الباحث القرآني

﴿واسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ وإنَّها لَكَبِيرَةٌ إلّا عَلى الخاشِعِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أنَّهم مُلاقُوا رَبِّهِمْ وأنَّهم إلَيْهِ راجِعُونَ﴾ خِطابٌ لِبَنِي إسْرائِيلَ بِالإرْشادِ إلى ما يُعِينُهم عَلى التَّخَلُّقِ بِجَمِيعِ ما عَدَّدَ لَهم مِنَ الأوامِرِ والنَّواهِي الرّاجِعَةِ إلى التَّحَلِّي بِالمَحامِدِ والتَّخَلِّي عَنِ المَذَمّاتِ، لَهُ أحْسَنُ وقْعٍ مِنَ البَلاغَةِ فَإنَّهم لَمّا خُوطِبُوا بِالتَّرْغِيبِ والتَّرْهِيبِ والتَّنْزِيهِ والتَّشْوِيهِ ظَنَّ بِهِمْ أنَّهم لَمْ يَبْقَ في نُفُوسِهِمْ مَسْلَكٌ لِلشَّيْطانِ ولا مَجالَ لِلْخِذْلانِ وأنَّهم أنْشَئُوا يَتَحَفَّزُونَ لِلِامْتِثالِ والِائْتِساءِ إلّا أنَّ ذَلِكَ الإلْفَ القَدِيمَ، يُثْقِلُ أرْجُلَهم في الخَطْوِ إلى هَذا الطَّرِيقِ القَوِيمِ، فَوَصَفَ لَهُمُ الدَّواءَ الَّذِي بِهِ الصَّلاحُ ورِيشٌ بِقادِمَتَيِ الصَّبْرِ والصَّلاةِ مِنهُمُ الجَناحُ. فالأمْرُ بِالِاسْتِعانَةِ بِالصَّبْرِ لِأنَّ الصَّبْرَ مَلاكُ الهُدى فَإنَّ مِمّا يَصُدُّ الأُمَمَ عَنِ اتِّباعِ دِينٍ قَوِيمٍ الفَهْمُ بِأحْوالِهِمُ القَدِيمَةِ وضِعْفُ النُّفُوسِ عَنْ تَحَمُّلِ مُفارَقَتِها فَإذا تَدَرَّعُوا بِالصَّبْرِ سَهُلَ عَلَيْهِمُ اتِّباعُ الحَقِّ. وأمّا الِاسْتِعانَةُ بِالصَّلاةِ فالمُرادُ تَأْكِيدُ الأمْرِ بِها الَّذِي في قَوْلِهِ ﴿وأقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ﴾ [البقرة: ٤٣] وهَذا إظْهارٌ لِحُسْنِ الظَّنِّ بِهِمْ وهو طَرِيقٌ بَدِيعٌ مِن طُرُقِ التَّرْغِيبِ. ومِنَ المُفَسِّرِينَ مَن زَعَمَ أنَّ الخِطابَ في قَوْلِهِ واسْتَعِينُوا إلَخْ لِلْمُسْلِمِينَ عَلى وجْهِ الِانْتِقالِ مِن خِطابٍ إلى خِطابٍ آخَرَ، وهَذا وهْمٌ لِأنَّ وُجُودَ حَرْفِ العَطْفِ يُنادِي عَلى خِلافِ ذَلِكَ ولِأنَّ قَوْلَهُ ﴿إلّا عَلى الخاشِعِينَ﴾ مُرادٌ بِهِ إلّا عَلى المُؤْمِنِينَ حَسْبَما بَيَّنَهُ قَوْلُهُ ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أنَّهم مُلاقُوا رَبِّهِمْ﴾ الآيَةَ اللَّهُمَّ إلّا أنْ (p-٤٧٨)يَكُونَ مِنَ الإظْهارِ في مَقامِ الإضْمارِ وهو خِلافُ الظّاهِرِ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ الدّاعِي. والَّذِي غَرَّهم بِهَذا التَّفْسِيرِ تَوَهُّمُ أنَّهُ لا يُؤْمَرُ بِأنْ يَسْتَعِينَ بِالصَّلاةِ مَن لَمْ يَكُنْ قَدْ آمَنَ بَعْدُ وأيُّ عَجَبٍ في هَذا ؟ وقَرِيبٌ مِنهُ آنِفًا قَوْلُهُ تَعالى ﴿وأقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ وارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ﴾ [البقرة: ٤٣] خِطابًا لِبَنِي إسْرائِيلَ لا مَحالَةَ. والصَّبْرُ عَرَّفَهُ الغَزالِيُّ في إحْياءِ عُلُومِ الدِّينِ بِأنَّهُ ثَباتُ باعِثِ الدِّينِ في مُقابَلَةِ باعِثِ الشَّهْوَةِ، وهو تَعْرِيفٌ خاصٌّ بِالصَّبْرِ الشَّرْعِيِّ صالِحٌ لِأنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِلْآيَةِ لِأنَّها في ذِكْرِ الصَّبْرِ الشَّرْعِيِّ، وأمّا الصَّبْرُ مِن حَيْثُ هو الَّذِي هو وصْفُ كَمالٍ فَهو عِبارَةٌ عَنِ احْتِمالِ النَّفْسِ أمْرًا لا يُلائِمُها إمّا لِأنَّ مَآلَهُ مُلائِمٌ، أوْ لِأنَّ عَلَيْهِ جَزاءً عَظِيمًا فَأشْبَهَ ما مَآلُهُ مُلائِمٌ، أوْ لِعَدَمِ القُدْرَةِ عَلى الِانْتِقالِ عَنْهُ إلى غَيْرِهِ مَعَ تَجَنُّبِ الجَزَعِ والضَّجَرِ فالصَّبْرُ احْتِمالٌ وثَباتٌ عَلى ما لا يُلائِمُ، وأقَلُّ أنْواعِهِ ما كانَ عَنْ عَدَمِ المَقْدِرَةِ ولِذا ورَدَ في الصَّحِيحِ إنَّما الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولى أيِ الصَّبْرُ الكامِلُ هو الَّذِي يَقَعُ قَبْلَ العِلْمِ بِأنَّ التَّفَصِّيَ عَنْ ذَلِكَ الأمْرِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وإلّا فَإنَّ الصَّبْرَ عِنْدَ اعْتِقادِ عَدَمِ إمْكانِ التَّفَصِّي إذا لَمْ يَصْدُرْ مِنهُ ضَجَرٌ وجَزَعٌ هو صَبْرٌ حَقِيقَةً فَصِيغَةُ الحَصْرِ في قَوْلِهِ إنَّما الصَّبْرُ حَصْرٌ ادِّعائِيٌّ لِلْكَمالِ كَما في قَوْلِهِمْ أنْتَ الرَّجُلُ. والصَّلاةُ أُرِيدَ بِها هُنا مَعْناها الشَّرْعِيُّ في الإسْلامِ وهي مَجْمُوعُ مَحامِدَ لِلَّهِ تَعالى قَوْلًا وعَمَلًا واعْتِقادًا فَلا جَرَمَ كانَتِ الِاسْتِعانَةُ المَأْمُورُ بِها هُنا راجِعَةً لِأمْرَيْنِ الصَّبْرُ والشُّكْرُ وقَدْ قِيلَ إنَّ الإيمانَ نِصْفُهُ صَبْرٌ ونِصْفُهُ شُكْرٌ كَما في الإحْياءِ وهو قَوْلٌ حَسَنٌ، ومُعْظَمُ الفَضائِلِ مِلاكُها الصَّبْرُ إذِ الفَضائِلُ تَنْبَعِثُ عَنْ مَكارِمِ الخِلالِ، والمَكارِمُ راجِعَةٌ إلى قُوَّةِ الإرادَةِ وكَبْحِ زِمامِ النَّفْسِ عَنِ الإسامَةِ في شَهَواتِها بِإرْجاعِ القُوَّتَيْنِ الشَّهَوِيَّةِ والغَضَبِيَّةِ عَمّا لا يُفِيدُ كَمالًا أوْ عَمّا يُورِثُ نُقْصانًا فَكانَ الصَّبْرُ مِلاكَ الفَضائِلِ فَما التَّحَلُّمُ والتَّكَرُّمُ والتَّعَلُّمُ والتَّقْوى والشَّجاعَةُ والعَدْلُ والعَمَلُ في الأرْضِ ونَحْوِها إلّا مِن ضُرُوبِ الصَّبْرِ. ومِمّا يُؤْثَرُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الشَّجاعَةُ صَبْرُ ساعَةٍ. وقالَ زُفَرُ بْنُ الحارِثِ الكِلابِيُّ يَعْتَذِرُ عَنِ انْهِزامِ قَوْمِهِ: ؎سَقَيْناهُمُ كَأْسًا سَقَوْنا بِمِثْلِها ولَكِنَّهم كانُوا عَلى المَوْتِ أصْبَرا وحَسْبُكَ بِمَزِيَّةِ الصَّبْرِ أنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ مُكَمِّلَ سَبَبِ الفَوْزِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿والعَصْرِ﴾ [العصر: ١] ﴿إنَّ الإنْسانَ لَفي خُسْرٍ﴾ [العصر: ٢] ﴿إلّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ وتَواصَوْا بِالحَقِّ وتَواصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: ٣] وقالَ هُنا ﴿واسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ﴾ قالَ الغَزالِيُّ: ذَكَرَ اللَّهُ الصَّبْرَ في القُرْآنِ في نَيِّفٍ وسَبْعِينَ مَوْضِعًا وأضافَ أكْثَرَ الخَيْراتِ والدَّرَجاتِ إلى الصَّبْرِ وجَعَلَها ثَمَرَةً لَهُ، فَقالَ عَزَّ مِن قائِلٍ (p-٤٧٩)﴿وجَعَلْنا مِنهم أئِمَّةً يَهْدُونَ بِأمْرِنا لَمّا صَبَرُوا﴾ [السجدة: ٢٤] وقالَ ﴿وتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحُسْنى عَلى بَنِي إسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا﴾ [الأعراف: ١٣٧] وقالَ ﴿إنَّ اللَّهَ مَعَ الصّابِرِينَ﴾ [البقرة: ١٥٣] اهـ. وأنْتَ إذا تَأمَّلْتَ وجَدْتَ أصْلَ التَّدَيُّنِ والإيمانِ مِن ضُرُوبِ الصَّبْرِ فَإنَّ فِيهِ مُخالَفَةَ النَّفْسِ هَواها ومَأْلُوفَها في التَّصْدِيقِ بِما هو مُغَيَّبٌ عَنِ الحِسِّ الَّذِي اعْتادَتْهُ، وبِوُجُوبِ طاعَتِها واحِدًا مِن جِنْسِها لا تَراهُ يَفُوقُها في الخِلْقَةِ وفي مُخالَفَةِ عادَةِ آبائِها وأقْوامِها مِنَ الدِّياناتِ السّابِقَةِ. فَإذا صارَ الصَّبْرُ خُلُقًا لِصاحِبِهِ هَوَّنَ عَلَيْهِ مُخالَفَةَ ذَلِكَ كُلِّهِ لِأجْلِ الحَقِّ والبُرْهانِ فَظَهَرَ وجْهُ الأمْرِ بِالِاسْتِعانَةِ عَلى الإيمانِ وما يَتَفَرَّعُ عَنْهُ بِالصَّبْرِ؛ فَإنَّهُ خُلُقٌ يَفْتَحُ أبْوابَ النُّفُوسِ لِقَبُولِ ما أُمِرُوا بِهِ مِن ذَلِكَ. وأمّا الِاسْتِعانَةُ بِالصَّلاةِ فَلِأنَّ الصَّلاةَ شُكْرٌ والشُّكْرُ يُذَكِّرُ بِالنِّعْمَةِ فَيَبْعَثُ عَلى امْتِثالِ المُنْعِمِ عَلى أنَّ في الصَّلاةِ صَبْرًا مِن جِهاتٍ في مُخالَفَةِ حالِ المَرْءِ المُعْتادَةِ ولُزُومِهِ حالَةً في وقْتٍ مُعَيَّنٍ لا يَسُوغُ لَهُ التَّخَلُّفُ عَنْها ولا الخُرُوجُ مِنها عَلى أنَّ في الصَّلاةِ سِرًّا إلَهِيًّا لَعَلَّهُ ناشِئٌ عَنْ تَجَلِّي الرِّضْوانِ الرَّبّانِيِّ عَلى المُصَلِّي فَلِذَلِكَ نَجِدُ لِلصَّلاةِ سِرًّا عَظِيمًا في تَجْلِيَةِ الأحْزانِ وكَشْفِ غَمِّ النَّفْسِ وقَدْ ورَدَ في الحَدِيثِ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ إذا حَزَبَهُ - بِزايٍ وباءٍ مُوَحَّدَةٍ - أيْ نَزَلَ بِهِ أمْرٌ فَزِعَ إلى الصَّلاةِ» وهَذا أمْرٌ يَجِدُهُ مَن راقَبَهُ مِنَ المُصَلِّينَ وقالَ تَعالى ﴿إنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: ٤٥] لِأنَّها تَجْمَعُ ضُرُوبًا مِنَ العِباداتِ. وأمّا كَوْنُ الشُّكْرِ مِن حَيْثُ هو مُعِينًا عَلى الخَيْرِ فَهو مِن مُقْتَضَياتِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: ٧] وقَوْلُهُ ﴿وإنَّها لَكَبِيرَةٌ﴾ اخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في مَعادِ ضَمِيرِ (إنَّها) فَقِيلَ عائِدٌ إلى الصَّلاةِ والمَعْنى: إنَّ الصَّلاةَ تَصْعُبُ عَلى النُّفُوسِ لِأنَّها سِجْنٌ لِلنَّفْسِ وقِيلَ الضَّمِيرُ لِلِاسْتِعانَةِ بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ المَأْخُوذَةِ مِنِ اسْتَعِينُوا عَلى حَدِّ ﴿اعْدِلُوا هو أقْرَبُ لِلتَّقْوى﴾ [المائدة: ٨] وقِيلَ راجِعٌ إلى المَأْمُوراتِ المُتَقَدِّمَةِ مِن قَوْلِهِ تَعالى ﴿اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ﴾ [البقرة: ٤٠] إلى قَوْلِهِ ﴿واسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ﴾ وهَذا الأخِيرُ مِمّا جَوَّزَهُ صاحِبُ الكَشّافِ ولَعَلَّهُ مِن مُبْتَكَراتِهِ وهَذا أوْضَحُ الأقْوالِ وأجْمَعُها والمَحامِلُ مُرادَّةٌ. والمُرادُ بِالكَبِيرَةِ هُنا الصَّعْبَةُ الَّتِي تَشُقُّ عَلى النُّفُوسِ، وإطْلاقُ الكِبَرِ عَلى الأمْرِ الصَّعْبِ والشّاقِّ مَجازٌ مَشْهُورٌ في كَلامِ العَرَبِ لِأنَّ المَشَقَّةَ مِن لَوازِمِ الأمْرِ الكَبِيرِ في حَمْلِهِ أوْ تَحْصِيلِهِ قالَ تَعالى ﴿وإنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إلّا عَلى الَّذِينَ هَدى اللَّهُ﴾ [البقرة: ١٤٣] وقالَ ﴿وإنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إعْراضُهُمْ﴾ [الأنعام: ٣٥] الآيَةَ. وقالَ ﴿كَبُرَ عَلى المُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهم إلَيْهِ﴾ [الشورى: ١٣] (p-٤٨٠)وقَوْلُهُ ﴿إلّا عَلى الخاشِعِينَ﴾ أيِ الَّذِينَ اتَّصَفُوا بِالخُشُوعِ، والخُشُوعُ لُغَةً هو الِانْزِواءُ والِانْخِفاضُ قالَ النّابِغَةُ: ؎ونُؤْيٌ كَجِذْمِ الحَوْضِ أثَلَمُ خاشِعُ أيْ زالَ ارْتِفاعُ جَوانِبِهِ. والتَّذَلُّلُ خُشُوعٌ، قالَ جَعْفَرُ بْنُ عَبْلَةَ الحارِثِيُّ: ؎فَلا تَحْسَبِي أنِّي تَخَشَّعْتُ بَعْدَكم ∗∗∗ لِشَيْءٍ ولا أنِّي مِنَ المَوْتِ أفْرَقُ وهُوَ مَجازٌ في خُشُوعِ النَّفْسِ وهو سُكُونٌ وانْقِباضٌ عَنِ التَّوَجُّهِ إلى الإبايَةِ أوِ العِصْيانِ. والمُرادُ بِالخاشِعِ هُنا الَّذِي ذَلَّلَ نَفْسَهُ وكَسَرَ سُورَتَها وعَوَّدَها أنْ تَطْمَئِنَّ إلى أمْرِ اللَّهِ وتَطْلُبَ حُسْنَ العَواقِبِ وأنْ لا تَغْتَرَّ بِما تُزَيِّنُهُ الشَّهْوَةُ الحاضِرَةُ فَهَذا الَّذِي كانَتْ تِلْكَ صِفَتَهُ قَدِ اسْتَعَدَّتْ نَفْسُهُ لِقَبُولِ الخَيْرِ. وكَأنَّ المُرادَ بِالخاشِعِينَ هُنا الخائِفُونَ النّاظِرُونَ في العَواقِبِ فَتَخِفُّ عَلَيْهِمُ الِاسْتِعانَةُ بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ مَعَ ما في الصَّبْرِ مِنَ القَمْعِ لِلنَّفْسِ وما في الصَّلاةِ مِنَ التِزامِ أوْقاتٍ مُعَيَّنَةٍ وطَهارَةٍ في أوْقاتٍ قَدْ يَكُونُ لِلْعَبْدِ فِيها اشْتِغالٌ بِما يَهْوى أوْ بِما يُحَصِّلُ مِنهُ مالًا أوْ لَذَّةً. وقَرِيبٌ مِنهُ قَوْلُ كُثَيِّرٍ: ؎فَقُلْتُ لَها يا عَزُّ كُلُّ مُصِيبَةٍ ∗∗∗ إذا وُطِّنَتْ يَوْمًا لَها النَّفْسُ ذَلَّتِ وأحْسَبُ أنَّ مَشْرُوعِيَّةَ أحْكامٍ كَثِيرَةٍ قَصَدَ الشّارِعُ مِنها هَذا المَعْنى وأعْظَمَهُا الصَّوْمُ. ولا يَصِحُّ حَمْلُ الخُشُوعِ هُنا عَلى خُصُوصِ الخُشُوعِ في الصَّلاةِ بِسَبَبِ الحالِ الحاصِلِ في النَّفْسِ بِاسْتِشْعارِ العَبْدِ الوُقُوفَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعالى حَسْبَما شَرَحَهُ ابْنُ رُشْدٍ في أوَّلِ مَسْألَةٍ مِن كِتابِ الصَّلاةِ الأوَّلِ مِنَ البَيانِ. والتَّحْصِيلُ وهو المَعْنى المُشارُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿قَدْ أفْلَحَ المُؤْمِنُونَ﴾ [المؤمنون: ١] ﴿الَّذِينَ هم في صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ﴾ [المؤمنون: ٢] فَإنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِن صِفاتِ الصَّلاةِ وكَمالِ المُصَلِّي فَلا يَصِحُّ كَوْنُهُ هو المُخَفِّفَ لِكُلْفَةِ الصَّلاةِ عَلى المُسْتَعِينِ بِالصَّلاةِ كَما لا يَخْفى. وقَدْ وصَفَ تَعالى الخاشِعِينَ بِأنَّهم ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أنَّهم مُلاقُوا رَبِّهِمْ وأنَّهم إلَيْهِ راجِعُونَ﴾ وهي صِلَةٌ لَها مَزِيدُ اتِّصالٍ بِمَعْنى الخُشُوعِ فَفِيها مَعْنى التَّفْسِيرِ لِلْخاشِعِينَ ومَعْنى بَيانِ مَنشَأِ خُشُوعِهِمْ، فَدَلَّ عَلى أنَّ المُرادَ مِنَ الظَّنِّ هُنا الِاعْتِقادُ الجازِمُ وإطْلاقُ الظَّنِّ في كَلامِ (p-٤٨١)العَرَبِ عَلى مَعْنى اليَقِينِ كَثِيرٌ جِدًّا، قالَ أوْسُ بْنُ حَجَرٍ يَصِفُ صَيّادًا رَمى حِمارَ وحْشٍ بِسَهْمٍ: ؎فَأرْسَلَهُ مُسْتَيْقِنَ الظَّنِّ أنَّهُ ∗∗∗ مُخالِطُ ما بَيْنَ الشَّراسِيفِ جائِفُ وقالَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ: ؎فَقُلْتُ لَهم ظُنُّوا بِألْفَيْ مُدَجَّجِ ∗∗∗ سَراتُهم بِالفارِسِيِّ المُسَرَّجِ فَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الِاعْتِقادِ الجازِمِ وبَيْنَ الِاعْتِقادِ الرّاجِحِ والمُلاقاةُ والرُّجُوعُ هُنا مَجازانِ عَنِ الحِسابِ والحَشْرِ أوْ عَنِ الرُّؤْيَةِ والثَّوابِ؛ لِأنَّ حَقِيقَةَ اللِّقاءِ وهو تَقارِبُ الجِسْمَيْنِ، وحَقِيقَةَ الرُّجُوعِ وهو الِانْتِهاءُ إلى مَكانٍ خَرَجَ مِنهُ المُنْتَهِي مُسْتَحِيلَةٌ هُنا. والمَقْصُودُ مِن قَوْلِهِ ﴿وإنَّها لَكَبِيرَةٌ﴾ إلَخِ التَّعْرِيضُ بِالثَّناءِ عَلى المُسْلِمِينَ، وتَحْرِيضُ بَنِي إسْرائِيلَ عَلى التَّهَمُّمِ بِالِاقْتِداءِ بِالمُؤْمِنِينَ وعَلى جَعْلِ الخِطابِ في قَوْلِهِ (﴿واسْتَعِينُوا﴾) لِلْمُسْلِمِينَ يَكُونُ قَوْلُهُ ﴿وإنَّها لَكَبِيرَةٌ﴾ تَعْرِيضًا بِغَيْرِهِمْ مِنَ اليَهُودِ والمُنافِقِينَ. والمُلاقاةُ مُفاعَلَةٌ مَن لَقِيَ، واللِّقاءُ الحُضُورُ كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ ﴿فَتَلَقّى آدَمُ مِن رَبِّهِ كَلِماتٍ﴾ [البقرة: ٣٧] والمُرادُ هُنا الحُضُورُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ لِلْحِسابِ أيِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالبَعْثِ، وسَيَأْتِي تَفْصِيلٌ لَها عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿واتَّقُوا اللَّهَ واعْلَمُوا أنَّكم مُلاقُوهُ﴾ [البقرة: ٢٢٣] في هَذِهِ السُّورَةِ، وفي سُورَةِ الأنْعامِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ﴾ [الأنعام: ٣١]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب