الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿وقاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ويَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إلاَّ عَلى الظّالِمِينَ ﴾ [البقرة: ١٩٣].
بعدَ أنْ كانَ قتالُ المشرِكِينَ إنّما هو إذا خُشِيَ عُدْوانُهم، دفعًا لِصَوْلَتِهم، وعند صدِّهم عنِ المسجدِ الحرامِ، بيَّنَ سبحانَهُ أنّ للمؤمنينَ بعد ذلك قِتالَهم، لإلحاقِ الضَّعْفِ بهم، وهذا سببٌ للقتالِ أوسعُ مِن الأسبابِ الأُولى.
وقد جعَلَ بعضُ السَّلفِ هذه الآيةَ ناسخةً للآياتِ السابقةِ، فقد روى ابنُ جريرٍ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ، قولَهُ: ﴿ولا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ [البقرة: ١٩١]: «كانُوا لا يُقاتِلونَ فيه حتّى يُبدَؤوا بالقِتالِ، ثمَّ نُسِخَ بعدَ ذلك، فقال: ﴿وقاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾، حتّى لا يكونَ شِرْكٌ، ﴿ويَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾، أنْ يُقالَ: لا إلَهَ إلاَّ اللهُ، عليها قاتَلَ نبيُّ اللهِ، وإليها دَعا»[[«تفسير الطبري» (٣/٢٩٥ ـ ٢٩٦).]].
فتنةُ الكفرِ أشدُّ من فتنةِ القتلِ:
أمرَ اللهُ بقتالِ المشرِكِينَ حتّى لا تكونَ فِتْنةٌ، والفِتْنةُ هنا الكفرُ، وهذا دليلٌ على أنّ نَشْرَ أسبابِ الكفرِ من أقوالٍ وكتبٍ، وإذاعتَها، والتهاوُنَ مع أصحابِها: أعظَمُ مِنِ انتشارِ أسبابِ القتلِ، لأنّ الكفرَ أكبَرُ مِن القتلِ وأشَدُّ.
وفي الآيةِ: وجوبُ دفعِ أسبابِ فتنةِ الكفرِ عنِ المسلِمِينَ ولو بالقتلِ، وفتنةُ الكُفّارِ هي كُفْرُهم، فإذا قوِيَتْ شَوْكَتُهم، تَبِعَهمُ المؤمنونَ.
روى ابنُ جريرٍ الطبريُّ، مِن حديثِ ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهِدٍ، في قولِ اللهِ: ﴿والفِتْنَةُ أشَدُّ مِنَ القَتْلِ﴾ [البقرة: ١٩١]، قال: «ارتدادُ المؤمنِ إلى الوَثنِ أشدُّ عليهِ مِن القتلِ»[[«تفسير الطبري» (٣/٢٩٤).]].
وقد أمرَنا اللهُ بمقاتَلَتِهم حتّى تندفِعَ فِتْنَتُهم عنِ المسلِمِينَ، لا أن تندفِعَ فتنتُهم كلُّها عن أنْفُسِهم، لأنّ هذا محالٌ، فالكُفّارُ باقُونَ إلى قيامِ الساعةِ، وفتنتُهم تُدفَعُ بثلاثةِ أمورٍ:
أوَّلًا: أن يدخُلُوا في الإسلامِ، ويَأْمَنوا مِن عقابِ اللهِ، ويأمَنَ المؤمنونَ من كُفْرِهم.
ثـانيًـا: أن يُقتَلوا ويُكفى المؤمنونَ شرَّ كُفْرِهم.
ثالثًا: أن يُذَلُّوا بالجِزْيةِ، فلا تَكونَ لهم شَوْكةٌ أو قوَّةٌ يتشوَّفُ المؤمِنُ بسببِها إلى الاقتداءِ بهم والتأسِّي بحالِهم، فإنّ الجِزْيةَ فُرِضَتْ صَغارًا لهم، والذليلُ لا يتأثَّرُ الناسُ بقولِه، وذلك أنّ النفوسَ جُبِلَتْ على حُبِّ العظيمِ القويِّ والتأسِّي به، فجعَلَ اللهُ الجِزْيةَ صَغارًا عليهم: ﴿حَتّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وهُمْ صاغِرُونَ ﴾ [التوبة: ٢٩].
وذلك حتّى تُحمى بَيْضَةُ المسلِمينَ مِن تسلُّلِ رأيِ الكفرِ وقالَتِهِ واعتقادِهِ إليهم بإذلالِ أصحابِ الكُفْرِ، ويضعُفَ أمرُهُمْ عن التربُّصِ بالمؤمنينَ بمحاوَلَةِ العدوانِ ولو بعدَ حينٍ.
وهذا في أهلِ الكتابِ مِن اليهودِ والنصارى، وأمّا المشرِكُونَ الوثنيُّون، فلا يُتقبَّلُ منهم إلاَّ الإسلامُ أو القَتْلُ، لقولِهِ ﷺ: (أُمِرْتُ أنْ أُقاتِلَ النّاسَ حَتّى يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلاَّ اللهُ وأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ...)، الحديثَ[[أخرجه البخاري (٢٥) (١/١٤)، ومسلم (٢٢) (١/٥٣)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.]]، وهذا في المشرِكِينَ.
ولِذا لم يأخُذِ النبيُّ مِن مُشرِكٍ جِزْيةً، وإنّما أخَذَها مِن أهلِ الكتابِ، ويأتي بيانُه بإذنِ اللهِ.
وحمَلَ بعضُ السَّلَفِ كابنِ عُمَرَ الآيةَ: ﴿وقاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ على خوفِ المؤمنينَ مِن فِتْنةِ الكفّارِ، لِقلَّةِ المؤمِنِينَ وكثرةِ الكفّارِ، وأنّ الآيةَ لا تُؤخَذُ على عمومِها وإطلاقِها في كلِّ حالٍ، فقد أخرَجَ البخاريُّ، عن نافعٍ، قال: «جاءَ رَجُلانِ إلى ابنِ عُمَرَ أيّامَ فِتْنةِ ابنِ الزُّبَيْرِ، فقالا: إنّ الناسَ صَنَعُوا ما تَرى وأنتَ ابنُ عُمَرَ وصاحبُ النبيِّ ﷺ، فما يمنعُكَ أن تخرُجَ؟ فقال: يَمْنَعُني أنّ اللهَ حَرَّمَ دَمَ أخي، فقالا: ألم يقُلِ اللَّهُ تعالى: ﴿وقاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ويَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾ ؟ فقال ابنُ عمرَ: «قاتَلْنا مَعَ رسولِ اللهِ حتّى لم تكُنْ فِتْنةٌ وكان الدِّينُ للهِ، وأنتُم تُرِيدُونَ أن تُقاتِلُوا حتّى تكونَ فِتْنةٌ، ويكونَ الدِّينُ لغيرِ اللهِ»[[أخرجه البخاري (٤٥١٣) (٦/٢٦).]]، قال ابنُ عمرَ: «كان الإسلامُ قليلًا فكان الرَّجُلُ يُفتَنُ في دِينِهِ، إمّا قتَلُوهُ، وإمّا عذَّبُوه، حتّى كَثُرَ الإسلامُ، فلم تكُنْ فتنةٌ»[[أخرجه البخاري (٤٥١٤) (٦/٢٧).]].
وقولُه: ﴿فَإنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إلاَّ عَلى الظّالِمِينَ ﴾، أيْ: فإنِ انتهَوْا عن نقضِ الصُّلْحِ، أو فإنِ انتهَوْا عنِ الشِّرْكِ بأنْ آمَنُوا، فلا عُدْوانَ عليهم.
الحِكْمةُ مِن مشروعيَّةِ الجِهاد:
وفي الآيةِ: دليلٌ على أنّ الأصلَ في مشروعيَّةِ الجهادِ هو إبلاغُ الدِّين، وتقويةُ الإسلامِ والمسلمين، وإضعافُ الكفرِ والكافرين، وذلك أنّ قولَه: ﴿حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ ليس المرادُ منه هو إزالةَ الكُفرِ وأهلِه، وذلك أنّ اللهَ في سابِقِ عِلْمِهِ وتقديرِهِ بقاءُ الكُفْرِ والكفارِ إلى آخِرِ الزَّمانِ لحكمةٍ اقتضَتْ ذلك، ولكنَّ المرادَ هو إضعافُ شَوْكَتِهم وهَيْبتِهم، حتّى لا يُرْهِبوا المؤمِنِينَ، ولا تتشوَّفَ نفوسُ ضعفاءِ المؤمِنِينَ إلى تقليدِهم لقوَّتِهم، ولا يجِدَ المنافِقُونَ عَضُدًا قويًّا خارجًا لهم.
وعلى هذا: فأعلى مصالحِ الجهادِ: نَشْرُ الحقِّ، وإضعافُ الكفرِ وتقويةُ الإسلامِ وحمايتُهُ، ثمَّ يليها المصالحُ التابِعةُ لذلك، كأخذِ المالِ غنيمةً وفَيْئًا وجِزْيةً.
وقد جاء في السُّنَّةِ نصوصٌ كثيرةٌ تدُلُّ على أنّ المرادَ بالجهادِ الرِّفْعةُ والعُلُوُّ، وأنّ تَرْكَهُ يُورِثُ ذِلَّةً وصَغارًا، ففي «سُنَنِ أبي داودَ»، مِن حديثِ عَطاءٍ الخُراسانِيِّ، عن نافِعٍ، عن ابنِ عُمَرَ، قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: (إذا تَبايَعْتُمْ بِالعِينَةِ، وأَخَذْتُمْ أذْنابَ البَقَرِ، ورَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وتَرَكْتُمُ الجِهادَ، سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لا يَنْزِعُهُ حَتّى تَرْجِعُوا إلى دِينِكُمْ) [[أخرجه أبو داود (٣٤٦٢) (٣/٢٧٤).]].
{"ayah":"وَقَـٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةࣱ وَیَكُونَ ٱلدِّینُ لِلَّهِۖ فَإِنِ ٱنتَهَوۡا۟ فَلَا عُدۡوَ ٰنَ إِلَّا عَلَى ٱلظَّـٰلِمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق