الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ﴾ قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: ومن الناس من يبيع نفسه بما وعد الله المجاهدين في سبيله وابتاع به أنفسهم بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ [التوبة: ١١١] . * * * وقد دللنا على أن معنى"شرى" باع، في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته. [[انظر ما سلف ٢: ٣٤١- ٣٤٣ن ٤٥٥ وفهارس الغة.]] * * * وأما قوله:" ابتغاءَ مرضات الله" فإنه يعني أن هذا الشاري يشرى إذا اشترى طلبَ مرضاة الله. ونصب"ابتغاء" بقوله:"يشري"، فكأنه قال. ومن الناس من يَشري [نفسه] من أجل ابتغاء مرضاة الله، ثم تُرك" من أجل" وعَمل فيه الفعل. وقد زعم بعض أهل العربية أنه نصب ذلك على الفعل، [[قوله: "على الفعل" أي أنه مفعول لأجله وقد مضى مثله"على التفسير للفعل" ١: ٣٥٤ تعليق: ٤.]] على"يشرى"، كأنه قال: لابتغاء مرضاة الله، فلما نزع"اللام" عمل الفعل، قال: ومثله: ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ [البقرة: ١٩] [[انظر القول في إعراب هذه الكلمة فيما سلف ١: ٣٥٤- ٣٥٥.]] وقال الشاعر وهو حاتم: وَأَغْفِرُ عَوْرَاءَ الكَرِيمِ إدِّخَارَهُ ... وَأُعْرِضُ عَنْ قَوْلِ الَّلئِيمِ تَكَرُّمَا [[ديوانه: ٢٤، من أبيات جياد كريمة وسيبويه ١: ١٨٤، ٤٦٤ ونوادر أبي زيد: ١١٠ن الخزانة ١: ٤٩١ والعيني ٣: ٧٥ وغيرها. وفي البيت اختلاف كثير في الرواية، والشاهد فيه نصب"ادخاره" على أنه مفعول له.]] وقال: لما أذهب"اللام" أعمل فيه الفعل. وقال بعضهم: أيُّما مصدر وُضع موضعَ الشرط، [[قوله: "الشرط" كأنه فيما أظن أراد به معنى العلة والعذر يعني أنه علة وسببًا أو عذرًا لوقوع الفعل.]] وموضع"أن" فتحسن فيها"الباء" و"اللام"، فتقول:"أتيتك من خوف الشرّ -ولخوف الشر- وبأن خفتُ الشرَّ"، فالصفة غير معلومة، فحذفت وأقيم المصدرُ مقامها. [["الصفة" هي حرف الجر. وانظر ما سلف آنفًا ١: ٢٩٩ وفهرس المصطلحات في الأجزاء السالفة.]] قال: ولو كانت الصفة حرفًا واحدًا بعينه، لم يجز حذفها، كما غير جائز لمن قال:"فعلت هذا لك ولفلان" أن يسقط"اللام". * * * ثم اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية فيه ومن عنى بها. فقال بعضهم: نزلت في المهاجرين والأنصار، وعنى بها المجاهدون في سبيل الله. * ذكر من قال ذلك: ٤٠٠٠ - حدثنا الحسين بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله"، قال: المهاجرون والأنصار. * * * وقال بعضهم: نزلت في رجال من المهاجرين بأعيانهم. * ذكر من قال ذلك: ٤٠٠١ - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة:" ومن الناس مَنْ يشري نفسه ابتغاء مرضات الله"، قال: نزلت في صُهيب بن سنان، وأبي ذرّ الغفاري جُندب بن السَّكن أخذ أهل أبي ذرّ أبا ذرّ، فانفلت منهم، فقدم على النبي ﷺ، فلما رجع مهاجرًا عرَضوا له، وكانوا بمرِّ الظهران، فانفلت أيضًا حتى قدم على النبي عليه الصلاة والسلام. وأما صُهيب فأخذه أهله، فافتدى منهم بماله، ثم خرج مهاجرًا فأدركه قُنقذ بن عُمير بن جُدعان، فخرج له مما بقي من ماله، وخلَّى سبيله. [[الأثر: ٤٠٠١ - في الدر المنثور ١: ٢٤٠، في المطبوعة: "منقذ بن عمير" وهو خطأ وقد ذكر قنفد بن عمير، أبو طالب في قصيدته المشهورة وذكر ابن هشام نسبه في سيرته (انظر ١: ٢٩٥، ٣٠١) . وقد أسلم قنفد بن عمير، وله صحبة، وولاه عمر مكة، ثم عزله.]] ٤٠٠٢ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبى جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله" الآية، قال: كان رجل من أهل مكة أسلم، فأراد أن يأتي النبي ﷺ ويهاجر إلى المدينة، فمنعوه وحبسوه، فقال لهم: أعطيكم داري ومالي وما كان لي من شيء! فخلُّوا عني، فألحق بهذا الرجل! فأبوْا. ثم إنّ بعضهم قال لهم: خذوا منه ما كان له من شيء وخلُّوا عنه! ففعلوا، فأعطاهم داره وماله، ثم خرج؛ فأنزل الله عز وجل على النبي ﷺ بالمدينة:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله"، الآية. فلما دنا من المدينة تلقاه عُمر في رجال، فقال له عمر: رَبح البيعُ! قال: وبيعك فلا يخسر! قال: وما ذاك؟ قال: أنزل فيك كذا وكذا. [[الأثر: ٤٠٠٢ - في تفسير البغوي ١: ٤٨١- ٤٨٢، مع اختلاف في اللفظ.]] * * * وقال آخرون: بل عنى بذلك كل شار نفسه في طاعة الله وجهادٍ في سبيله، أو أمرٍ بمعروف. * ذكر من قال ذلك: ٤٠٠٣ - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا حسين بن الحسن أبو عبد الله، قال: حدثنا أبو عون، عن محمد، قال: حمل هشام بن عامر على الصف حتى خرقه، فقالوا: ألقى بيده!! فقال أبو هريرة:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله". [[الأثر: ٤٠٠٣ - حسين بن الحسن أبو عبد الله النصري روى عن ابن عون وغيره، وروى عنه أحمد والفلاس وبندار وغيرهم. كان من المعدودين من الثقات وكان يحفظ عن ابن عون. توفي سنة ١٨٨ن مترجم في التهذيب. و"أبو عون" كنية"ابن عون" - عبد الله بن عون المزني مولاهم. "ومحمد" هو محمد بن سيرين وهشام بن عامر بن أمية الأنصاري كان اسمه في الجاهلية"شهابًا" فغيره رسول الله ﷺ. وكان ذلك منه في غزاة كابل انظر الإصابة وغيرها. وقوله: "ألقى بيده" أي: ألقى بيده إلى التهلكة، كما هو مبين في الروايات الأخرى، وانظر ما سيأتي رقم: ٤٠٠٥، مختصرًا.]] ٤٠٠٤ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مصعب بن المقدام، قال: حدثنا إسرائيل، عن طارق بن عبد الرحمن، عن قيس بن أبي حازم، عن المغيرة، قال: بعث عمر جيشًا فحاصروا أهل حصن، وتقدم رجل من بجيلة، فقاتل، فقُتِل، فأكثر الناس فيه يقولون: ألقى بيده إلى التهلكة! قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: كذبوا، أليس الله عز وجل يقول:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد"؟ ٤٠٠٥ - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا هشام، عن قتادة، قال: حَمل هشام بن عامر على الصّف حتى شقَّه، فقال أبو هريرة:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله". ٤٠٠٦ - حدثنا سوار بن عبد الله العنبري، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا حزم بن أبي حزْم، قال: سمعت الحسن قرأ:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد"، أتدرون فيم أنزلت؟ نزلت في أن المسلم لقي الكافرَ فقال له:"قل لا إله إلا الله"، فإذا قلتها عصمتَ دمك ومالك إلا بحقهما! فأبى أن يقولها، فقال المسلم: والله لأشرِيَنَّ نفسي لله! فتقدم فقاتل حتى قتل. [[الأثر: ٤٠٠٦ -"حزم بن أبي حزم" القطعي أبو عبد الله البصري روى عن الحسن وغيره، قال أبو حاتم: صدوق لا بأس به، وهو من ثقات من بقى من أصحاب الحسن، مات سنة ٧٥. مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة: "حزام بن أبي حزم" وهو خطأ.]] ٤٠٠٧ - حدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا زياد بن أبي مسلم، عن أبي الخليل، قال: سمع عُمر إنسانًا قرأ هذه الآية:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله"، قال: استرجع عُمر فَقال: إنا لله وإنا إليه رَاجعون! قام رجلٌ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقُتل. [[الأثر: ٤٠٠٧ -"زياد بن أبي مسلم" أبو عمر الفراء البصري، روى عن صالح أبي الخليل وأبي العالية والحسن. مترجم في التهذيب. "وأبو الخليل": صالح بن أبي مريم الضبعي مولاهم تابعي، مترجم في التهذيب.]] * * * قال أبو جعفر: والذي هو أولى بظاهر هذه الآية من التأويل، ما روي عن عمر بن الخطاب وعن علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم، من أن يكون عُنى بها الأمرُ بالمعروف والناهي عن المنكر. وذلك أن الله جل ثناؤه وصَف صفة فريقين: أحدهما منافقٌ يقول بلسانه خلافَ ما في نفسه، وإذا اقتدر على معصية الله ركبها، وإذا لم يقتدر رَامَها، وإذا نُهى أخذته العزّة بالإثمٌ بما هو به إثم، والآخر منهما بائعٌ نفسه، طالب من الله رضا الله. فكان الظاهر من التأويل أن الفريقَ الموصوف بأنه شرى نفسه لله وطلب رضاه، إنما شراها للوثُوب بالفريق الفاجر طلبَ رضا الله. فهذا هو الأغلب الأظهر من تأويل الآية. وأما ما رُوي من نزول الآية في أمر صُهيب، فإنّ ذلك غير مستنكرٍ، إذ كان غيرَ مدفوع جوازُ نزول آية من عند الله على رسوله ﷺ بسبب من الأسباب، والمعنيُّ بها كلُّ من شمله ظاهرها. فالصواب من القول في ذلك أن يقال: إنّ الله عز وجل وصف شاريًا نفسَه ابتغاء مرضاته، فكل من باعَ نفسه في طاعته حتى قُتل فيها، أو استقتل وإن لم يُقتل، [[في المطبوعة: "واستقتل" بواو العطف، وهو فاسد، والصواب ما أثبت.]] فمعنيٌّ بقوله:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله"- في جهاد عدو المسلمين كان ذلك منه، أو في أمرٍ بمعروف أو نهي عن منكر. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (٢٠٧) ﴾ قد دللنا فيما مضى على معنى"الرأفة"، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع، وأنها رقة الرحمة [[انظر ما سلف ٣: ١٧١، ١٧٢.]] * * * فمعنى ذلك: والله ذو رحمة واسعة بعبده الذي يشري نفسه له في جهاد من حادَّه في أمره من أهل الشرك والفُسوق وبغيره من عباده المؤمنين في عاجلهم وآجل معادهم، فينجز لهم الثواب على ما أبلوا في طاعته في الدنيا، ويسكنهم جناته على ما عملوا فيها من مرضاته. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى السلم في هذا الموضع. فقال بعضهم: معناه: الإسلام. * ذكر من قال ذلك: ٤٠٠٨ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:" ادخلوا في السِّلم"، قال: ادخلوا في الإسلام. ٤٠٠٩ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة قوله:" ادخلوا في السلم"، قال: ادخلوا في الإسلام. ٤٠١٠ - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:" ادخلوا في السلم كافة"، قال: السلم: الإسلام. ٤٠١١ - حدثني موسى بن هارون، قال: أخبرنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" ادخلوا في السلم"، يقول: في الإسلام. ٤٠١٢ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن النضر بن عربي، عن مجاهد: ادخلوا في الإسلام. ٤٠١٣ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:" ادخلوا في السلم". قال: السلم: الإسلام. ٤٠١٤ - حدثت عن الحسين بن فرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد، قال: حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول:" ادخلوا في السلم": في الإسلام. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: ادخلوا في الطاعة. * ذكر من قال ذلك: ٤٠١٥ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:" ادخلوا في السلم"، يقول: ادخلوا في الطاعة. * * * وقد اختلف القرأة في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء أهل الحجاز:"ادخلوا في السَّلم" بفتح السين، وقرأته عامة قرأة الكوفيين بكسر السين. فأما الذين فتحوا"السين" من"السلم"، فإنهم وجهوا تأويلها إلى المسالمة، بمعنى: ادخلوا في الصلح والمساومة وترك الحرب وإعطاء الجزية. وأما الذين قرءوا ذلك بالكسر من"السين" فإنهم مختلفون في تأويله. فمنهم من يوجهه إلى الإسلام، بمعنى ادخلوا في الإسلام كافة، ومنهم من يوجّهه إلى الصلح، بمعنى: ادخلوا في الصلح، ويستشهد على أن"السين" تكسر، وهي بمعنى الصلح بقول زهير ابن أبي سلمى: وَقَدْ قُلْتُمَا إنْ نُدْرِكِ السِّلْمَ وَاسِعًا ... بِمَالٍ وَمَعْرُوفٍ مِنَ الأمْرِ نَسْلَمِ [[ديوانه: ١٦ من معلقته النبيلة. والضمير في"قلتما" للساعيان في الصلح وهما الحارث ابن عوف وهرم بن سنان، وذلك في حرب عبس وذبيان. وقوله: "واسعًا" أي: قد استقر الأمرواطمأنت النفوس فاتسع للناس فيه ما لا يتسع لهم في زمن الحرب. وكان الحارث وهرم قد حملا الحمالة في أموالهما، ليصطلح الناس.]] وأولى التأويلات بقوله:" ادخلوا في السلم"، قول من قال: معناه: ادخلوا في الإسلام كافة. وأمّا الذي هو أولى القراءتين بالصواب في قراءة ذلك، فقراءة من قرأ بكسر "السين" لأن ذلك إذا قرئ كذلك - وإن كان قد يحتمل معنى الصلح - فإن معنى الإسلام: ودوام الأمر الصالح عند العرب، أغلبُ عليه من الصلح والمسالمة، وينشد بيت أخي كندة: دَعَوْتُ عَشِيرَتِي لِلسِّلْمِ لَمّا ... رَأَيْتُهُمُ تَوَلَّوْا مُدْبِرينَا [[من أبيات لامرئ القيس بن عابس الكندي وتروى لغيره. المؤتلف والمختلف: ٩ والوحشيات: ٧٥ وغيرهما وكان امرؤ القيس قد وفد على رسول الله صلى اله عليه وسلم ولم يرتد في أيام أبي بكر، وأقام على الإسلام وكان له في الردة غناء وبلاء، وقد قال الأبيات في زمن الردة وقبل البيت: أَلاَ أَبْلِغْ أبَا بَكْرٍ رَسُولاً ... وَأَبْلِغْهَا جَمِيعَ المُسْلِمِينَا فَلَسْتُ مُجَاوِرًا أَبَدًا قَبِيلاً ... بِمَا قَالَ الرَّسُولُ مُكَذِّبِينَا دَعَوْتُ عَشِيرَتِي لِلسِّلْمِ حَتَّى رَأَيْتُهُمُ أَغَارُوا مُفْسِدينَا]] بكسر السين، بمعنى: دعوتهم للإسلام لما ارتدُّوا، وكان ذلك حين ارتدت كندة مع الأشعث [[هو الأشعث بن قيس الكندين وكان وفد على رسول الله ﷺ في السنة العاشرة في سبعين راكبا من كندة ثم ارتد فيمن ارتد من العرب. وقاتل في الردة حتى هزم ثم استسلم وأسر وقدموا به على أبي بكر فقال له أبو بكر: ماذا تراني أصنع بك؟ فإنك قد فعلت ما علمت قال الأشعث: تمن علي فتفكني من الحديد وتزوجني أختك فإني قد راجعت وأسلمت. فقال أبو بكر: قد فعلت! فزوجه ام فروة بنت أبي قحافة، فكان بالمدينة حتى فتح العراق. ثم شهد الفتوح حتى مات سنة ٤٠، وله ثلاث وستون سنة.]] بعد وَفاة رسول الله ﷺ. وقد كان أبو عمرو بن العلاء يقرأ سائرَ ما في القرآن من ذكر"السلم" بالفتح سوى هذه التي في سورة البقرة، فإنه كان يخصُّها بكسر سينها توجيهًا منه لمعناها إلى الإسلام دون ما سواها. وإنما اخترنا ما اخترنا من التأويل في قوله:" ادخلوا في السلم" وصرفنا معناه إلى الإسلام، لأن الآية مخاطب بها المؤمنون، فلن يعدوَ الخطاب إذ كان خطابًا للمؤمنين من أحد أمرين: إما أن يكون خطابًا للمؤمنين بمحمد المصدقين به وبما جاء به، فإن يكن ذلك كذلك، فلا معنى أن يقال لهم وهم أهل الإيمان:"ادخلوا في صلح المؤمنين ومسالمتهم"، لأن المسالمة والمصالحة إنما يؤمر بها من كان حربًا بترك الحرب، فأما الموالي فلا يجوز أن يقال له:"صالح فلانا"، ولا حرب بينهما ولا عداوة. = أو يكون خطابًا لأهل الإيمان بمن قبل محمد ﷺ من الأنبياء المصدِّقين بهم، وبما جاءوا به من عند الله المنكرين محمدًا ونبوته، فقيل لهم:" ادخلوا في السلم"، يعني به الإسلام، لا الصُّلح. لأن الله عز وجل إنما أمر عباده بالإيمان به وبنبيه محمد ﷺ وما جاء به، وإلى الذي دعاهم دون المسالمة والمصالحة. بل نهي نبيه ﷺ في بعض الأحوال عن دعاء أهل الكفر إلى الصلح [[في المطبوعة: ". . عن دعاء أهل الكفر إلى الإسلام" وهو خطأ لا شك فيه، سبق قلم الكاتب فوضع"الإسلام" مكان"الصلح" ومحال أن ينهى الله نبيه عن دعاء أحد إلى الإسلام والسياق دال على الصواب كما ترى.]] فقال: (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ) [محمد: ٣٥] وإنما أباحَ له ﷺ في بعض الأحوال إذا دعَوه إلى الصلح ابتداءَ المصالحة، فقال له جل ثناؤه: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾ [الأنفال: ٦١] فأما دعاؤهم إلى الصُّلح ابتداءً، فغير موجود في القرآن، فيجوزُ توجيه قوله:" ادخلوا في السلم" إلى ذلك. * * * قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فأيّ هذين الفريقين دعى إلى الإسلام كافة؟ قيل قد اختلف في تأويل ذلك. فقال بعضهم: دعى إليه المؤمنون بمحمد ﷺ، وما جاء به. * * * وقال آخرون: قيل: دُعي إليه المؤمنون بمن قبل محمد ﷺ من الأنبياء المكذبون بمحمد. * * * فإن قال: فما وجه دعاء المؤمن بمحمد وبما جاء به إلى الإسلام؟ قيل: وجه دُعائه إلى ذلك الأمرُ له بالعمل بجميع شرائعه، وإقامة جميع أحكامه وحدوده، دون تضييع بعضه والعمل ببعضه. وإذا كان ذلك معناه، كان قوله" كافة" من صفة"السلم"، ويكون تأويله: ادخلوا في العمل بجميع معاني السلم، ولا تضيعوا شيئًا منه يا أهل الإيمان بمحمد وما جاء به. وبنحو هذا المعنى كان يقول عكرمة في تأويل ذلك. ٤٠١٦ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله:" ادخلوا في السلم كافة"، قال: نزلت في ثعلبة، وعبد الله بن سلام وابن يامين وأسد وأسَيْد ابني كعب وسَعْيَة بن عمرو [[في المطبوعة: "شعبة" وفي الدر المنثور: "سعيد" والذي في أسماء يهود: "سعية" و"سعنة" وأكثر هذه الأسماء من أسماء يهود مما يصعب تحقيقها ويطول، لكثرة الاختلاف فيها.]] وقيس بن زيد- كلهم من يهود- قالوا: يا رسول الله، يوم السبت يومٌ كنا نعظمه، فدعنا فلنُسبِت فيه! وإن التوراة كتاب الله، فدعنا فلنقم بها بالليل! فنزلت:" يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان" [[الأثر: ٤٠١٦ - في الدر المنثور ١: ٢٤١.]] * * * فقد صرح عكرمة بمعنى ما قلنا في ذلك من أن تأويل ذلك دعاء للمؤمنين إلى رَفض جميع المعاني التي ليست من حكم الإسلام، والعمل بجميع شرائع الإسلام، والنهي عن تضييع شيء من حدوده. * * * وقال آخرون: بل الفريق الذي دُعي إلى السلم فقيل لهم:"ادخلوا فيه" بهذه الآية هم أهل الكتاب، أمروا بالدخول في الإسلام. * ذكر من قال ذلك: ٤٠١٧ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال. قال ابن عباس في قوله:" ادخلوا في السلم كافة"، يعني أهل الكتاب. ٤٠١٨ - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قول الله عز وجل:" ادخلوا في السلم كافة"، قال: يعني أهل الكتاب. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله جل ثناؤه أمر الذين آمنوا بالدخول في العمل بشرائع الإسلام كلها، وقد يدخل في"الذين آمنوا" المصدِّقون بمحمد ﷺ، وبما حاء به، والمصدقون بمن قبله من الأنبياء والرسل، وما جاءوا به، وقد دعا الله عز وجل كلا الفريقين إلى العمل بشرائع الإسلام وحدوده، والمحافظة على فرائضه التي فرضها، ونهاهم عن تضييع شيء من ذلك، فالآية عامة لكل من شمله اسم"الإيمان"، فلا وجه لخصوص بعض بها دون بعض. وبمثل التأويل الذي قلنا في ذلك كان مجاهد يقول. ٤٠١٩ - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:" ادخلوا في السلم كافة"، قال: ادخلوا في الإسلام كافة، ادخلوا في الأعمال كافة.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب