الباحث القرآني

﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أنَّهم مُلاقُو رَبِّهِمْ وأنَّهم إلَيْهِ راجِعُونَ﴾ الظَّنُّ في الأصْلِ الحُسْبانُ، واللِّقاءُ وُصُولُ أحَدِ الجِسْمَيْنِ إلى الآخَرِ بِحَيْثُ يُماسُّهُ، والمُرادُ مِن مُلاقاةِ الرَّبِّ سُبْحانَهُ إمّا مُلاقاةُ ثَوابِهِ أوِ الرُّؤْيَةُ عِنْدَ مَن يُجَوِّزُها، وكُلٌّ مِنهُما مَظْنُونٌ مُتَوَقَّعٌ، لِأنَّهُ وإنْ عَلِمَ الخاشِعُ أنَّهُ لا بُدَّ مِن ثَوابٍ لِلْعَمَلِ الصّالِحِ، وتَحَقَّقَ أنَّ المُؤْمِنَ يَرى رَبَّهُ يَوْمَ المَآبِ لَكِنَّ مِن أيْنَ يَعْلَمُ ما يُخْتَمُ بِهِ عَمَلُهُ، فَفي وصْفِ أُولَئِكَ بِالظَّنِّ إشارَةٌ إلى خَوْفِهِمْ وعَدَمِ أمْنِهِمْ مَكْرَ رَبِّهِمْ، ولا يَأْمَنُ مَكْر الله إلّا القَوْمُ الكافِرُونَ وفي تَعْقِيبِ الخاشِعِينَ بِهِ حِينَئِذٍ لُطْفٌ لا يَخْفى، إلّا أنَّ عَطْفَ ﴿وأنَّهم إلَيْهِ راجِعُونَ﴾ عَلى ما قَبْلَهُ يَمْنَعُ حَمْلَ الظَّنِّ عَلى ما ذُكِرَ لِأنَّ الرُّجُوعَ إلَيْهِ تَعالى بِالنُّشُورِ أوِ المَصِيرِ إلى الجَزاءِ مُطْلَقًا مِمّا لا يَكْفِي فِيهِ الظَّنُّ، والتَّوَقُّعُ، بَلْ يَجِبُ القَطْعُ بِهِ، اللَّهُمَّ إلّا أنْ يُقَدَّرَ لَهُ عامِلٌ، أيْ ويَعْلَمُونَ أوْ يُقالُ: إنَّ الظَّنَّ مُتَعَلِّقٌ بِالمَجْمُوعِ مِن حَيْثُ هو مَجْمُوعٌ، وهو كَذَلِكَ (p-250)غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ، وإنْ كانَ أحَدُ جُزْئَيْهِ مَقْطُوعًا، أوْ يُقالُ: إنَّ الرُّجُوعَ إلى الرَّبِّ هُنا المَصِيرُ إلى جَزائِهِ الخاصِّ، أعْنِي الثَّوابَ بِدارِ السَّلامِ والحُلُولَ بِجِوارِهِ جَلَّ شَأْنُهُ، والكُلُّ خِلافُ الظّاهِرِ، ولِهَذا اخْتِيرَ تَفْسِيرُ الظَّنِّ بِاليَقِينِ مَجازًا، ومَعْنى التَّوَقُّعِ والِانْتِظارِ في ضِمْنِهِ، ولِقاءُ اللَّهِ تَعالى بِمَعْنى الحَشْرِ إلَيْهِ، والرُّجُوعُ بِمَعْنى المَجازاتِ ثَوابًا أوْ عِقابًا، فَكَأنَّهُ عَزَّ شَأْنُهُ قالَ: يَعْلَمُونَ أنَّهم يُحْشَرُونَ إلَيْهِ فَيُجازِيهِمْ مُتَوَقِّعِينَ لِذَلِكَ، وكَأنَّ النُّكْتَةَ في اسْتِعْمالِ الظَّنِّ المُبالَغَةُ في إيهامِ أنَّ مَن ظَنَّ ذَلِكَ لا يَشُقُّ عَلَيْهِ ما تَقَدَّمَ، فَكَيْفَ مَن تَيَقَّنَهُ، والتَّعَرُّضُ لِعُنْوانِ الرُّبُوبِيَّةِ لِلْإشْعارِ بِعِلِّيَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ والمالِكِيَّةِ لِلْحُكْمِ، وجُعِلَ خَبَرُ (أنَّ) في المَوْضِعَيْنِ اسْمًا لِلدِّلالَةِ عَلى تَحَقُّقِ اللِّقاءِ والرُّجُوعِ وتَقَرُّرِهِما عِنْدَهُ، وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ (يَعْلَمُونَ) وهي تُؤَيِّدُ هَذا التَّفْسِيرَ. * * * ومِن بابِ الإشارَةِ ﴿أتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالبِرِّ﴾ الَّذِي هو الفِعْلُ الجَمِيلُ المُوجِبُ لِصَفاءِ القَلْبِ وزَكاءِ النَّفْسِ، ولا تَفْعَلُونَ ما تَرْتَقُونَ بِهِ مِن مَقامِ تَجَلِّي الأفْعالِ إلى تَجَلِّي الصِّفاتِ وأنْتُمْ تَتْلُونَ كِتابَ فِطْرَتِكُمُ الَّذِي يَأْمُرُكم بِالدِّينِ السّالِكِ بِكم سَبِيلَ التَّوْحِيدِ، أفَلا تَعْقِلُونَ، فَتُقَيِّدُونَ مُطْلَقاتِ صِفاتِكُمُ الذَّمِيمَةِ بِعِقالِ ما أُفِيضَ عَلَيْكم مِنَ الأنْوارِ القَدِيمَةِ، واطْلُبُوا المَدَدَ والعَوْنَ مِمَّنْ لَهُ القُدْرَةُ الحَقِيقِيَّةُ بِالصَّبْرِ عَلى ما يُفْعَلُ بِكُمْ، لِكَيْ تَصِلُوا إلى مَقامِ الرِّضا، والصَّلاةِ الَّتِي هي المُراقَبَةُ، وحُضُورُ القَلْبِ لِتَلَقِّي تَجَلِّياتِ الرَّبِّ، وإنَّ المُراقَبَةَ لَشاقَّةٌ إلّا عَلى المُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمُ اللَّيِّنَةِ أفْئِدَتُهُمْ، لِقَبُولِ أنْوارِ التَّجَلِّياتِ اللَّطِيفَةِ، واسْتِيلاءِ سَطَواتِها القَهْرِيَّةِ، فَهُمُ الَّذِينَ يَتَيَقَّنُونَ أنَّهم بِحَضْرَةِ رَبِّهِمْ، وأنَّهم إلَيْهِ راجِعُونَ بِفَناءِ صِفاتِهِمْ، ومَحْوِها في صِفاتِهِ، فَلا يَجِدُونَ في الدّارِ إلّا شُئُونَ المَلِكِ اللَّطِيفِ القَهّارِ،
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب