الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاةِ اللَّهِ واللَّهُ رَءُوفٌ بِالعِبادِ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا وصَفَ في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ حالَ مَن يَبْذُلُ دِينَهُ لِطَلَبِ الدُّنْيا ذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ حالَ مَن يَبْذُلُ دُنْياهُ ونَفْسَهُ ومالَهُ لِطَلَبِ الدِّينِ، فَقالَ: ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاةِ اللَّهِ﴾ ثُمَّ في الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: في سَبَبِ النُّزُولِ رِواياتٌ: أحَدُها: رَوى ابْنُ عَبّاسٍ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في صُهَيْبِ بْنِ سِنانٍ مَوْلى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعانَ، وفي عَمّارِ بْنِ ياسِرٍ، وفي سُمَيَّةَ أُمِّهِ، وفي ياسِرٍ أبِيهِ، وفي بِلالٍ مَوْلى أبِي (p-١٧٤)بَكْرٍ، وفي خَبّابِ بْنِ الأرَتِّ، وفي عابِسٍ مَوْلى حُوَيْطِبٍ أخَذَهُمُ المُشْرِكُونَ فَعَذَّبُوهم، فَأمّا صُهَيْبٌ فَقالَ لِأهْلِ مَكَّةَ: إنِّي شَيْخٌ كَبِيرٌ، ولِي مالٌ ومَتاعٌ، ولا يَضُرُّكم كُنْتُ مِنكم أوْ مِن عَدْوِّكم تَكَلَّمْتُ بِكَلامٍ، وأنا أكْرَهُ أنْ أنْزِلَ عَنْهُ وأنا أُعْطِيكم مالِي ومَتاعِي وأشْتَرِي مِنكم دِينِي، فَرَضُوا مِنهُ بِذَلِكَ وخَلَّوْا سَبِيلَهُ، فانْصَرَفَ راجِعًا إلى المَدِينَةِ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ، وعِنْدَ دُخُولِ صُهَيْبٍ المَدِينَةَ لَقِيَهُ أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقالَ لَهُ: رَبِحَ بَيْعُكَ، فَقالَ لَهُ صُهَيْبٌ: وبَيْعُكَ فَلا يَخْسَرُ ما ذاكَ ؟ فَقالَ: أنْزَلَ اللَّهُ فِيكَ كَذا، وقَرَأ عَلَيْهِ الآيَةَ، وأمّا خَبّابُ بْنُ الأرَتِّ وأبُو ذَرٍّ فَقَدْ فَرّا وأتَيا المَدِينَةَ، وأمّا سُمَيَّةُ فَرُبِطَتْ بَيْنَ بَعِيرَيْنِ ثُمَّ قُتِلَتْ وقُتِلَ ياسِرٌ، وأمّا الباقُونَ فَأعْطَوْا بِسَبَبِ العَذابِ بَعْضَ ما أرادَ المُشْرِكُونَ فَتُرِكُوا، وفِيهِمْ نَزَلَ قَوْلُ اللَّهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ هاجَرُوا في اللَّهِ مِن بَعْدِ ما ظُلِمُوا﴾ [النَّحْلِ: ٤١] بِتَعْذِيبِ أهْلِ مَكَّةَ ﴿لَنُبَوِّئَنَّهم في الدُّنْيا حَسَنَةً﴾ [النَّحْلِ: ٤١] بِالنَّصْرِ والغَنِيمَةِ، ولَأجْرُ الآخِرَةِ أكْبَرُ، وفِيهِمْ نَزَلَ: ﴿إلّا مَن أُكْرِهَ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمانِ﴾ . والرِّوايَةُ الثّانِيَةُ: أنَّها نَزَلَتْ في رَجُلٍ أمَرَ بِمَعْرُوفٍ ونَهى عَنْ مُنْكَرٍ، عَنْ عُمَرَ وعَلِيٍّ وابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم. والرِّوايَةُ الثّالِثَةُ: نَزَلَتْ في عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ باتَ عَلى فِراشِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَيْلَةَ خُرُوجِهِ إلى الغارِ، ويُرْوى أنَّهُ لَمّا نامَ عَلى فِراشِهِ قامَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ عِنْدَ رَأْسِهِ، ومِيكائِيلُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، وجِبْرِيلُ يُنادِي: بَخٍ بَخٍ مَن مِثْلُكَ يا ابْنَ أبِي طالِبٍ يُباهِي اللَّهُ بِكَ المَلائِكَةَ ونَزَلَتِ الآيَةُ. * * * المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّ المُرادَ بِهَذا الشِّراءِ: البَيْعُ، قالَ تَعالى: ﴿وشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ﴾ [يُوسُفَ: ٢٠] أيْ باعُوهُ، وتَحْقِيقُهُ أنَّ المُكَلَّفَ باعَ نَفْسَهُ بِثَوابِ الآخِرَةِ وهَذا البَيْعُ هو أنَّهُ بَذَلَها في طاعَةِ اللَّهِ، مِنَ الصَّلاةِ والصِّيامِ والحَجِّ والجِهادِ، ثُمَّ تَوَصَّلَ بِذَلِكَ إلى وِجْدانِ ثَوابِ اللَّهِ، كانَ ما يَبْذُلُهُ مِن نَفْسِهِ كالسِّلْعَةِ، وصارَ الباذِلُ كالبائِعِ، واللَّهُ كالمُشْتَرِي، كَما قالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ المُؤْمِنِينَ أنْفُسَهم وأمْوالَهم بِأنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ﴾ [التَّوْبَةِ: ١١١] وقَدْ سَمّى اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ تِجارَةً، فَقالَ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أدُلُّكم عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكم مِن عَذابٍ ألِيمٍ﴾ ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُجاهِدُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ بِأمْوالِكم وأنْفُسِكُمْ﴾ [الصَّفِ: ١٠] وعِنْدِي أنَّهُ يُمْكِنُ إجْراءُ لَفْظَةِ الشِّراءِ عَلى ظاهِرِها وذَلِكَ أنَّ مَن أقْدَمَ عَلى الكُفْرِ والشِّرْكِ والتَّوَسُّعِ في مَلاذِ الدُّنْيا والإعْراضِ عَنِ الآخِرَةِ وقَعَ في العَذابِ الدّائِمِ فَصارَ في التَّقْدِيرِ كَأنَّ نَفْسَهُ كانَتْ لَهُ، فَبِسَبَبِ الكُفْرِ والفِسْقِ خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِهِ وصارَتْ حَقًّا لِلنّارِ والعَذابِ، فَإذا تَرَكَ الكُفْرَ والفِسْقَ وأقَدَمَ عَلى الإيمانِ والطّاعَةِ صارَ كَأنَّهُ اشْتَرى نَفْسَهُ مِنَ العَذابِ والنّارِ فَصارَ حالُ المُؤْمِنِ كالمُكاتَبِ يَبْذُلُ دارَهِمَ مَعْدُودَةً ويَشْتَرِي بِها نَفْسَهُ فَكَذَلِكَ المُؤْمِنُ يَبْذُلُ أنْفاسًا مَعْدُودَةً ويَشْتَرِي بِها نَفْسَهُ أبَدًا لَكِنَّ المَكاتَبَ عَبْدٌ ما بَقِيَ عَلَيْهِ دارَهِمُ، فَكَذا المُكَلَّفُ لا يَنْجُو عَنْ رِقِّ العُبُودِيَّةِ ما دامَ لَهُ نَفْسٌ واحِدٌ في الدُّنْيا، ولِهَذا قالَ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿‎وأوْصانِي بِالصَّلاةِ والزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا﴾ [مَرْيَمَ: ٣١] وقالَ تَعالى لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ﴿واعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ﴾ [الحِجْرِ: ٩٩] . فَإنْ قِيلَ: إنَّ اللَّهَ تَعالى جَعَلَ نَفْسَهُ مُشْتَرِيًا حَيْثُ قالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ المُؤْمِنِينَ أنْفُسَهم وأمْوالَهُمْ﴾ [التَّوْبَةِ: ١١١] وهَذا يَمْنَعُ كَوْنَ المُؤْمِنِ مُشْتَرِيًا. قُلْنا: لا مُنافاةَ بَيْنَ الأمْرَيْنِ، فَهو كَمَنِ اشْتَرى ثَوْبًا بِعَبْدٍ، فَكُلُّ واحِدٍ مِنهُما بائِعٌ، وكُلُّ واحِدٍ مِنهُما مُشْتَرٍ، (p-١٧٥)فَكَذا هَهُنا وعَلى هَذا التَّأْوِيلِ فَلا يُحْتاجُ إلى تَرْكِ الظّاهِرِ وإلى حَمْلِ لَفْظِ الشِّراءِ عَلى البَيْعِ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: يَدْخُلُ تَحْتَ هَذا كُلُّ مَشَقَّةٍ يَتَحَمَّلُها الإنْسانُ في طَلَبِ الدِّينِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ المُجاهِدُ، ويَدْخُلُ فِيهِ الباذِلُ مُهْجَتَهُ الصّابِرُ عَلى القَتْلِ، كَما فَعَلَهُ أبُو عَمّارٍ وأُمُّهُ، ويَدْخُلُ فِيهِ الآبِقُ مِنَ الكُفّارِ إلى المُسْلِمِينَ، ويَدْخُلُ فِيهِ المُشْتَرِي نَفْسَهُ مِنَ الكُفّارِ بِمالِهِ كَما فَعَلَ صُهَيْبٌ، ويَدْخُلُ فِيهِ مَن يُظْهِرُ الدِّينَ والحَقَّ عِنْدَ السُّلْطانِ الجائِرِ. ورُوِيَ أنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ بَعَثَ جَيْشًا فَحاصَرُوا قَصْرًا فَتَقَدَّمَ مِنهم واحِدٌ، فَقاتَلَ حَتّى قُتِلَ فَقالَ بَعْضُ القَوْمِ: ألْقى بِيَدِهِ إلى التَّهْلُكَةِ، فَقالَ عُمَرُ: كَذَبْتُمْ رَحِمَ اللَّهُ أبا فُلانٍ، وقَرَأ: ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاةِ اللَّهِ﴾ ثُمَّ اعْلَمْ أنَّ المَشَقَّةَ الَّتِي يَتَحَمَّلُها الإنْسانُ لا بُدَّ وأنْ تَكُونَ عَلى وفْقِ الشَّرْعِ حَتّى يَدْخُلَ بِسَبَبِهِ تَحْتَ الآيَةِ، فَأمّا لَوْ كانَ عَلى خِلافِ الشَّرْعِ فَهو غَيْرُ داخِلٍ فِيهِ بَلْ يُعَدُّ ذَلِكَ مِن بابِ إلْقاءِ النَّفْسِ في التَّهْلُكَةِ نَحْوَ ما إذا خافَ التَّلَفَ عِنْدَ الِاغْتِسالِ مِنَ الجَنابَةِ فَفَعَلَ، قالَ قَتادَةُ: أما واللَّهِ ما هم بِأهْلِ حَرُوراءَ المُرّاقِ مِنَ الدِّينِ ولَكِنَّهم أصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ لَمّا رَأوُا المُشْرِكِينَ يَدَّعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ قاتَلُوا عَلى دِينِ اللَّهِ وشَرَوْا أنْفُسَهم غَضَبًا لِلَّهِ وجِهادًا في سَبِيلِهِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ﴿يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاةِ اللَّهِ﴾ أيْ لِابْتِغاءِ مَرْضاةِ اللَّهِ، و”يَشْرِي“ بِمَعْنى يَشْتَرِي. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واللَّهُ رَءُوفٌ بِالعِبادِ﴾ فَمِن رَأْفَتِهِ أنَّهُ جَعَلَ النَّعِيمَ الدّائِمَ جَزاءً عَلى العَمَلِ القَلِيلِ المُنْقَطِعِ، ومِن رَأْفَتِهِ جَوَّزَ لَهم كَلِمَةَ الكُفْرِ إبْقاءً عَلى النَّفْسِ، ومِن رَأْفَتِهِ أنَّهُ لا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها ومِن رَأْفَتِهِ ورَحْمَتِهِ أنَّ المُصِرَّ عَلى الكُفْرِ مِائَةَ سَنَةٍ إذا تابَ ولَوْ في لَحْظَةٍ أسْقَطَ كُلَّ ذَلِكَ العِقابِ. وأعْطاهُ الثَّوابَ الدّائِمَ، ومِن رَأْفَتِهِ أنَّ النَّفْسَ لَهُ والمالَ، ثُمَّ إنَّهُ يَشْتَرِي مُلْكَهُ بِمُلْكِهِ فَضْلًا مِنهُ ورَحْمَةً وإحْسانًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب