الباحث القرآني

قولُه تعالى: {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر} : الهمزةُ للإِنكارِ والتوبيخِ أو للتَّعجُّبِ مِنْ حالِهم. و «أَمَرَ» يتعدَّى لاثنين أحدُهما بنفسِه والآخرُ بحرفِ الجرِّ، وقد يُحْذَفُ، وقد جَمَع الشاعرُ بين الأَمرين في قوله: 423 - أَمَرْتُكَ الخيرَ فافْعَلْ ما أَمِرتَ به ... فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذا مالٍ وذا نَشَبِ فالناسَ مفعولٌ أولُ، وبالبِرِّ مفعولٌ ثان. والبِرُّ: سَعَةُ الخيرِ مِن الصلة والطاعة، ومنه البَرُّ والبَرِيَّة لسعَتِهما، والفعلُ [منه] : بَرَّيَبَرُّ على فَعِل يَفْعَل كعَلِمَ يَعْلَم، قال: 424 - لا هُمَّ ربِّ إنَّ بَكْراً دونكا ... يَبَرُّكَ الناسُ ويَفْجُرونكا [أي: يُطيعونك، والبِرُّ أيضاً: ولدُ الثعلب وسَوْقُ الغَنَم، ومنه قولُهم: «لا يَعْرِفُ الهِرَّ من البِرِّ» أي: لا يَعْرِفُ دُعاءَها مِنْ سَوْقِها، والبِرُّ أيضاً الفؤادُ، قال: 425 - أكونُ مكانَ البِرِّ منه ودونُه ... وأَجْعَلُ مالي دونَه وأُوامِرُهْ والبَرُّ بالفتح الإِجلالُ والتعظيمُ، ومنه: وَلَدٌ بَرٌّ بوالدَيْهِ، أي: يُعَظِّمُهما، واللهُ تعالى بَرُّ لسَعَةِ خيرِه على خَلْقِه] . قوله: «وَتَنْسَوْن» داخلٌ في حَيِّز الإِنكار، وأصلُ تَنْسَوْن: تَنْسَيُون، فأُعِلَّ بحَذْفِ الياءِ سُكونها، وقد تقدَّم في {اشتروا} [البقرة: 16] ، فوزنُه تَفْعون، والنِّسيانُ: ضدُّ الذِّكْر، وهو السهوُ الحاصِلُ بعد حصولِ العلمِ، وقد يُطْلَقُ على التِّركِ، ومنه: {نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] ، وقَد يَدْخُلُه التعليقُ حَمْلاً على نقِيضه، قال: 426 - ومَنْ أنتمُ إنَّا نَسِينا مَنَ أنْتُمُ ... وريحُكُمُ من أيِّ ريحِ الأعاصِرِ قوله: {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكتاب} مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصبٍ على الحال، العاملُ فيها «تَنْسَوْن» . والتلاوةُ: التتابعُ، ومنه تلاوة القرآنِ، لأنَّ القارئ يُتْبِع كلماتِه بعضَها ببعضٍ، ومنه: {والقمر إِذَا تَلاَهَا} [الشمس: 2] ، وأَصل تَتْلُون: تَتْلُوون بواوين فاستُثْقِلتِ الضمة على الواوِ الأولى فحُذِفَتْ، فالتقى ساكنان، فحُذِفَتْ فوزنُه: تَفْعُون. قوله: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} الهمزةُ للإِنكارِ أيضاً، وهي في نيَّةِ التأخير عن الفاءِ لأنها حرفُ عَطْفٍ، وكذا تتقدَّم أيضاً على الواوِ وثم نحو: {أَوَلاَ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 77] {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ} [يونس: 51] ، والنيَّةُ بها التأخيرُ، وما عدا ذلك من حروفِ العطف فلا تتقدَّمُ عليه تقول: ما قامَ زيدٌ بل أَقْعَدَ؟ هذا مذهبُ الجمهورِ. وزعم الزمخشري أن الهمزةَ في موضعها غيرُ مَنْوِيٍّ بها التأخيرُ، ويُقَدِّرَ قبل الفاءِ والواوِ وثم فعلاً عُطِفَ عليه ما بعده، فيقدِّر هنا: أتغْفَلون فَلاَ تَعْقلون، وكذا: {أَفَلَمْ يَرَوْاْ} [سبأ: 9] أي: أَعَمُوا فلم يَرَوْا، وقد خالف هذا الأصلَ ووافق الجمهورَ في مواضعَ يأتي التنبيهُ عليها. ومفعولُ «تَعْقِلون» غيرُ مرادٍ، لأنَّ المعنى: أفلا يكونُ منكم [عَقْلٌ] . وقيل: تقديرهُ: أفلا تَعْقِلون قُبْحَ ما ارتكبتم مِنْ ذلك. والعَقْلُ: الإِدراكُ المانعُ من الخطأ، وأصلُه المَنْعُ: ومنه: العِقال، لأنه يَمْنَعُ البعيرَ، وعَقْلُ الدِّيَّة لأنه يَمْنَعُ من قتل الجاني، والعَقْلُ أيضاً ثوبٌ مُوَشَّى، قال علقمة: 427 - عَقْلاً ورَقْماً تَظَلُّ الطيرُ تَتْبَعُهُ ... كأنَّه من دم الأَجْوافِ مَدْمُومُ قال ابن فارس: «ما كان منقوشاً طُولاً فهو عَقْلٌ، أو مستديراً فهوَ رَقْمٌ» ولا محلَّ لهذه الجملةِ لاستئنافِها. قوله: {واستعينوا بالصبر} هذه الجملةُ الأمريةُ عَطْفٌ على ما قبلَها من الأوامر، ولكن اعتُرِضَ بينها بهذه الجمل. وأصلُ «استعينوا» اسْتَعْوِنُوا فَفُعِل به ما فُعِل في {نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ، وقد تقدَّم تحقيقُه ومعناه. «وبالصبر» متعلقٌ به والباءُ للاستعانةِ أو للسببيةِ، والمستعانُ عليه محذوفٌ ليَعُمَّ جميعَ الأحوال المستعانِ عليها، و «استعان» يتعدَّى بنفسِه نحو: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] . ويجوز أن تكونَ الباءُ للحال أي: ملتبسينَ بالصبر، والظاهر أنه يتعدَّى بنفسه وبالباء تقولُ: استَعَنْتُ [الله واستعنْتُ بالله] وقد تقدَّم أن السينَ للطلب. والصبرُ: الحَبْسُ على المكروه، ومنه: «قُتِل فلانٌ صبراً» ، قال: 428 - فَصَبْراً في مجالِ الموتِ صَبْراً ... فما نَيْلُ الخلودِ بمُسْتَطَاعِ قوله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين} إنَّ واسمها وخبرُها، والضميرُ في «إنها» قيل: يعودُ على الصلاة وإنْ تقدَّم شيئان، لأنها أغلبُ منه وأهمُّ، وهو نظيرُ قولِه: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] أعاد الضمير على التجارةِ لأنها أهمُّ وأَغْلَبُ، كذا قيل، وفيه نظرٌ، لأنَّ العطف ب «أو» فيجبُ الإِفرادُ، لكنَّ المرادَ أنه ذَكَر الأهمَّ من الشيئين فهو نظيرُها من هذه الجهةِ. وقيل: يعودُ على الاستعانةِ المفهومةِ من الفعلِ نحو: {هُوَ أَقْرَبُ} [المائدة: 8] . وقيل: على العِبادةِ المدلولِ عليها بالصبرِ والصلاةِ، وقيل: هو عائدٌ على الصبرِ والصلاةِ، وإنْ كان بلفظِ المفردِ، وهذا ليسَ بشيء. وقيل: حُذِفَ من الأولِ لدلالةِ الثاني عليه، وتقديرُه: وإنه لكبيرٌ، نحو قوله: 429 - إنَّ شَرْخَ الشبابِ والشَّعْرَ الأسْ ... وَدَ ما لم يُعاصَ كان جُنوناً قوله: {إِلاَّ عَلَى الخاشعين} استثناءٌ مفرَّعٌ، وجازَ ذلك وإن كانَ الكلامُ مُثْبَتاً لأنه في قوةِ المنفيِّ، أي: لا تَسْهُل ولا تَخِفُّ إلاَّ على هؤلاء، ف «على الخاشعين» متعلَّقٌ ب «كبيرة» نحو: «كَبُر عليَّ هذا» أي: عَظُم وشَقَّ. والخشوعُ: الخُضوع، وأصلُه اللِّيْنُ والسُّهولة، ومنه «الخُشْعَةُ» للرَّمْلَةِ المتطامنةِ، وفي الحديث: «كانَتْ خُشْعَةً على الماءِ ثم دُحِيَتْ بعدُ» أي: كانت الأرضُ لينةً، وقال النابغة: 430 - رَمادٌ ككُحْلِ العَيْنِ لأْيَا أُبِينُه ... ونُؤْيٌ كجِذْمِ الحَوْضِ أَثْلَمُ خاشِعُ أي: عليه أثرُ الذلَّ، وفَرَّق بعضُهم بين الخضوع والخُشوع، فقال: الخُضُوع في البدنِ خاصةً، والخُشُوع في البدنِ والصوت والبصر فهو أعمُّ منه.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب