الباحث القرآني

﴿وقاتِلُوهم حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ ضَمِيرُ المَفْعُولِ عائِدٌ عَلى مَن قاتَلَهُ، وهم كُفّارُ مَكَّةَ، والفِتْنَةُ هُنا الشِّرْكُ وما تابَعَهُ مِن أذى المُسْلِمِينَ، أُمِرُوا بِقِتالِهِمْ حَتّى لا يُعْبَدَ غَيْرُ اللَّهِ، ولا يُسَنَّ بِهِمْ سُنَّةُ أهْلِ الكِتابِ في قَبُولِ الجِزْيَةِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ، والرَّبِيعُ، والسُّدِّيُّ. أعْنِي: أنَّ الفِتْنَةَ هُنا الشِّرْكُ وما تابَعَهُ مِنَ الأذى، وقِيلَ: الضَّمِيرُ لِجَمِيعِ الكُفّارِ، أُمِرُوا بِقِتالِهِمْ وقَتْلِهِمْ في كُلِّ مَكانٍ، فالآيَةُ عامَّةٌ تَتَناوَلُ كُلَّ كافِرٍ مِن مُشْرِكٍ وغَيْرِهِ، ويُخَصُّ مِنهم بِالجِزْيَةِ مَن دَلَّ (p-٦٨)الدَّلِيلُ عَلَيْهِ، وقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ مَن قالَ: إنَّها ناسِخَةٌ، لِقَوْلِهِ: ”﴿ولا تُقاتِلُوهُمْ﴾ [البقرة: ١٩١]“ . قالَ في (المُنْتَخَبِ): والصَّحِيحُ، أنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هَذِهِ الصِّيغَةُ عامَّةٌ وما قَبْلَهُ خاصٌّ، وهو: ﴿ولا تُقاتِلُوهم عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ [البقرة: ١٩١]، ومَذْهَبُ الشّافِعِيِّ تَخْصِيصُ العامِّ، سَواءٌ تَقَدَّمَ عَلى المُخَصَّصِ أمْ تَأخَّرَ عَنْهُ. وقالَ أبُو مُسْلِمٍ: الفِتْنَةُ هُنا، القِتالُ في الحَرَمِ، قالَ أمَرَهُمُ اللَّهُ بِقِتالِهِمْ حَتّى لا يَكُونَ مِنهُمُ القِتالُ، الَّذِي إذا بَدَءُوا بِهِ كانَ فِتْنَةً عَلى المُؤْمِنِينَ لِما يَخافُونَ مِن أنْواعِ المَضارِّ. و”حَتّى“ هُنا لِلْغايَةِ أوْ لِلتَّعْلِيلِ، وإذا فُسِّرَتِ الفِتْنَةُ بِالكُفْرِ، والكُفْرُ لا يَلْزَمُ زَوالُهُ بِالقِتالِ، فَكَيْفَ غَيّا الأمْرَ بِالقِتالِ بِزَوالِهِ ؟ والجَوابُ: أنَّ ذَلِكَ عَلى حُكْمِ الغالِبِ والواقِعِ، وذَلِكَ أنَّ مَن قُتِلَ فَقَدِ انْقَطَعَ كُفْرُهُ وزالَ، ومَن عاشَ خافَ مِنَ الثَّباتِ عَلى كُفْرِهِ، فَأسْلَمَ، أوْ يَكُونُ المَعْنى: وقاتِلُوهم قَصْدًا مِنكم إلى زَوالِ الكُفْرِ: لِأنَّ الواجِبَ في قِتالِ الكُفّارِ أنْ يَكُونَ القَصْدُ زَوالَ الكُفْرِ، ولِذَلِكَ إذا ظَنَّ أنَّهُ يُقْلِعُ عَنِ الكُفْرِ بِغَيْرِ القِتالِ وجَبَ عَلَيْهِ العُدُولُ عَنْهُ. ﴿ويَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾ الدِّينُ هُنا: الطّاعَةُ، أيْ: يَكُونَ الِانْقِيادُ خالِصًا لِلَّهِ، وقِيلَ: الدِّينُ هُنا السُّجُودُ والخُضُوعُ لِلَّهِ وحْدَهُ، فَلا يُسْجَدُ لِغَيْرِهِ، وغَيّى هُنا الأمْرُ بِالقِتالِ بِشَيْئَيْنِ، أحَدُهُما: انْتِفاءُ الفِتْنَةِ، والثّانِي: ثُبُوتُ الدِّينِ لِلَّهِ، وهو عَطْفُ مُثْبَتٍ عَلى مَنفِيٍّ، وهُما في مَعْنًى واحِدٍ ومُتَلازِمانِ: لِأنَّهُ إذا انْتَفى الشِّرْكُ بِاللَّهِ كانَ تَعالى هو المَعْبُودُ المُطاعُ، وعَلى تَفْسِيرِ أبِي مُسْلِمٍ في الفِتْنَةِ يَكُونُ قَدْ غَيّى بِأمْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، أحَدُهُما: انْتِفاءُ القِتالِ في الحَرَمِ، والثّانِي: خُلُوصُ الدِّينِ لِلَّهِ تَعالى. قِيلَ وجاءَ في الأنْفالِ: ﴿ويَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾ [الأنفال: ٣٩]، ولَمْ يَجِئْ هُنا ”كُلُّهُ“: لِأنَّ آيَةَ الأنْفالِ في الكُفّارِ عُمُومًا، وهُنا في مُشْرِكِي مَكَّةَ، فَناسَبَ هُناكَ التَّعْمِيمُ، ولَمْ يُحْتَجْ هُنا إلَيْهِ. قِيلَ: وهَذا لا يَتَوَجَّهُ إلّا عَلى قَوْلِ مَن جَعَلَ الضَّمِيرَ في ”وقاتِلُوهم“ عائِدًا عَلى أهْلِ مَكَّةَ عَلى أحَدِ القَوْلَيْنِ، وراجَعَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ في الخُرُوجِ في فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مُسْتَدِلًّا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿وإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾ [الحجرات: ٩]، فَعارَضَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ومَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا﴾ [النساء: ٩٣]، فَقالَ: ألَمْ يَقِلْ: ﴿وقاتِلُوهم حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾، فَأجابَهُ ابْنُ عُمَرَ بِأنّا فَعَلْنا ذَلِكَ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إذْ كانَ الإسْلامُ قَلِيلًا، وكانَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ عَنْ دِينِهِ بِقَتْلِهِ أوْ تَعْذِيبِهِ، وكَثُرَ الإسْلامُ فَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، وكانَ الدِّينُ لِلَّهِ، وأنْتُمْ تُقاتِلُونَ حَتّى تَكُونَ فِتْنَةٌ ويَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللَّهِ. ﴿فَإنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إلّا عَلى الظّالِمِينَ﴾ . مُتَعَلَّقُ الِانْتِهاءِ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: عَنِ الشِّرْكِ بِالدُّخُولِ في الإسْلامِ، أوْ عَنِ القِتالِ. وأذْعَنُوا إلى أداءِ الجِزْيَةِ فِيمَن يُشْرَعُ ذَلِكَ فِيهِمْ، أوْ عَنِ الشِّرْكِ وتَعْذِيبِ المُسْلِمِينَ وفِتْنَتِهِمْ لِيَرْجِعُوا عَنْ دِينِهِمْ، وذَلِكَ عَلى الِاخْتِلافِ في الضَّمِيرِ، إذْ هو عامٌّ في الكُفّارِ، أوْ خاصٌّ بِكُفّارِ مَكَّةَ. والعُدْوانُ مَصْدَرُ عَدا، بِمَعْنى: اعْتَدى، وهو نَفْيٌ عامٌّ، أيْ: لا يُؤْخَذُ فَرْدٌ فَرْدٌ مِن أنْواعِهِ البَتَّةَ إلّا عَلى مَن ظَلَمَ، ويُرادُ بِالعُدْوانِ الَّذِي هو الظُّلْمُ الجَزاءُ. سَمّاهُ عُدْوانًا مِن حَيْثُ هو جَزاءُ عُدْوانٍ، والعُقُوبَةُ تُسَمّى باسِمِ الذَّنْبِ، وذَلِكَ عَلى المُقابَلَةِ، كَقَوْلِهِ: ﴿وجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها﴾ [الشورى: ٤٠]، ﴿فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكم فاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ﴾ [البقرة: ١٩٤]، ﴿ومَكَرُوا ومَكَرَ اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٥٤]، وقالَ الشّاعِرُ: ؎جَزَيْنا ذَوِي العُدْوانِ بِالأمْسِ قَرْضَهم قِصاصًا سَواءً حَذْوَكَ النَّعْلَ بِالنَّعْلِ وقالَ الرُّمّانِيُّ، إنَّما اسْتُعْمِلَ لَفْظُ العُدْوانِ في الجَزاءِ مِن غَيْرِ مُزاوَجَةِ اللَّفْظِ: لِأنَّ مُزاوَجَةَ اللَّفْظِ مُزاوَجَةُ المَعْنى، كَأنَّهُ يَقُولُ: انْتَهُوا عَنِ العُدْوانِ فَلا عُدْوانَ إلّا عَلى الظّالِمِينَ، انْتَهى كَلامُهُ. وهَذا النَّفْيُ العامُّ يُرادُ بِهِ النَّهْيُ، أيْ: فَلا تَعْتَدُوا، وذَلِكَ عَلى سَبِيلِ المُبالَغَةِ إذا أرادُوا المُبالَغَةَ في تَرْكِ الشَّيْءِ عَدَلُوا فِيهِ عَنِ النَّهْيِ إلى النَّفْيِ المَحْضِ العامِّ، وصارَ ألْزَمَ في المَنعِ، إذْ صارَ مِنَ الأشْياءِ الَّتِي لا تَقَعُ أصْلًا، ولا يَصِحُّ حَمْلُ ذَلِكَ عَلى النَّفْيِ الصَّحِيحِ أصْلًا لِوُجُودِ العُدْوانِ عَلى غَيْرِ الظّالِمِ. فَكَأنَّهُ يَكُونُ إخْبارًا غَيْرَ مُطابِقٍ، وهو لا يَجُوزُ عَلى اللَّهِ تَعالى. وفُسِّرَ الظّالِمُونَ هُنا بِمَن بَدَأ بِالقِتالِ، وقِيلَ: مَن بَقِيَ عَلى كُفْرٍ وفِتْنَةٍ، قالَ (p-٦٩)عِكْرِمَةُ، وقَتادَةُ: الظّالِمُ هُنا مَن أبى أنْ يَقُولَ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ. وقالَ الأخْفَشُ المَعْنى: فَإنِ انْتَهى بَعْضُهم فَلا عُدْوانَ إلّا عَلى مَن لَمْ يَنْتَهِ، وهو الظّالِمُ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَلا تَعْتَدُوا عَلى المُنْتَهِينَ: لِأنَّ مُقاتَلَةَ المُنْتَهِينَ عُدْوانٌ وظُلْمٌ، فَوُضِعَ قَوْلُهُ: ”﴿إلّا عَلى الظّالِمِينَ﴾“ مَوْضِعَ: عَلى المُنْتَهِينَ، انْتَهى كَلامُهُ. وهَذا الَّذِي قالَهُ لا يَصِحُّ إلّا عَلى تَفْسِيرِ المَعْنى، وأمّا عَلى تَفْسِيرِ الإعْرابِ فَلا يَصِحُّ: لِأنَّ عَلى المُنْتَهِينَ، لَيْسَ مُرادِفًا لِقَوْلِهِ: ”﴿إلّا عَلى الظّالِمِينَ﴾“: لِأنَّ نَفْيَ العُدْوانِ عَنِ المُنْتَهِينَ لا يَدُلُّ عَلى إثْباتِهِ عَلى الظّالِمِينَ إلّا بِالمَفْهُومِ مَفْهُومِ الصِّفَةِ. وفي التَّرْكِيبِ القُرْآنِيِّ يَدُلُّ عَلى إثْباتِهِ عَلى الظّالِمِينَ بِالمَنطُوقِ المَحْصُورِ بِالنَّفْيِ وإلّا، وفَرْقٌ بَيْنَ الدَّلالَتَيْنِ، ويَظْهَرُ مِن كَلامِهِ أنَّهُ أرادَ تَفْسِيرَ الإعْرابِ. ألا تَرى قَوْلَهُ: فَوُضِعَ قَوْلُهُ: ”﴿إلّا عَلى الظّالِمِينَ﴾“ مَوْضِعَ: عَلى المُنْتَهِينَ ؟ وهَذا الوَضْعُ إنَّما يَكُونُ في تَفْسِيرِ الإعْرابِ، ولَيْسَ كَذَلِكَ لِما بَيَّنّاهُ مِنَ الفَرْقِ بَيْنَ الدَّلالَتَيْنِ، ألا تَرى فَرْقَ ما بَيْنَ قَوْلِكَ: ما أكْرَمَ الجاهِلَ، وما أكْرَمَ إلّا العالِمَ ؟ و”﴿إلّا عَلى الظّالِمِينَ﴾“ اسْتِثْناءٌ مُفَرَّغٌ مِنَ الإخْبارِ ”عَلى الظّالِمِينَ“، في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى أنَّهُ خَبَرُ ”لا“ عَلى مَذْهَبِ الأخْفَشِ، أوْ عَلى أنَّهُ خَبَرٌ لِلْمُبْتَدَأِ الَّذِي هو مَجْمُوعُ ”لا عُدْوانَ“، عَلى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ. وقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلى ذَلِكَ، وجاءَ بِعَلى، تَنْبِيهًا عَلى اسْتِيلاءِ الجَزاءِ عَلَيْهِمْ واسْتِعْلائِهِ. وقِيلَ: مَعْنى لا عُدْوانَ، لا سَبِيلَ، كَقَوْلِهِ: ﴿أيَّما الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ﴾ [القصص: ٢٨]، أيْ: لا سَبِيلَ عَلَيَّ، وهو مَجازٌ عَنِ التَّسْلِيطِ والتَّعَرُّضِ، وهو راجِعٌ لِمَعْنى جَزاءِ الظّالِمِ الَّذِي شَرَحْنا بِهِ العُدْوانَ. ورابِطُ الجَزاءِ بِالشَّرْطِ إمّا بِتَقْدِيرِ حَذْفٍ أيْ: إلّا عَلى الظّالِمِينَ مِنهم، أوْ بِالِانْدِراجِ في عُمُومِ الظّالِمِينَ، فَكانَ الرَّبْطُ بِالعُمُومِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب