الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ﴾ الآية، يشري من الأضداد، يقال: شَرَى إذا باع، وشرى إذا اشترى. وأصله: الاستبدال، قال الله تعالى: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ﴾ [يوسف: 20]، أي: باعوه [[ينظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 16، "الأضداد" للأصمعي 18، 19، "أضداد ابن السكيت" 185، "تهذيب اللغة" 2/ 1869، ونقل عن الفراء قوله: وللعرب في شروا واشتروا مذهبان، فالأكثر منهما: أن شروا: باعوا، واشتروا: ابتاعوا، وربما جعلوهما بمعنى باعوا. وينظر: "اللسان" 4/ 2252 - 2253 "شرى"، "المفردات" ص 263، وقال: الراء والبيع يتلازمان، فالمشتري دافع الثمن وآخذ المثمن، والبائع دافع المثمن وآخذ الثمن، هذا إذا كانت المبايعة والمشاراة بناض وسلعة، فأما إذا كانت بيع سلعة بسلعة صح أن يتصور كل واحد منهما في موضع الآخر، وشريت بمعنى: بعت أكثر، وابتعت بمعنى: اشتريت أكثر، قال الله تعالى: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ﴾.]]. ومعنى بيع النفس هاهنا: بذلها لأوامر الله وما يرضاه [[ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 320، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 278، "تفسير الثعلبي" 2/ 654، "الوسيط" 1/ 312.]]. ونصب ﴿ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ﴾ على معنى المفعول له، أي: لابتغاء مرضاة الله، ثم نزع اللام منه، فوصل الفعل فنصبه [[ينظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 166، "تفسير الطبري" 2/ 320، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 279، "المحرر الوجيز" 2/ 196، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 299.]]، ولا يجوز على هذا: فعله زيدًا، أي: لزيد، ويجوز: فعله خوفًا، أي: للخوف، وذلك أن في ذكر المصدر دليلًا على الغَرَضِ الداعي إلى الفعل، وليس كذلك ذكر زيد، ولأن في قوله: فعله لزيدٍ، تضمينًا، كأنه قال: فَعَلَه لإكرامِ ولسببِ زيدٍ، وما أشبه هذا مما يكون داعيًا إلى الفعل، فلم يحتمل الكلام حذفين كما احتمل حذفًا واحدًا [[ينظر: "الكتاب" لسيبويه 1/ 367 - 370، 3/ 126، 154.]]. والمرضاة: الرِّضَى، يقال: رَضِيَ رِضًا ومَرْضَاة [[ينظر: "اللسان" 3/ 1663 - 1664 "رضى".]]. وكان الكسائي يقرأها ممالة [[قرأ الكسائي وحده: مرضاة الله، ممالة، وقرأ الباقون: مرضاة الله، بالفتح، أي بلا إمالة. ينظر: "السبعة" 180، "الحجة للقراء السبعة" 2/ 299.]]، ليدل على أن الألف فيها منقلبة عن الباء، ولم يمنعها المستعلي وهو (الضاد) [[في (ي) و (أ): الميم ثم ذكر في تصحيح نسخة [أ] أن ذكر الميم غلط لأنها ليست من حروف الاستعلاء.]] من الإمالة، كما لم يمنع من إمالة نحو: صار وخاف وطاب [["الحجة" 2/ 299 - 300 بمعناه، وحروف الاستعلاء هي حروف التفخيم، وهي سبعة مجموعة في قولك: خص ضغط قظ.]]. وكان حمزة يقف عليها بالتاء [[وقف حمزة على مرضات، بالتاء المفتوحة، والباقون يقفون عليها بالهاء. ينظر: "السبعة" ص 180، "الحجة" 2/ 299، وفي "التيسير" ص 60، أن الكسائي وأبا عمرو كانا يقفان على هاء تأنيث رسمت في المصاحف تاء بالهاء، وهو قياس مذهب ابن كثير.]]، وحجته ما حكاه سيبويه عن أبي الخطاب [[أبو الخطاب، هو: عبد الحميد بن عبد المجيد الأخفش الأكبر، تقدمت ترجمته [البقرة: 32].]]، أنه كان يقول: طَلْحَت [["الكتاب" لسيبويه 4/ 167.]]. وأنشد الأخفش: ما بَالُ عَيْني عن كَرَاها قد جَفَتْ ... مُسْبِلَةً تَسْتَنّ لَمّا عَرَفَتْ دارًا لِسَلْمى بعد حَوْلٍ قَدْ عَفَتْ ... بل جَوْزِ تَيْهَاءَ كَظَهْر الْجَحَفَتْ [[الرجز لسؤر الذئب، في "شرح شواهد الشافية" 4/ 200 مع اختلاف في الرواية، وينظر: "الخصائص" 1/ 304 "المحتسب" 2/ 92. "لسان العرب" 2/ 787 "جحف". وقوله: تَسْتَنّ، أي: تجري بدمعها، من سننت الماء: إذا أرسلته بغير تفريق، وضعت موضع رب، وجوز وسط، والتيهاء: المفازة التي يتيه فيها سالكها، والجحفة: الترس، شبه التيهاء بظهر الترس في الملامسة.]] ويجوز أن يكون لما كان المضاف إليه في التقدير أثبت التاء، كما يثبته في الوصل، أن المضاف إليه مراد [[في "الحجة": ليعلم أن المضاف إليه مراد.]]، كما أشم [[الإشمام هو: ضم الشفتين من غير انطباق بعد إسكان الحرف، وهو يرى ولا يسمع. ينظر: "الكشف" لمكي 1/ 122.]] من أشمّ في الوقف الحرفَ المضمومَ، ليعلم أنه في الوصل مضمومٌ، وكما كَسَر من كَسَر قوله: ......................... واعتقالًا بالرِّجْلِ [[هذا جزء من بيت في الرجز، وتمامه في "النوادر والخصائص" 2/ 335: علَّمَنا أصحابنا بنو عجِل ... الشغزَبِي واعتقالا بالرجِل وهو برواية: علمنا إخواننا بنو عجل ... شرب النبيذ واصطفافا بالرجل في "المخصص" 11/ 200، "الإنصاف" ص 734، والعيني 4/ 567، وقالا فيه: إن أبا عمرو سمع أبا مرار الغنوي ينشد هذا البيت، والشغزبي: ضرب من المصارعة، والاعقال: أن يدخل رجله بين رجلي صاحبه فيصرعه. ينظر تعليق المحققين على "الحجة" 2/ 301.]] ليعلم أنه في الوصل مجرور. ويدل على حُجةِ قراءة حمزة قول الراجز: إن عَدِيًا رَكِبَتْ إلى عَدِي ... وجَعَلَتْ [[في (م) لعلها: حملت.]] أمْوالَها في الحُطَمي ارْهَنْ بَنِيكَ عَنْهم ارْهَنْ بَنِي [[ورد هكذا: إنَ عديا ركبت لي عديْ ... وجعلت أموالها في الحطَميْ ارهن بنيك عنهمْ ارهن بَنِيْ وزعم ابن جني أن هذا الشعر جاهلي، ينظر: "المحتسب" 1/ 108، " الخصائص" 3/ 327، "الحجة للقراء السبعة" 2/ 301، ورهنه عنه: جعله رهنًا بدلًا منه.]]. أراد: بنيّ، فحذف ياء الإضافة للوقف، كما يخفف المثقل من نحو: سُرٍّ وضُرٍّ، فلولا أن المضاف إليه المحذوف في تقدير المثبت لرد النون في بنين، فكما لم يَرُدَّ النون في بنين فكذلك لم يقف بالهاء في (مَرْضَاةِ)، لأن المضاف إليه في تقدير الثبات في اللفظ [[من كلام أبي علي في "الحجة" 2/ 300 - 302 بتصرف، وذكر الوجهين السمين في "الدر المصون" 2/ 357 - 358.]]. فأما التفسير، فقال أكثر المفسرين: نزلت في صهيب بن سنان الرومي [[هو: أبو يحيى صهيب بن سنان الرومي، أصله من النمر، يقال: اسمه عبد الملك، ولقبه صهيب، صحابي شهير شهد المشاهد كلها توفي بالمدينة في خلافة علي - رضي الله عنه - سنة 38 هـ. انظر: "فضائل الصحابة" 2/ 828، "أسد الغابة" 3/ 36، "تقريب التهذيب" ص 278 (2954).]]، كان رجلًا من ولد النِّمر بن قاسط [[هو النمر بن قاسط بن هِنْب بن أفصى بن دعمى من أسد بن ربيعة جد جاهلي، كان له بالمدينة عقب كثير. انظر: "قبائل العرب" 1192، "الأعلام" 8/ 48.]]، فَسُبِيَ صغيرًا [[في (أ) و (م:) (صغير).]] إلى الروم، فتغير لسانه، ثم كان مملوكًا لابن جُدْعان [[هو: عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب، أحد كفار قريش، كان يقري الضيف ويطعم الجائع، ويصل الرحم ويعتق، سئل عنه الرسول ﷺ هل ينفعه ذلك؟ فقال: "لا" لأنه لم يقل يوما من الدهر: لا إله إلا الله". انظر "البداية والنهاية" 3/ 253، و19/ 516.]]، فآمن بالله وصدق النبي ﷺ، وأقبل مهاجرًا إليه، فأخذه المشركون، فقال لهم صهيب: إني شيخ كبير لا يضركم أَمِنْكُم كنت أم من غيركم، فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني؟ ففعلوا ذلك، وكان قد شرط عليهم راحلة ونفقة، فلما بلغ المدينة تلقاه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في رجال، فقال له أبوبكر: ربحَ بيعُك أبا يحيى، فقال له [[زيادة من (م).]] صهيب: وبيعك فلا يخسر، ما ذاك؟ فقال أنزل الله [[ساقطة من (م).]] فيك، وقرأ عليه هذه الآية [[هذا السياق بمعناه ذكره مقاتل 1/ 178 - 179، ورواه ابن أبي حاتم بنحوه 2/ 368 عن سعيد بن المسيب، وعزاه في "الدر المنثور" 1/ 430 إلى ابن مردويه وابن سعد والحارث ابن أبي أسامة في "مسنده"، وابن المنذر وأبي نعيم في "الحلية"، وابن عساكر، كلهم عن سعيد بن المسيب، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" 3/ 400، والطبراني في "المعجم الكبير" 8/ 37حديث رقم (7296)، والبيهقي في "الدلائل" 2/ 522، ويشهد له ما أخرجه الحاكم في "المستدرك" 3/ 398، وابن المنذر "فتح القدير" 1/ 210 عن أنس، وأخرج الطبري 2/ 321 عن عكرمة: أنها نزلت في صهيب بن سنان وأبي ذر الغفاري، كما أخرج الطبري 2/ 321، عن الربيع هذه القصة إلا أنه لم يسم صهيبا، وينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 654، "أسباب النزول" للواحدي ص 68، "تفسر البغوي" 1/ 238، وقد نسبوه لأكثر المفسرين، وكذا ذكر الحافظ ابن حجر في "العجاب" 1/ 527.]]. وقال ابن عباس في رواية عطاء: إنه بذل ماله لمولاه، وقال له: خذ مالي وسَيِّبْني، فقد آمنت بالله وحده لا شريك له، فأعطى ماله وخرج مهاجرًا [[تقدم الحديث عن هذه الرواية في المقدمة ونقل الرازي في "تفسيره" 5/ 221 عن ابن عباس أنها نزلت في صهيب وعمار وسمية أمه وياسر أبيه، وفي بلال وآخرين ذكرهم.]]. وعلى هذا يشري بمعنى: يشتري، كأنه يشتري نفسه من مولاه بماله، أو من المشركين بماله [[ينظر: "التفسير الكبير" 5/ 223.]]. وروى عن ابن عباس أيضًا في هذه الآية، أنه قال: أرى هاهنا من إذا أُمِر بتقوى الله أخذته العزة بالإثم، قال هذا: وأنا أشري نفسي فقاتله فاقتتل الرجلان [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 320، ومراد ابن عباس: أن قوله: وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم، هي في الكافر يأمره المؤمن بتقوى الله، فيرد ذلك الكافر فيقول المؤمن: وأنا أشري نفسي ابتغاء مرضاة الله، فيقتتل الرجلان، وبمعنى هذا: ما روي عن عمر أنها نزلت في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما ذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص 68، ونقله ابن حجر في "العجاب" 1/ 528، وقال: أسنده عبد بن حميد، وبمعناه أيضا ما روي عن الحسن، وذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص 68، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 658.]]، لذلك كان علي رضي الله عنه إذا قرأ هذه الآية يقول: اقتتلا ورب الكعبة [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 319، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 368، والخطيب في "تاريخ بغداد" 11/ 135، وعزاه في "الدر" 1/ 432 إلى وكيع وعبد ابن حميد والبخاري في "تاريخه" تاريخه 6/ 47.]]، وهذا كالمستنبط من الآية، وذلك أن هاتين الآيتين تتضمنان [[في (أ) و (م): يتضمنان.]] المعنى الذي أشار إليه ابن عباس [[ذكر المفسرون أقوالا أخرى في سبب النزول، فقيل: إنها نزلت في المهاجرين والأنصار، وقيل: إنها نزلت في كل شارٍ نفسه في طاعة الله وجهاد في سيله، وقيل: نزلت في أناس بأعيانهم، وقيل: نزلت في أصحاب الرجيع، وتقدمت == قصتهم. ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 320 - 322، "تفسير البغوي" 1/ 236، "العجاب" 1/ 524 - 529، والذي رجحه الطبري أن يكون معنيًا بها كل من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، كما روي عن عمر وعلي وابن عباس، وهذا لا يدفع أن تكون أنزلت في شخص بعينه كصهيب، ومعناها شامل له ولغيره.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب