهِ وخَفَّ عَلَيْها، ثُمَّ إذا ضَمَمْتُمُ الصَّلاةَ إلى ذَلِكَ تَمَّ الأمْرُ؛ لِأنَّ المُشْتَغِلَ بِالصَّلاةِ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ مُشْتَغِلًا بِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ وذِكْرِ جَلالِهِ وقَهْرِهِ وذِكْرِ رَحْمَتِهِ وفَضْلِهِ، فَإذا تَذَكَّرَ رَحْمَتَهُ صارَ مائِلًا إلى طاعَتِهِ، وإذا تَذَكَّرَ عِقابَهُ تَرَكَ مَعْصِيَتَهُ، فَيَسْهُلُ عِنْدَ ذَلِكَ اشْتِغالُهُ بِالطّاعَةِ وتَرْكُهُ لِلْمَعْصِيَةِ. وثانِيها: المُرادُ مِنَ الصَّبْرِ هَهُنا هو الصَّوْمُ؛ لِأنَّ الصّائِمَ صابِرٌ عَنِ الطَّعامِ والشَّرابِ، ومَن حَبَسَ نَفْسَهُ عَنْ قَضاءِ شَهْوَةِ البَطْنِ والفَرْجِ زالَتْ عَنْهُ كُدُوراتُ حُبِّ الدُّنْيا، فَإذا انْضافَ إلَيْهِ الصَّلاةُ اسْتَنارَ القَلْبُ بِأنْوارِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعالى، وإنَّما قَدَّمَ الصَّوْمَ عَلى الصَّلاةِ؛ لِأنَّ تَأْثِيرَ الصَّوْمِ في إزالَةِ ما لا يَنْبَغِي وتَأْثِيرَ الصَّلاةِ في حُصُولِ ما يَنْبَغِي، والنَّفْيُ مُقَدَّمٌ عَلى الإثْباتِ، ولِأنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ: ”«الصَّوْمُ جُنَّةٌ مِنَ النّارِ» “ وقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: ٤٥] لِأنَّ الصَّلاةَ تَمْنَعُ عَنِ الِاشْتِغالِ بِالدُّنْيا، وتُخَشِّعُ القَلْبَ، ويَحْصُلُ بِسَبَبِها تِلاوَةُ الكِتابِ والوُقُوفُ عَلى ما فِيهِ مِنَ الوَعْدِ والوَعِيدِ والمَواعِظِ والآدابِ الجَمِيلَةِ، وذِكْرِ مَصِيرِ الخَلْقِ إلى دارِ الثَّوابِ أوْ دارِ العِقابِ رَغْبَةً في الآخِرَةِ، ونُفْرَةً عَنِ الدُّنْيا، فَيَهُونُ عَلى الإنْسانِ حِينَئِذٍ تَرْكُ الرِّياسَةِ، ومَقْطَعَةً عَنِ المَخْلُوقِينَ إلى قِبْلَةِ خِدْمَةِ الخالِقِ ونَظِيرُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ تَعالى: (p-٤٧)﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصّابِرِينَ﴾ [البقرة: ١٥٣] . أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنَّها﴾ فَفي هَذا الضَّمِيرِ وُجُوهٌ: أحَدُها: الضَّمِيرُ عائِدٌ إلى الصَّلاةِ أيْ صَلاةٌ ثَقِيلَةٌ إلّا عَلى الخاشِعِينَ. وثانِيها: الضَّمِيرُ عائِدٌ إلى الِاسْتِعانَةِ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْها قَوْلُهُ: ﴿واسْتَعِينُوا﴾ . وثالِثُها: أنَّهُ عائِدٌ إلى جَمِيعِ الأُمُورِ الَّتِي أُمِرَ بِها بَنُو إسْرائِيلَ ونُهُوا عَنْها مِن قَوْلِهِ: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿واسْتَعِينُوا﴾ والعَرَبُ قَدْ تُضْمِرُ الشَّيْءَ اخْتِصارًا أوْ تَقْتَصِرُ فِيهِ عَلى الإيماءِ إذا وثِقَتْ بِعِلْمِ المُخاطَبِ فَيَقُولُ القائِلُ: ما عَلَيْها أفْضَلُ مِن فُلانٍ يَعْنِي الأرْضَ، ويَقُولُونَ: ما بَيْنَ لابَتَيْها أكْرَمُ مِن فُلانٍ، يَعْنُونَ المَدِينَةَ، وقالَ تَعالى: ﴿ولَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِن دابَّةٍ﴾ [النحل: ٦١] ولا ذِكْرَ لِلْأرْضِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿لَكَبِيرَةٌ﴾ أيْ لَشاقَّةٌ ثَقِيلَةٌ عَلى هَؤُلاءِ سَهْلَةٌ عَلى الخاشِعِينَ فَيَجِبُ أنْ يَكُونَ ثَوابُهم أكْثَرَ وثَوابُ الخاشِعِ أقَلَّ، وذَلِكَ مُنْكَرٌ مِنَ القَوْلِ، قُلْنا: لَيْسَ المُرادُ أنَّ الَّذِي يَلْحَقُهم مِنَ التَّعَبِ أكْثَرُ مِمّا يَلْحَقُ الخاشِعَ، وكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ والخاشِعُ يَسْتَعْمِلُ عِنْدَ الصَّلاةِ جَوارِحَهُ وقَلْبَهُ وسَمْعَهُ وبَصَرَهُ ولا يَغْفُلُ عَنْ تَدَبُّرِ ما يَأْتِي بِهِ مِنَ الذِّكْرِ والتَّذَلُّلِ والخُشُوعِ، وإذا تَذَكَّرَ الوَعِيدَ لَمْ يَخْلُ مِن حَسْرَةٍ وغَمٍّ، وإذا ذَكَرَ الوَعْدَ فَكَمِثْلِ ذَلِكَ، وإذا كانَ هَذا فِعْلَ الخاشِعِ فالثِّقَلُ عَلَيْهِ بِفِعْلِ الصَّلاةِ أعْظَمُ، وإنَّما المُرادُ بِقَوْلِهِ: وإنَّها ثَقِيلَةٌ عَلى مَن لَمْ يَخْشَعْ أنَّهُ مِن حَيْثُ لا يَعْتَقِدُ في فِعْلِها ثَوابًا ولا في تَرْكِها عِقابًا فَيَصْعُبُ عَلَيْهِ فِعْلُها. فالحاصِلُ أنَّ المُلْحِدَ إذا لَمْ يَعْتَقِدْ في فِعْلِها مَنفَعَةً ثَقُلَ عَلَيْهِ فِعْلُها؛ لِأنَّ الِاشْتِغالَ بِما لا فائِدَةَ فِيهِ يَثْقُلُ عَلى الطَّبْعِ، أمّا المُوَحِّدُ فَلَمّا اعْتَقَدَ في فِعْلِها أعْظَمَ المَنافِعِ وفي تَرْكِها أعْظَمَ المَضارِّ لَمْ يَثْقُلْ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِما يَعْتَقِدُ في فِعْلِهِ مِنَ الثَّوابِ والفَوْزِ العَظِيمِ بِالنَّعِيمِ المُقِيمِ والخَلاصِ مِنَ العَذابِ الألِيمِ، ألا تَرى إلى قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أنَّهم مُلاقُو رَبِّهِمْ﴾ أيْ يَتَوَقَّعُونَ نَيْلَ ثَوابِهِ والخَلاصَ مِن عِقابِهِ. مِثالُهُ إذا قِيلَ لِلْمَرِيضِ: كُلْ هَذا الشَّيْءَ المُرَّ، فَإنِ اعْتَقَدَ أنَّ لَهُ فِيهِ شِفاءً سَهُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وإنْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ فِيهِ صَعُبَ الأمْرُ عَلَيْهِ، وعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«وجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي في الصَّلاةِ» “ وصَفَ الصَّلاةَ بِذَلِكَ لِلْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْناها لا لِأنَّها كانَتْ لا تَثْقُلُ عَلَيْهِ، وكَيْفَ وكانَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يُصَلِّي حَتّى تَوَرَّمَتْ قَدَماهُ. وأمّا الخُشُوعُ فَهو التَّذَلُّلُ والخُضُوعُ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أنَّهم مُلاقُو رَبِّهِمْ﴾ فَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ قَوْلانِ: القَوْلُ الأوَّلُ: أنَّ الظَّنَّ بِمَعْنى العِلْمِ قالُوا: لِأنَّ الظَّنَّ وهو الِاعْتِقادُ الَّذِي يُقارِنُهُ تَجْوِيزُ النَّقِيضِ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ صاحِبُهُ غَيْرَ جازِمٍ بِيَوْمِ القِيامَةِ وذَلِكَ كُفْرٌ، واللَّهُ تَعالى مَدَحَ عَلى هَذا الظَّنِّ، والمَدْحُ عَلى الكُفْرِ غَيْرُ جائِزٍ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الظَّنِّ هَهُنا العِلْمَ، وسَبَبُ هَذا المَجازِ أنَّ العِلْمَ والظَّنَّ يَشْتَرِكانِ في كَوْنِ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما اعْتِقادًا راجِحًا إلّا أنَّ العِلْمَ راجِحٌ مانِعٌ مِنَ النَّقِيضِ، والظَّنَّ راجِحٌ غَيْرُ مانِعٍ مِنَ النَّقِيضِ فَلَمّا اشْتَبَها مِن هَذا الوَجْهِ صَحَّ إطْلاقُ اسْمِ أحَدِهِما عَلى الآخَرِ، قالَ أوْسُ بْنُ حَجَرٍ: ؎فَأرْسَلَهُ مُسْتَيْقِنَ الظَّنِّ أنَّهُ مُخالِطُ ما بَيْنَ الشَّراسِيفِ جائِفُ وقالَ تَعالى: ﴿إنِّي ظَنَنْتُ أنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ﴾ [الحاقة: ٢٠] وقالَ: ﴿ألا يَظُنُّ أُولَئِكَ أنَّهم مَبْعُوثُونَ﴾ [المطففين: ٤] ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ إنْكارًا عَلَيْهِمْ وبَعْثًا عَلى الظَّنِّ، ولا يَجُوزُ أنْ يَبْعَثَهم عَلى الِاعْتِقادِ المُجَوِّزِ لِلنَّقِيضِ فَثَبَتَ أنَّ المُرادَ بِالظَّنِّ هَهُنا العِلْمُ. (p-٤٨)القَوْلُ الثّانِي: أنْ يُحْمَلَ اللَّفْظُ عَلى ظاهِرِهِ وهو الظَّنُّ الحَقِيقِيُّ، ثُمَّ هَهُنا وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنْ تُجْعَلَ مُلاقاةُ الرَّبِّ مَجازًا عَنِ المَوْتِ، وذَلِكَ لِأنَّ مُلاقاةَ الرَّبِّ مُسَبَّبٌ عَنِ المَوْتِ فَأطْلَقَ المُسَبِّبَ والمُرادُ مِنهُ السَّبَبُ، وهَذا مَجازٌ مَشْهُورٌ فَإنَّهُ يُقالُ لِمَن ماتَ: إنَّهُ لَقِيَ رَبَّهُ. إذْ ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: وإنَّها لَكَبِيرَةٌ إلّا عَلى الخاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ المَوْتَ في كُلِّ لَحْظَةٍ، وذَلِكَ لِأنَّ كُلَّ مَن كانَ مُتَوَقِّعًا لِلْمَوْتِ في كُلِّ لَحْظَةٍ فَإنَّهُ لا يُفارِقُ قَلْبَهُ الخُشُوعُ، فَهم يُبادِرُونَ إلى التَّوْبَةِ؛ لِأنَّ خَوْفَ المَوْتِ مِمّا يُقَوِّي دَواعِيَ التَّوْبَةِ مَعَ خُشُوعِهِ، لا بُدَّ في كُلِّ حالٍ مِن أنْ لا يَأْمَنَ تَقْصِيرًا جَرى مِنهُ فَيُلْزِمَهُ التَّلافِيَ، فَإذا كانَ حالُهُ ما ذَكَرْنا كانَ ذَلِكَ داعِيًا لَهُ إلى المُبادَرَةِ إلى التَّوْبَةِ. الثّانِي: أنْ تُفَسَّرَ مُلاقاةُ الرَّبِّ بِمُلاقاةِ ثَوابِ الرَّبِّ، وذَلِكَ مَظْنُونٌ لا مَعْلُومٌ فَإنَّ الزّاهِدَ العابِدَ لا يَقْطَعُ بِكَوْنِهِ مُلاقِيًا لِثَوابِ اللَّهِ، بَلْ يَظُنُّ إلّا أنَّ ذَلِكَ الظَّنَّ مِمّا يَحْمِلُهُ عَلى كَمالِ الخُشُوعِ. الثّالِثُ: المَعْنى الَّذِينَ يَظُنُّونَ أنَّهم مُلاقُو رَبِّهِمْ بِذُنُوبِهِمْ فَإنَّ الإنْسانَ الخاشِعَ قَدْ يُسِيءُ ظَنَّهُ بِنَفْسِهِ وبِأعْمالِهِ فَيَغْلِبُ عَلى ظَنِّهِ أنَّهُ يَلْقى اللَّهَ تَعالى بِذُنُوبِهِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يُسارِعُ إلى التَّوْبَةِ وذَلِكَ مِن صِفاتِ المَدْحِ. بَقِيَ هُنا مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: اسْتَدَلَّ بَعْضُ الأصْحابِ بِقَوْلِهِ: ﴿مُلاقُو رَبِّهِمْ﴾ عَلى جَوازِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعالى، وقالَتِ المُعْتَزِلَةُ: لَفْظُ اللِّقاءِ لا يُفِيدُ الرُّؤْيَةَ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ الآيَةُ والخَبَرُ والعُرْفُ. أمّا الآيَةُ فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأعْقَبَهم نِفاقًا في قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾ [الفرقان: ٦٨] والمُنافِقُ لا يَرى رَبَّهُ، وقالَ: ﴿ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أثامًا﴾ [الفرقان: ٦٨] وقالَ تَعالى في مَعْرِضِ التَّهْدِيدِ: ﴿واتَّقُوا اللَّهَ واعْلَمُوا أنَّكم مُلاقُوهُ﴾ [البقرة: ٢٢٣] فَهَذا يَتَناوَلُ الكافِرَ والمُؤْمِنَ، والرُّؤْيَةُ لا تَثْبُتُ لِلْكافِرِ، فَعَلِمْنا أنَّ اللِّقاءَ لَيْسَ عِبارَةً عَنِ الرُّؤْيَةِ. وأمّا الخَبَرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«مَن حَلَفَ عَلى يَمِينٍ لِيَقْتَطِعَ بِها مالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وهو عَلَيْهِ غَضْبانُ» “ ولَيْسَ المُرادُ رَأى اللَّهَ تَعالى؛ لِأنَّ ذَلِكَ وصْفُ أهْلِ النّارِ، وأمّا العُرْفُ فَهو قَوْلُ المُسْلِمِينَ فِيمَن ماتَ: لَقِيَ اللَّهَ، ولا يَعْنُونَ أنَّهُ رَأى اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ، وأيْضًا فاللِّقاءُ يُرادُ بِهِ القُرْبُ مِمَّنْ يَلْقاهُ عَلى وجْهٍ يَزُولُ الحِجابُ بَيْنَهُما، ولِذَلِكَ يَقُولُ الرَّجُلُ إذا حُجِبَ عَنِ الأمِيرِ: ما لَقِيتُهُ بَعْدُ وإنْ كانَ قَدْ رَآهُ، وإذا أُذِنَ لَهُ في الدُّخُولِ عَلَيْهِ يَقُولُ: لَقِيتُهُ، وإنْ كانَ ضَرِيرًا، ويُقالُ: لَقِيَ فُلانٌ جَهْدًا شَدِيدًا ولَقِيتُ مِن فُلانٍ الدّاهِيَةَ، ولاقى فُلانٌ حِمامَهُ، وكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ اللِّقاءَ لَيْسَ عِبارَةً عَنِ الرُّؤْيَةِ ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فالتَقى الماءُ عَلى أمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾ [القمر: ١٢] وهَذا إنَّما يَصِحُّ في حَقِّ الجِسْمِ ولا يَصِحُّ عَلى اللَّهِ تَعالى. قالَ الأصْحابُ: اللِّقاءُ في أصْلِ اللُّغَةِ عِبارَةٌ عَنْ وُصُولِ أحَدِ الجِسْمَيْنِ إلى الآخَرِ بِحَيْثُ يُماسُّهُ بِمُسَطَّحَةٍ يُقالُ: لَقِيَ هَذا ذاكَ إذا ماسَّهُ واتَّصَلَ بِهِ، ولَمّا كانَتِ المُلاقاةُ بَيْنَ الجِنْسَيْنِ المُدْرِكَيْنِ سَبَبًا لِحُصُولِ الإدْراكِ فَحَيْثُ يَمْتَنِعُ إجْراءُ اللَّفْظِ عَلى المُماسَّةِ وجَبَ حَمْلُهُ عَلى الإدْراكِ؛ لِأنَّ إطْلاقَ لَفْظِ السَّبَبِ عَلى المُسَبِّبِ مِن أقْوى وُجُوهِ المَجازِ، فَثَبَتَ أنَّهُ يَجِبُ حَمْلُهُ لَفْظَ اللِّقاءِ عَلى الإدْراكِ، أكْثَرُ ما في البابِ أنَّهُ تَرَكَ هَذا المَعْنى في بَعْضِ الصُّوَرِ لِدَلِيلٍ يَخُصُّهُ فَوَجَبَ إجْراؤُهُ عَلى الإدْراكِ في البَواقِي، وعَلى هَذا التَّقْرِيرِ زالَتِ السُّؤالاتُ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿فَأعْقَبَهم نِفاقًا في قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾ [التوبة: ٧٧] والمُنافِقُ لا يَرى رَبَّهُ، قُلْنا: فَلِأجْلِ هَذِهِ الضَّرُورَةِ المُرادُ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَ حِسابَهُ وحُكْمَهُ، إلّا أنَّ هَذا الإضْمارَ عَلى خِلافِ الدَّلِيلِ، وإنَّما يُصارُ إلَيْهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، فَفي هَذا المَوْضِعِ لَمّا اضْطُرِرْنا إلَيْهِ اعْتَبَرْناهُ، وأمّا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنَّهم مُلاقُو رَبِّهِمْ﴾ لا ضَرُورَةَ في صَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ ظاهِرِهِ ولا في إضْمارِ هَذِهِ الزِّيادَةِ فَلا جَرَمَ وجَبَ تَعْلِيقُ اللِّقاءِ بِاللَّهِ (p-٤٩)تَعالى لا بِحُكْمِ اللَّهِ، فَإنِ اشْتَغَلُوا بِذِكْرِ الدَّلائِلِ العَقْلِيَّةِ الَّتِي تَمْنَعُ مِن جَوازِ الرُّؤْيَةِ بَيَّنّا ضَعْفَها وحِينَئِذٍ يَسْتَقِيمُ التَّمَسُّكُ بِالظّاهِرِ مِن هَذا الوَجْهِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: المُرادُ مِنَ الرُّجُوعِ إلى اللَّهِ تَعالى الرُّجُوعُ إلى حَيْثُ يَكُونُ لَهم مالِكٌ سِواهُ، وأنْ لا يَمْلِكَ لَهم أحَدٌ نَفْعًا ولا ضَرًّا غَيْرَهُ كَما كانُوا كَذَلِكَ في أوَّلِ الخَلْقِ، فَجَعَلَ مَصِيرَهم إلى مِثْلِ ما كانُوا عَلَيْهِ أوَّلًا رُجُوعًا إلى اللَّهِ مِن حَيْثُ كانُوا في سائِرِ أيّامِ حَياتِهِمْ، قَدْ يَمْلِكُ غَيْرُهُ الحُكْمَ عَلَيْهِمْ ويَمْلِكُ أنْ يَضُرَّهم ويَنْفَعَهم وإنْ كانَ اللَّهُ تَعالى مالِكًا لَهم في جَمِيعِ أحْوالِهِمْ، وقَدِ احْتَجَّ بِهَذِهِ الآيَةِ فَرِيقانِ مِنَ المُبْطِلِينَ: الأوَّلُ: المُجَسِّمَةُ، فَإنَّهم قالُوا: الرُّجُوعُ إلى غَيْرِ الجِسْمِ مُحالٌ، فَلَمّا ثَبَتَ الرُّجُوعُ إلى اللَّهِ وجَبَ كَوْنُ اللَّهِ جِسْمًا. الثّانِي: التَّناسُخِيَّةُ، فَإنَّهم قالُوا: الرُّجُوعُ إلى الشَّيْءِ مَسْبُوقٌ بِالكَوْنِ عِنْدَهُ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى كَوْنِ الأرْواحِ قَدِيمَةً وأنَّها كانَتْ مَوْجُودَةً في عالَمِ الرُّوحانِيّاتِ. والجَوابُ عَنْها قَدْ حَصَلَ بِناءً عَلى ما تَقَدَّمَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب