الباحث القرآني

﴿واسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ﴾: تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَعانِي اسْتَفْعَلَ عِنْدَ ذِكْرِ المادَّةِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥]، وأنَّ مِن تِلْكَ المَعانِي الطَّلَبَ، وأنَّ اسْتَعانَ مَعْناهُ طَلَبَ المَعُونَةَ، وظاهِرُ الصَّبْرِ أنَّهُ يُرادُ بِهِ ما يَقَعُ عَلَيْهِ في اللُّغَةِ. وقالَ مُجاهِدٌ: الصَّبْرُ: الصَّوْمُ، والصَّوْمُ: صَبْرٌ؛ لِأنَّهُ إمْساكٌ عَنِ الطَّعامِ، وسُمِّيَ رَمَضانُ شَهْرَ الصَّبْرِ. والصَّلاةُ: هي المَفْرُوضَةُ مَعَ ما يَتْبَعُها مِنَ السُّنَنِ والنَّوافِلِ، قالَهُ مُجاهِدٌ، وقِيلَ: الصَّلاةُ الدُّعاءُ وقَدْ أضْمَرُوا لِلصَّبْرِ صِلَةً تُقَيِّدُهُ، فَقِيلَ: بِالصَّبْرِ عَلى ما تَكْرَهُهُ نُفُوسُكم مِنَ الطّاعَةِ والعَمَلِ، أوْ عَلى أداءِ الفَرائِضِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. أوْ عَنِ المَعاصِي، أوْ عَلى تَرْكِ الرِّياسَةِ، أوْ عَلى الطّاعاتِ وعَنِ الشَّهَواتِ، أوْ عَلى حَوائِجِكم إلى اللَّهِ، أوْ عَلى الصَّلاةِ. ولَمّا قُدِّرَ هَذا التَّقْدِيرُ، أعْنِي بِالصَّبْرِ عَلى الصَّلاةِ، تَوَهَّمَ بَعْضُ مَن تَكَلَّمَ عَلى القُرْآنِ، أنَّ الواوَ الَّتِي في الصَّلاةِ هُنا بِمَعْنى عَلى، وإنَّما يُرِيدُ قائِلُ هَذا أنَّهم أُمِرُوا بِالِاسْتِعانَةِ بِالصَّبْرِ عَلى الصَّلاةِ بِالصَّلاةِ؛ لِأنَّ الواوَ بِمَعْنى عَلى، ويَكُونُ يَنْظُرُ إلى قَوْلِهِ: ﴿وأْمُرْ أهْلَكَ بِالصَّلاةِ واصْطَبِرْ عَلَيْها﴾ [طه: ١٣٢] وأُمِرُوا بِالِاسْتِعانَةِ بِالصَّلاةِ؛ لِأنَّهُ يُتْلى فِيها ما يُرَغِّبُ في الآخِرَةِ ويُزَهِّدُ في الدُّنْيا، أوْ لِما فِيها مِن تَمْحِيصِ الذُّنُوبِ وتَرْقِيقِ القُلُوبِ، أوْ لِما فِيها مِن إزالَةِ الهُمُومِ، ومِنهُ الحَدِيثُ: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ، ﷺ، إذا حَزَبَهُ أمْرٌ فَزِعَ إلى الصَّلاةِ» . وقَدْ رُوِيَ أنَّ ابْنَ عَبّاسٍ نُعِيَ إلَيْهِ قُثَمٌ أخُوهُ، فَقامَ يُصَلِّي، وتَلا: ﴿واسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ﴾ أوْ لِما فِيها مِنَ النَّهْيِ عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ، وكُلُّ هَذِهِ الوُجُوهِ ذَكَرُوها، وقُدِّمَ الصَّبْرُ عَلى الصَّلاةِ، قِيلَ: لِأنَّ تَأْثِيرَ الصَّبْرِ في إزالَةِ ما لا يَنْبَغِي، وتَأْثِيرَ الصَّلاةِ في حُصُولِ ما يَنْبَغِي، والنَّفْيُ مُقَدَّمٌ عَلى الإثْباتِ، ويَظْهَرُ أنَّهُ قَدَّمَ الِاسْتِعانَةَ بِهِ عَلى الِاسْتِعانَةِ بِالصَّلاةِ؛ لِأنَّهُ سَبَقَ ذِكْرُ تَكالِيفٍ عَظِيمَةٍ شاقٍّ فِراقُها عَلى مَن ألِفَها واعْتادَها مِن ذِكْرِ ما نَسُوهُ والإيفاءِ بِما أخْلَفُوهُ والإيمانِ بِكِتابٍ مُتَجَدِّدٍ وتَرْكِ أخْذِهِمُ الرِّشا عَلى آياتِ اللَّهِ وتَرْكِهِمْ إلْباسَ الحَقِّ بِالباطِلِ وكَتْمِ الحَقِّ الَّذِي لَهم بِذَلِكَ الرِّياسَةُ في الدُّنْيا والِاسْتِتْباعُ لِعَوامِّهِمْ، وإقامِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، وهَذِهِ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ، فَكانَتِ البَداءَةُ بِالصَّبْرِ لِذَلِكَ، ولَمّا كانَ عَمُودُ الإسْلامِ هو الصَّلاةَ، وبِها يَتَمَيَّزُ المُسْلِمُ مِنَ المُشْرِكِ، أتْبَعَ الصَّبْرَ بِها؛ (p-١٨٥)إذْ يَحْصُلُ بِها الِاشْتِغالُ عَنِ الدُّنْيا، وبِالتِّلاوَةِ فِيها الوُقُوفُ عَلى ما تَضَمَّنَهُ كِتابُ اللَّهِ مِنَ الوَعْدِ والوَعِيدِ، والمَواعِظِ والآدابِ، ومَصِيرُ الخَلْقِ إلى دارِ الجَزاءِ، فَيَرْغَبُ المُشْتَغِلُ بِها في الآخِرَةِ، ويَرْغَبُ عَنِ الدُّنْيا. وناهِيكَ مِن عِبادَةٍ تَتَكَرَّرُ عَلى الإنْسانِ في اليَوْمِ واللَّيْلِ خَمْسَ مَرّاتٍ، يُناجِي فِيها رَبَّهُ ويَسْتَغْفِرُ ذَنْبَهُ، وبِهَذا الَّذِي ذَكَرْناهُ تَظْهَرُ الحِكْمَةُ في أنْ أُمِرُوا بِالِاسْتِعانَةِ بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ، ويَبْعُدُ دَعْوى مَن قالَ: إنَّهُ خِطابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِرَسُولِ اللَّهِ، ﷺ، قالَ: لِأنَّ مَن يُنْكِرُهُ لا يَكادُ يُقالُ لَهُ اسْتَعِنْ بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ. قالَ: ولا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ الخِطابُ أوَّلًا لِبَنِي إسْرائِيلَ، ثُمَّ يَقَعُ بَعْدُ الخِطابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، والَّذِي يَظْهَرُ أنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ خِطابٌ لِبَنِي إسْرائِيلَ؛ لِأنَّ صَرْفَ الخِطابِ إلى غَيْرِهِمْ لِغَيْرِ مُوجِبٍ، ثُمَّ يَخْرُجُ عَنْ نَظْمِ الفَصاحَةِ. ﴿وإنَّها لَكَبِيرَةٌ﴾: الضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى الصَّلاةِ. هَذا ظاهِرُ الكَلامِ، وهو القاعِدَةُ في عِلْمِ العَرَبِيَّةِ: أنَّ ضَمِيرَ الغائِبِ لا يَعُودُ عَلى غَيْرِ الأقْرَبِ إلّا بِدَلِيلٍ، وقِيلَ: يَعُودُ عَلى الِاسْتِعانَةِ، وهو المَصْدَرُ المَفْهُومُ مِن قَوْلِهِ: (واسْتَعِينُوا)، فَيَكُونُ مِثْلَ ﴿اعْدِلُوا هو أقْرَبُ لِلتَّقْوى﴾ [المائدة: ٨]، أيْ العَدْلُ أقْرَبُ، قالَهُ البَجَلِيُّ. وقِيلَ: يَعُودُ عَلى إجابَةِ رَسُولِ اللَّهِ، ﷺ؛ لِأنَّ الصَّبْرَ والصَّلاةَ مِمّا كانَ يَدْعُو إلَيْهِ، قالَهُ الأخْفَشُ. وقِيلَ: عَلى العِبادَةِ الَّتِي يَتَضَمَّنُها بِالمَعْنى ذِكْرُ الصَّبْرِ والصَّلاةِ، وقِيلَ: يَعُودُ عَلى الكَعْبَةِ؛ لِأنَّ الأمْرَ بِالصَّلاةِ إلَيْها. وقِيلَ: يَعُودُ عَلى جَمِيعِ الأُمُورِ الَّتِي أُمِرَ بِها بَنُو إسْرائِيلَ ونُهُوا عَنْها، مِن قَوْلِهِ: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ﴾ [البقرة: ٤٧] إلى (واسْتَعِينُوا) . وقِيلَ: المَعْنى عَلى التَّثْنِيَةِ، واكْتَفى بِعَوْدِهِ عَلى أحَدِهِما، فَكَأنَّهُ قالَ: (وإنَّهُما) كَقَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ ولا يُنْفِقُونَها﴾ [التوبة: ٣٤] في بَعْضِ التَّأْوِيلاتِ، وكَقَوْلِهِ: ﴿واللَّهُ ورَسُولُهُ أحَقُّ أنْ يُرْضُوهُ﴾ [التوبة: ٦٢]، وقَوْلِ الشّاعِرِ: ؎إنْ شَرْخَ الشَّبابِ والشَّعَرَ الأسْ ودَ ما لَمْ يُعاصَ كانَ جُنُونا فَهَذِهِ سَبْعَةُ أقْوالٍ فِيما يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ، وأظْهَرُها ما بَدَأْنا بِهِ أوَّلًا، قالَ مُؤَرِّجٌ في عَوْدِ الضَّمِيرِ: لِأنَّ الصَّلاةَ أهَمُّ وأغْلَبُ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿انْفَضُّوا إلَيْها﴾ [الجمعة: ١١] . انْتَهى. يَعْنِي أنَّ مَيْلَ أُولَئِكَ الَّذِينَ انْصَرَفُوا في الجُمُعَةِ إلى التِّجارَةِ أهَمُّ وأغْلَبُ مِن مَيْلِهِمْ إلى اللَّهْوِ، فَلِذَلِكَ كانَ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَيْها، ولَيْسَ يَعْنِي أنَّ الضَّمِيرَيْنِ سَواءٌ في العَوْدِ؛ لِأنَّ العَطْفَ بِالواوِ يُخالِفُ العَطْفَ بَأوْ، فالأصْلُ في العَطْفِ بِالواوِ مُطابَقَةُ الضَّمِيرِ لِما قَبْلَهُ في تَثْنِيَةٍ وجَمْعٍ، وأمّا العَطْفُ بَأوْ فَلا يَعُودُ الضَّمِيرُ فِيهِ إلّا عَلى أحَدِ ما سَبَقَ، ومَعْنى كِبَرِ الصَّلاةِ: ثِقَلُها وصُعُوبَتُها عَلى مَن يَفْعَلُها مِثْلَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَبُرَ عَلى المُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهم إلَيْهِ﴾ [الشورى: ١٣]، أيْ شَقَّ ذَلِكَ وثَقُلَ. ﴿إلّا عَلى الخاشِعِينَ﴾: اسْتِثْناءٌ مُفَرَّغٌ؛ لِأنَّ المَعْنى: وإنَّها لَكَبِيرَةٌ عَلى كُلِّ أحَدٍ إلّا عَلى الخاشِعِينَ، وهُمُ المُتَواضِعُونَ المُسْتَكِينُونَ، وإنَّما لَمْ تَشُقَّ عَلى الخاشِعِينَ؛ لِأنَّها مُنْطَوِيَةٌ عَلى أوْصافٍ هم مُتَحَلُّونَ بِها لِخُشُوعِهِمْ مِنَ القِيامِ لِلَّهِ والرُّكُوعِ لَهُ والسُّجُودِ لَهُ والرَّجاءِ لِما عِنْدَهُ مِنَ الثَّوابِ، فَلَمّا كانَ مَآلُ أعْمالِهِمْ إلى السَّعادَةِ الأبَدِيَّةِ، سَهُلَ عَلَيْهِمْ ما صَعُبَ عَلى غَيْرِهِمْ مِنَ المُنافِقِينَ والمُرائِينَ بِأعْمالِهِمُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لَها نَفْعًا، ويَجُوزُ في (الَّذِينَ) الإتْباعُ والقَطْعُ إلى الرَّفْعِ أوِ النَّصْبِ، وذَلِكَ صِفَةُ مَدْحٍ، فالقَطْعُ أوْلى بِها، و(يَظُنُّونَ) مَعْناهُ: يُوقِنُونَ، قالَهُ الجُمْهُورُ؛ لِأنَّ مَن وُصِفَ بِالخُشُوعِ لا يَشُكُّ أنَّهُ مُلاقٍ رَبَّهُ ويُؤَيِّدُهُ أنَّ في مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ. وقِيلَ: مَعْناهُ الحُسْبانُ، فَيُحْتاجُ إلى مُصَحِّحٍ لِهَذا المَعْنى، وهو ما قَدَّرُوهُ مِنَ الحَذْفِ، وهو بِذُنُوبِهِمْ فَكَأنَّهم يَتَوَقَّعُونَ لِقاءَ رَبِّهِمْ مُذْنِبِينَ، والصَّحِيحُ هو الأوَّلُ، ومِثْلُهُ ﴿إنِّي ظَنَنْتُ أنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ﴾ [الحاقة: ٢٠]، فَظَنُّوا أنَّهم مُواقِعُوها. وقالَ دُرَيْدُ: ؎فَقُلْتُ لَهم ظُنُّوا بِألْفَيْ مُدَجَّجٍ ∗∗∗ سُراتُهم في السّائِرِيِّ المُسْرَدِ قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَدْ يُوقَعُ الظَّنُّ مَوْقِعَ اليَقِينِ في الأُمُورِ المُتَحَقِّقَةِ، لَكِنَّهُ لا يُوقَعُ فِيما قَدْ خَرَجَ إلى الحِسِّ. (p-١٨٦)لا تَقُولُ العَرَبُ في رَجُلٍ مَرْئِيٍّ حاضِرٍ: أظُنُّ هَذا إنْسانًا، وإنَّما نَجِدُ الِاسْتِعْمالَ فِيما لَمْ يَخْرُجْ إلى الحِسِّ. انْتَهى. والظَّنُّ في كِلا اسْتِعْمالَيْهِ مِنَ اليَقِينِ، أوِ الشَّكِّ يَتَعَدّى إلى اثْنَيْنِ، وتَأْتِي بَعْدَ الظَّنِّ (أنْ) النّاصِبَةُ لِلْفِعْلِ و(أنَّ) النّاصِبَةُ لِلِاسْمِ الرّافِعَةُ لِلْخَبَرِ؛ فَتَقُولُ: ظَنَنْتُ أنْ تَقُومَ، وظَنَنْتُ أنَّكَ تَقُومُ، وفي تَوْجِيهِ ذَلِكَ خِلافٌ، مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أنَّ (أنْ وإنَّ) كُلُّ واحِدَةٍ مِنهُما مَعَ ما دَخَلَتْ عَلَيْهِ تَسُدُّ مَسَدَّ المَفْعُولَيْنِ، وذَلِكَ بِجَرَيانِ المُسْنَدِ والمُسْنَدِ إلَيْهِ في هَذا التَّرْكِيبِ. ومَذْهَبُ أبِي الحَسَنِ وأبِي العَبّاسِ: أنَّ (أنَّ) وما عَمِلَتْ فِيهِ في مَوْضِعِ مَفْعُولٍ واحِدٍ أوَّلٍ، والثّانِي مُقَدَّرٌ، فَإذا قُلْتَ: ظَنَنْتُ أنَّ زَيْدًا قائِمٌ، فَتَقْدِيرُهُ: ظَنَنْتُ قِيامَ زَيْدٍ كائِنًا أوْ واقِعًا، والتَّرْجِيحُ بَيْنَ المَذْهَبَيْنِ يُذْكَرُ في عِلْمِ النَّحْوِ. ﴿أنَّهم مُلاقُو رَبِّهِمْ﴾، المُلاقاةُ: مُفاعَلَةٌ تَكُونُ مِنِ اثْنَيْنِ؛ لِأنَّ مَن لاقاكَ فَقَدْ لاقَيْتَهُ، وقالَ الَمَهْدَوِيُّ والماوَرْدِيُّ وغَيْرُهُما: المُلاقاةُ هُنا، وإنْ كانَتْ صِيغَتُها تَقْتَضِي التَّشْرِيكَ، فَهي مِنَ الواحِدِ كَقَوْلِهِمْ: طارَقْتُ النَّعْلَ، وعاقَبْتُ اللِّصَّ، وعافاكَ اللَّهُ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ لَقِيَ يَتَضَمَّنُ مَعْنى لاقى، ولَيْسَتْ كَذَلِكَ الأفْعالُ كُلُّها، بَلْ فَعَلَ خِلافٌ في المَعْنى لِفاعَلَ. انْتَهى كَلامُهُ ويَحْتاجُ إلى شَرْحٍ، وذَلِكَ أنَّهُ ضَعَّفَهُ مِن حَيْثُ إنَّ مادَّةَ لَقِيَ تُضَمَّنُ مَعْنى المُلاقاةِ، بِمَعْنى أنَّ وضْعَ هَذا الفِعْلِ، سَواءٌ كانَ مُجَرَّدًا أوْ عَلى فاعِلٍ، مَعْناهُ واحِدٌ مِن حَيْثُ إنَّ مَن لَقِيَكَ فَقَدْ لَقِيتَهُ، فَهو لِخُصُوصِ مادَّةٍ يَقْتَضِي المُشارَكَةِ، ويَسْتَحِيلُ فِيهِ أنْ يَكُونَ لِواحِدٍ. وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ فاعَلَ يَكُونُ لِمُوافَقَةِ الفِعْلِ المُجَرَّدِ، وهَذا أحَدُ مَعانِي فاعَلَ، وهو أنْ يُوافِقَ الفِعْلَ المُجَرَّدَ. وقَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: ولَيْسَتْ كَذَلِكَ الأفْعالُ كُلُّها كَلامٌ صَحِيحٌ، أيْ لَيْسَتِ الأفْعالُ مُجَرَّدُها بِمَعْنى فاعَلَ، بَلْ فاعَلَ فِيها يَدُلُّ عَلى الِاشْتِراكِ، وقَوْلُهُ: بَلْ فَعَلَ خِلافُ فاعَلَ يَعْنِي بَلِ المُجَرَّدُ فِيها يَدُلُّ عَلى الِانْفِرادِ، وهو خِلافُ فاعَلَ؛ لِأنَّهُ يَدُلُّ عَلى الِاشْتِراكِ، فَضُعِّفَ بِأنْ يَكُونَ فاعَلَ مِنَ اللِّقاءِ مِن بابِ: عاقَبْتُ اللِّصَّ، حَيْثُ إنَّ مادَّةَ اللِّقاءِ تَقْتَضِي الِاشْتِراكَ، سَواءٌ كانَ بِصِيغَةِ المُجَرَّدِ أوْ بِصِيغَةِ فاعَلَ، وهَذِهِ الإضافَةُ غَيْرُ مَحْضَةٍ؛ لِأنَّها إضافَةُ اسْمِ الفاعِلِ بِمَعْنى الِاسْتِقْبالِ، وقَدْ تَقَدَّمَ لَنا الكَلامُ عَلى اسْمِ الفاعِلِ إذا كانَ بِمَعْنى الحالِ، أوْ الِاسْتِقْبالِ بِالنِّسْبَةِ إلى إعْمالِهِ في المَفْعُولِ. وإضافَتُهُ إلَيْهِ وإضافَتُهُ إلى الرَّبِّ، وإضافَةُ الرَّبِّ إلَيْهِمْ في غايَةٍ مِنَ الفَصاحَةِ، وذَلِكَ أنَّ الرَّبَّ عَلى أيِّ مَحامِلِهِ حَمَلْتَهُ فِيهِ دِلالَةٌ عَلى الإحْسانِ لِمَن يَرُبُّهُ وتَعَطُّفٌ بَيِّنٌ لا يَدُلُّ عَلَيْهِ غَيْرُ لَفْظِ الرَّبِّ، وقَدِ اخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في مَعْنى مُلاقاةِ رَبِّهِمْ، فَحَمَلَهُ بَعْضُهم عَلى ظاهِرِهِ مِن غَيْرِ حَذْفٍ ولا كِنايَةٍ بِأنَّ اللِّقاءَ هو رُؤْيَةُ البارِي تَعالى، ولا لِقاءَ أعْظَمَ ولا أشْرَفَ مِنها، وقَدْ جاءَتْ بِها السُّنَّةُ المُتَواتِرَةُ، وإلى اعْتِقادِها ذَهَبَ أكْثَرُ المُسْلِمِينَ، وقِيلَ: ذَلِكَ عَلى حَذْفِ مُضافٍ أيْ: جَزاءُ رَبِّهِمْ؛ لِأنَّ المُلاقاةَ بِالذَّواتِ مُسْتَحِيلَةٌ في غَيْرِ الرُّؤْيَةِ، وقِيلَ ذَلِكَ كِنايَةٌ عَنِ انْقِضاءِ أجْلِهِمْ كَما يُقالُ لِمَن ماتَ قَدْ لَقِيَ اللَّهَ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎غَدًا نَلْقى الأحِبَّهْ ∗∗∗ مُحَمَّدًا وصَحْبَهْ وكَنى بِالمُلاقاةِ عَنِ المَوْتِ؛ لِأنَّ مُلاقاةَ اللَّهِ مُتَسَبِّبٌ عَنِ المَوْتِ، فَهو مِن إطْلاقِ المُسَبَّبِ، والمُرادُ مِنهُ السَّبَبُ، وذَلِكَ أنَّ مَن كانَ يَظُنُّ المَوْتَ في كُلِّ لَحْظَةٍ لا يُفارِقُ قَلْبَهُ الخُشُوعُ، وقِيلَ: ذَلِكَ عَلى حَذْفِ مُضافٍ أخَصَّ مِنَ الجَزاءِ، وهو الثَّوابُ، أيْ ثَوابُ رَبِّهِمْ، فَعَلى هَذا القَوْلِ والقَوْلِ الأوَّلِ، يَكُونُ الظَّنُّ عَلى بابِهِ مِن كَوْنِهِ يُرادُ بِهِ التَّرْجِيحُ، وعَلى تَقْدِيرِ الجَزاءِ أوْ كَوْنِ المُلاقاةِ يُرادُ بِها انْقِضاءُ الأجَلِ، يَكُونُ الظَّنُّ يُرادُ بِهِ التَّيَقُّنُ، وقَدْ نازَعَتِ المُعْتَزِلَةُ في كَوْنِ لَفْظِ اللِّقاءِ لا يُرادُ بِهِ الرُّؤْيَةُ ولا يُفِيدُها، ألا تَرى إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأعْقَبَهم نِفاقًا في قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾ [التوبة: ٧٧] والمُنافِقُ لا يَرى رَبَّهُ ﴿واعْلَمُوا أنَّكم مُلاقُوهُ﴾ [البقرة: ٢٢٣] ؟ ويَتَناوَلُ الكافِرَ والمُؤْمِنَ ؟ وفي الحَدِيثِ: ”لَقِيَ اللَّهَ وهو عَلَيْهِ غَضْبانُ“ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا ذَكَرُوهُ، وقَدْ تَكَلَّمَ عَلى ذَلِكَ أصْحابُنا، ومَسْألَةُ الرُّؤْيَةِ يُتَكَلَّمُ عَلَيْها في أُصُولِ الدِّينِ. ﴿وأنَّهم إلَيْهِ راجِعُونَ﴾: اخْتُلِفَ في الضَّمِيرِ (p-١٨٧)فِي (إلَيْهِ) عَلى مَن يَعُودُ، فَظاهِرُ الكَلامِ والتَّرْكِيبِ الفَصِيحِ أنَّهُ يَعُودُ إلى الرَّبِّ، وأنَّ المَعْنى: وأنَّهم إلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ، وهو أقْرَبُ مَلْفُوظٍ بِهِ. وقِيلَ: يَعُودُ عَلى اللِّقاءِ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ مُلاقُو رَبِّهِمْ، وقِيلَ: يَعُودُ عَلى المَوْتِ. وقِيلَ: عَلى الإعادَةِ، وكِلاهُما يَدُلُّ عَلَيْهِ مُلاقُوا، وقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الرُّجُوعِ، فَأغْنى عَنْ إعادَتِهِ هُنا، وقِيلَ بِالقَوْلِ الأوَّلِ، وهو أنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلى الرَّبِّ، فَلا يَتَحَقَّقُ الرُّجُوعُ، فَيُحْتاجُ في تَحَقُّقِهِ إلى حَذْفِ مُضافٍ، التَّقْدِيرُ: إلى أمْرِ رَبِّهِمْ راجِعُونَ، وقِيلَ: المَعْنِيُّ بِالرُّجُوعِ: المَوْتُ. وقِيلَ: راجِعُونَ بِالإعادَةِ في الآخِرَةِ، وهو قَوْلُ أبِي العالِيَةِ، وقِيلَ: راجِعُونَ إلى أنْ لا يَمْلِكَ أحَدُهم ضَرًّا ولا نَفْعًا لِغَيْرِهِ، كَما كانُوا في بَدْءِ الخَلْقِ، وقِيلَ: راجِعُونَ، فَيَجْزِيهِمْ بِأعْمالِهِمْ، ولَيْسَ في قَوْلِهِ: وأنَّهم إلَيْهِ راجِعُونَ دَلالَةٌ لِلْمُجَسِّمَةِ والتَّناسُخِيَّةِ عَلى كَوْنِ الأرْواحِ قَدِيمَةً، وإنَّما كانَتْ مَوْجُودَةً في عالَمِ الرُّوحانِيّاتِ، قالُوا: لِأنَّ الرُّجُوعَ إلى الشَّيْءِ المَسْبُوقِ بِالكَوْنِ عِنْدَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب