الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ﴾ قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وكيف أخبر الله جل ثناؤه عمن قد وصفه بالخشوع له بالطاعة، أنه"يظن" أنه ملاقيه، والظن: شك، والشاك في لقاء الله عندك بالله كافر؟ قيل له: إن العرب قد تسمي اليقين"ظنا"، والشك"ظنا"، نظير تسميتهم الظلمة "سدفة"، والضياء"سدفة"، والمغيث"صارخا"، والمستغيث"صارخا"، وما أشبه ذلك من الأسماء التي تسمي بها الشيء وضده. ومما يدل على أنه يسمى به اليقين، قول دريد بن الصمة: فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم في الفارسي المسرد [[الأصمعيات: ٢٣، وشرح الحماسة ٢: ١٥٦، ومجاز القرآن لأبي عبيدة: ٤٠، وسيأتي غير منسوب في ٢٥: ٨٣، وغير منسوب في ١٣: ٥٨ برواية أخرى:"فظنوا بألفي فارس متلبب"، وقبل البيت في رواية الأصمعي: وقلت لعارض، وأصحاب عارض ... ورهط بني السوداء، والقوم شهدي علانية ظنوا. . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ورواية أبي تمام: "نصحت لعارض". . "فقلت لهم ظنوا. . " وهذا الشعر قاله في رثاء أخيه عبد الله بن الصمة، وهو عارض، المذكور في شعره. المدجج: الفارس الذي قد تدجج في شكته، أي دخل في سلاحه، كأنه تغطى به. والسراة جمع سري: وهم خيار القوم من فرسانهم. والفارسي المسرد: يعني الدروع الفارسية، قال عمرو بن امرئ القيس الخزرجي: إذا مشينا في الفارسي كما ... يمشى جمال مَصاعبٌ قُطُفُ السرد: إدخال حلق الدرع بعضها في بعض. والمسرد: المحبوك النسج المتداخل الحلق. ينذر أخاه وقومه أنهم سوف يلقون عدوا من ذوى البأس قد استكمل أداة قتاله.]] يعني بذلك: تيقنوا ألفي مدجج تأتيكم. وقول عميرة بن طارق: بأن تغتزوا قومي وأقعد فيكم ... وأجعل مني الظن غيبا مرجما [[نقائض جرير والفرزدق: ٥٣، ٧٨٥، والأضداد لابن الأنباري. ١٢ وهو عميرة بن طارق بن ديسق اليربوعي، قالها في خبر له مع الحوفزان، ورواية النقائض: "وأجلس فيكم. . . "، و"أجعل علمي ظن غيب مرجما". وقبل البيت: فلا تأمرني يا ابن أسماء بالتي ... تجر الفتى ذا الطعم أن يتكلما ذو الطعم" ذو الحرم. وتجر، من الإجرار: وهو أن يشق لسان الفصيل، إذا أرادوا فطامه، لئلا يرضع. يعني يحول بينه وبين الكلام. وغزا الأمر واغتزاه: قصده، ومنه الغزو: وهو السير إلى قتال العدو وانتهابه، والمرجم: الذي لا يوقف على حقيقة أمره، لأنه يقذف به على غير يقين، من الرجم: وهو القذف. هذا، والبيت، كما رواه في النقائض، ليس بشاهد على أن الظن هو اليقين. ورواية الطبري هي التي تصلح شاهدا على هذا المعنى.]] يعني: وأجعل مني اليقين غيبا مرجما. والشواهد من أشعار العرب وكلامها على أن"الظن" في معنى اليقين أكثر من أن تحصى، وفيما ذكرنا لمن وفق لفهمه كفاية. ومنه قول الله جل ثناؤه: ﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا﴾ [الكهف: ٥٣] وبمثل الذي قلنا في ذلك جاء تفسير المفسرين. ٨٦١- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: ﴿يظنون أنهم ملاقو ربهم﴾ قال: إن الظن ههنا يقين. ٨٦٢- وحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا سفيان، عن جابر، عن مجاهد، قال: كل ظن في القرآن يقين،"إني ظننت"،"وظنوا". ٨٦٣- حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو داود الحفري، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: كل ظن في القرآن فهو علم. [[الأثر: ٨٦٣ - إسحاق: هو ابن راهويه الإمام الحافظ. أبو داود الحفري - بالحاء المهملة والفاء المفتوحتين - هو: عمر بن سعد بن عبيد. ووقع في تفسير ابن كثير ١: ١٥٩"أبو داود الجبري"، وهو تصحيف. وسفيان: هو الثوري.]] ٨٦٤- وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: ﴿الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم﴾ أما"يظنون" فيستيقنون. ٨٦٥- وحدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج: ﴿الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم﴾ علموا أنهم ملاقو ربهم، هي كقوله: ﴿إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ﴾ [الحاقة: ٢٠] يقول: علمت. ٨٦٦- وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ﴿الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم﴾ قال: لأنهم لم يعاينوا، فكان ظنهم يقينا، وليس ظنا في شك. وقرأ: ﴿إني ظننت أني ملاق حسابيه﴾ . * * * القول في تأويل قوله تعالى ﴿أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ﴾ قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وكيف قيل إنهم ملاقو ربهم، فأضيف"الملاقون" إلى الرب تبارك وتعالى، وقد علمت أن معناه: الذين يظنون أنهم يلقون ربهم؟ وإذ كان المعنى كذلك، فمن كلام العرب ترك الإضافة وإثبات النون، وإنما تسقط النون وتضيف، في الأسماء المبنية من الأفعال، إذا كانت بمعنى"فعل"، فأما إذا كانت بمعنى"يفعل وفاعل"، فشأنها إثبات النون، وترك الإضافة. قيل: لا تدافع بين جميع أهل المعرفة بلغات العرب وألسنها في إجازة إضافة الاسم المبني من"فعل ويفعل"، وإسقاط النون وهو بمعنى"يفعل وفاعل"، أعني بمعنى الاستقبال وحال الفعل ولما ينقض، فلا وجه لمسألة السائل عن ذلك: لم قيل؟ وإنما اختلف أهل العربية في السبب الذي من أجله أضيف وأسقطت النون. فقال نحويو البصرة: أسقطت النون من: ﴿ملاقو ربهم﴾ وما أشبهه من الأفعال التي في لفظ الأسماء وهي في معنى"يفعل" وفي معنى ما لم ينقض استثقالا لها، وهي مرادة كما قال جل ثناؤه: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ [سورة آل عمران: ١٨٥ الأنبياء:٣٥ العنكبوت: ٥٧] ، وكما قال: ﴿إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ﴾ [القمر: ٢٧] ولما يرسلها [[في المطبوعة: "ولما يرسلها بعد".]] بعد؛ وكما قال الشاعر: هل أنت باعث دينار لحاجتنا ... أو عبد رب أخا عون بن مخراق؟ [[سيبويه ١: ٨٧، والخزانة ٣: ٤٧٦، والعيني ٣: ٥٦٣. قال صاحب الخزانة: "البيت من أبيات سيبويه التي لم يعرف قائلها. وقال ابن خلف: قيل هو لجابر بن رألان السنبسي، وسنبس أبو حي من طيء. ونسبه غير خدمة سيبويه إلى جرير، وإلى تأبط شرا، وإلى أنه مصنوع والله أعلم بالحال! ". دينار وعبد رب، رجلان. والشاهد فيه نصب"عبد رب" على موضع"دينار"، لأن المعنى: هل أنت باعث دينارا أو عبد رب.]] فأضاف"باعثا" إلى"الدينار"، ولما يبعث، ونصب"عبد رب" عطفا على موضع دينار، لأنه في موضع نصب وإن خفض، وكما قال الآخر: [[هو عمرو بن امرئ القيس، من بني الحارث بن الخزرج، وهو عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، جاهلي قديم.]] الحافظو عورة العشيرة، لا ... يأتيهم من ورائهم نطف [[جمهرة أشعار العرب: ١٢٧، سيبويه ١: ٩٥، واللسان (وكف) والخزانة ٢: ١٨٨، ٣٣٧، ٤٨٣ / ٣: ٤٠٠، ٤٧٣. وهو من قصيدة يقولها لمالك بن العجلان النجاري في خبر مذكور. والعورة: المكان الذي يخاف منه مأتى العدو. والنطف: العيب والريبة، يقال: هم أهل الريب والنطف. وهذه رواية سيبويه والطبري، وأما رواية غيره فهي: "من ورائنا وكف"، والوكف العيب والنقص.]] بنصب"العورة" وخفضها، فالخفض على الإضافة، والنصب على حذف النون استثقالا وهي مرادة. وهذا قول نحويي البصرة. [[قال سيبويه ١: ٩٥: "لم يحذف النون للإضافة، ولا ليعاقب الاسم النون، ولكن حذفوها كما حذفوها من اللذين والذين، حين طال الكلام، وكان الاسم الأول منتهاه الاسم الآخر".]] * * * وأما نحويو الكوفة فإنهم قالوا: جائز في ﴿ملاقو﴾ الإضافة، وهي في معنى يلقون، وإسقاط النون منه لأنه في لفظ الأسماء، فله في الإضافة إلى الأسماء حظ الأسماء. وكذلك حكم كل اسم كان له نظيرا. قالوا: وإذا أثبت في شيء من ذلك النون وتركت الإضافة، فإنما تفعل ذلك به لأن له معنى يفعل الذي لم يكن ولم يجب بعد. قالوا: فالإضافة فيه للفظ، وترك الإضافة للمعنى. * * * فتأويل الآية إذا: واستعينوا على الوفاء بعهدي بالصبر عليه والصلاة، وإن الصلاة لكبيرة إلا على الخائفين عقابي، المتواضعين لأمري، الموقنين بلقائي والرجوع إلي بعد مماتهم. وإنما أخبر الله جل ثناؤه أن الصلاة كبيرة إلا على من هذه صفته؛ لأن من كان غير موقن بمعاد ولا مصدق بمرجع ولا ثواب ولا عقاب، فالصلاة عنده عناء وضلال، لأنه لا يرجو بإقامتها إدراك نفع ولا دفع ضر، وحق لمن كانت هذه الصفة صفته أن تكون الصلاة عليه كبيرة، وإقامتها عليه ثقيلة، وله فادحة. وإنما خفت على المؤمنين المصدقين بلقاء الله، الراجين عليها جزيل ثوابه، الخائفين بتضييعها أليم عقابه، لما يرجون بإقامتها في معادهم من الوصول إلى ما وعد الله عليها أهلها، ولما يحذرون بتضييعها ما أوعد مضيعها. فأمر الله جل ثناؤه أحبار بني إسرائيل الذين خاطبهم بهذه الآيات، أن يكونوا من مقيميها الراجين ثوابها إذا كانوا أهل يقين بأنهم إلى الله راجعون، وإياه في القيامة ملاقون. * * * القول في تأويل قوله تعالى ﴿وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (٤٦) ﴾ قال أبو جعفر: و"الهاء والميم" اللتان في قوله: ﴿وأنهم﴾ من ذكر الخاشعين، و"الهاء" في"إليه" من ذكر الرب تعالى ذكره في قوله: ﴿ملاقو ربهم﴾ فتأويل الكلمة: وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الموقنين أنهم إلى ربهم راجعون. * * * ثم اختلف في تأويل"الرجوع" الذي في قوله: ﴿وأنهم إليه راجعون﴾ فقال بعضهم، بما:- ٨٦٧- حدثني به المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: ﴿وأنهم إليه راجعون﴾ ، قال: يستيقنون أنهم يرجعون إليه يوم القيامة. * * * وقال آخرون: معنى ذلك أنهم إليه يرجعون بموتهم. * * * وأولى التأويلين بالآية، القول الذي قاله أبو العالية؛ لأن الله تعالى ذكره، قال في الآية التي قبلها: ﴿كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون﴾ فأخبر جل ثناؤه أن مرجعهم إليه بعد نشرهم وإحيائهم من مماتهم، وذلك لا شك يوم القيامة، فكذلك تأويل قوله: ﴿وأنهم إليه راجعون﴾ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب