الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقاتِلُوهم حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ويَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إلّا عَلى الظّالِمِينَ﴾ فِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قالَ القَوْمُ: هَذِهِ الآيَةُ ناسِخَةٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تُقاتِلُوهم عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكم فِيهِ﴾ [البقرة: ١٩١] والصَّحِيحُ أنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأنَّ البِدايَةَ بِالمُقاتَلَةِ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ نَفَتْ حُرْمَتَهُ أقْصى ما في البابِ أنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ عامَّةٌ، ولَكِنْ مَذْهَبَ الشّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو الصَّحِيحُ أنَّ العامَّ سَواءٌ كانَ مُقَدَّمًا عَلى المُخَصَّصِ أوْ مُتَأخِّرًا عَنْهُ فَإنَّهُ يَصِيرُ مَخْصُوصًا بِهِ واللَّهُ أعْلَمُ. * * * المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في المُرادِ بِالفِتْنَةِ هَهُنا وُجُوهٌ: أحَدُهُما: أنَّها الشِّرْكُ والكُفْرُ، قالُوا: كانَتْ فِتْنَتُهم أنَّهم كانُوا يَضْرِبُونَ ويُؤْذُونَ أصْحابَ النَّبِيِّ ﷺ بِمَكَّةَ حَتّى ذَهَبُوا إلى الحَبَشَةِ، ثُمَّ واظَبُوا عَلى ذَلِكَ الإيذاءِ حَتّى ذَهَبُوا إلى المَدِينَةِ وكانَ غَرَضُهم مِن إثارَةِ تِلْكَ الفِتْنَةِ أنْ يَتْرُكُوا دِينَهم ويَرْجِعُوا كُفّارًا، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآيَةَ، والمَعْنى: قاتِلُوهم حَتّى تَظْهَرُوا عَلَيْهِمْ فَلا يَفْتِنُوكم عَنْ دِينِكم فَلا تَقَعُوا في الشِّرْكِ. وثانِيها: قالَ أبُو مُسْلِمٍ: مَعْنى الفِتْنَةِ هَهُنا الجُرْمُ، قالَ: لِأنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَ بِقِتالِهِمْ حَتّى لا يَكُونَ مِنهُمُ القِتالُ الَّذِي إذا بَدَأُوا بِهِ كانَ فِتْنَةً عَلى المُؤْمِنِينَ لِما يَخافُونَ عِنْدَهُ مِن أنْواعِ المَضارِّ. فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ يُقالُ: ﴿وقاتِلُوهم حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ مَعَ عِلْمِنا بِأنَّ قِتالَهم لا يُزِيلُ الكُفْرَ ولَيْسَ يَلْزَمُ مِن هَذا أنَّ خَبَرَ اللَّهِ لا يَكُونُ حَقًّا ؟ قُلْنا: الجَوابُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ هَذا مَحْمُولٌ عَلى الأغْلَبِ لِأنَّ الأغْلَبَ عِنْدَ قِتالِهِمْ زَوالُ الكُفْرِ والشِّرْكِ، لِأنَّ مَن قُتِلَ فَقَدْ زالَ كُفْرُهُ، ومَن لا يُقْتَلُ يُخافُ مِنهُ الثَّباتُ عَلى الكُفْرِ، فَإذا كانَ هَذا هو الأغْلَبُ جازَ أنْ يُقالَ ذَلِكَ. الجَوابُ الثّانِي: أنَّ المُرادَ قاتِلُوهم قَصْدًا مِنكم إلى زَوالِ الكُفْرِ، لِأنَّ الواجِبَ عَلى المُقاتِلِ لِلْكُفّارِ أنْ يَكُونَ مُرادُهُ هَذا، ولِذَلِكَ مَتى ظَنَّ أنَّ مَن يُقاتِلُهُ يُقْلِعُ عَنِ الكُفْرِ بِغَيْرِ القِتالِ وجَبَ عَلَيْهِ العُدُولُ عَنْهُ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾ فَهَذا يَدُلُّ عَلى حَمْلِ الفِتْنَةِ عَلى الشِّرْكِ، لِأنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الشِّرْكِ وبَيْنَ أنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ واسِطَةٌ، والمُرادُ مِنهُ أنْ يَكُونَ تَعالى هو المَعْبُودَ المُطاعَ دُونَ سائِرِ ما يُعْبَدُ ويُطاعُ غَيْرُهُ، فَصارَ التَّقْدِيرُ كَأنَّهُ تَعالى قالَ: وقاتِلُوهم حَتّى يَزُولَ الكُفْرُ ويَثْبُتَ الإسْلامُ، وحَتّى يَزُولَ ما يُؤَدِّي إلى العِقابِ (p-١١٤)ويَحْصُلَ ما يُؤَدِّي إلى الثَّوابِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿تُقاتِلُونَهم أوْ يُسْلِمُونَ﴾ [الفتح: ١٦]، وفي ذَلِكَ بَيانُ أنَّهُ تَعالى إنَّما أمَرَ بِالقِتالِ لِهَذا المَقْصُودِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنِ انْتَهَوْا﴾ فالمُرادُ: فَإنِ انْتَهَوْا عَنِ الأمْرِ الَّذِي لِأجْلِهُ وجَبَ قِتالُهم، وهو إمّا كُفْرُهم أوْ قِتالُهم، فَعِنْدَ ذَلِكَ لا يَجُوزُ قِتالُهم، وهو كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهم ما قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: ٣٨] . * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلا عُدْوانَ إلّا عَلى الظّالِمِينَ﴾ فَفِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: فَإنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ، أيْ فَلا قَتْلَ إلّا عَلى الَّذِينَ لا يَنْتَهُونَ عَلى الكُفْرِ فَإنَّهم بِإصْرارِهِمْ عَلى كُفْرِهِمْ ظالِمُونَ لِأنْفُسِهِمْ عَلى ما قالَ تَعالى: ﴿إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣] . فَإنْ قِيلَ: لَمْ سُمِّيَ ذَلِكَ القَتْلُ عُدْوانًا مَعَ أنَّهُ في نَفْسِهِ حَقٌّ وصَوابٌ ؟ قُلْنا: لِأنَّ ذَلِكَ القَتْلَ جَزاءُ العُدْوانِ فَصَحَّ إطْلاقُ اسْمِ العُدْوانِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها﴾ [الشورى: ٤٠] وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكم فاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدى عَلَيْكُمْ﴾، ﴿ومَكَرُوا ومَكَرَ اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٥٤] ﴿فَيَسْخَرُونَ مِنهم سَخِرَ اللَّهُ مِنهُمْ﴾ [التوبة: ٧٩]، والثّانِي: إنْ تَعَرَّضْتُمْ لَهم بَعْدَ انْتِهائِهِمْ عَنِ الشِّرْكِ والقِتالِ كُنْتُمْ أنْتُمْ ظالِمِينَ فَنُسَلِّطَ عَلَيْكم مَن يَعْتَدِي عَلَيْكم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب