الباحث القرآني

فيه تسع مسائل: الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ﴾ هَذَا استفهام معناه التَّوْبِيخِ وَالْمُرَادُ فِي قَوْلِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ عُلَمَاءُ الْيَهُودِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ يَهُودُ الْمَدِينَةِ يَقُولُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ لِصِهْرِهِ وَلِذِي قَرَابَتِهِ وَلِمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ رَضَاعٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ اثْبُتْ عَلَى الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ وَمَا يَأْمُرُكَ بِهِ هَذَا الرَّجُلُ يُرِيدُونَ مُحَمَّدًا ﷺ فَإِنَّ أَمْرَهُ حَقٌّ فَكَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِذَلِكَ وَلَا يَفْعَلُونَهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: كَانَ الْأَحْبَارُ يَأْمُرُونَ مُقَلِّدِيهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ بِاتِّبَاعِ التَّوْرَاةِ وَكَانُوا يُخَالِفُونَهَا فِي جَحْدِهِمْ صِفَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ كَانَ الْأَحْبَارُ يحضون في طَاعَةِ اللَّهِ وَكَانُوا هُمْ يُوَاقِعُونَ الْمَعَاصِيَ وَقَالَتْ فِرْقَةٌ كَانُوا يَحُضُّونَ عَلَى الصَّدَقَةِ وَيَبْخَلُونَ وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْإِشَارَاتِ الْمَعْنَى أَتُطَالِبُونَ النَّاسَ بِحَقَائِقِ الْمَعَانِي وَأَنْتُمْ تُخَالِفُونَ عَنْ ظَوَاهِرِ رُسُومِهَا! الثَّانِيَةُ- فِي شِدَّةِ عَذَابِ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ (لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي مَرَرْتُ عَلَى نَاسٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ هَؤُلَاءِ الْخُطَبَاءُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا [[كذا في مسند الامام أحمد بن حنبل (ج ٣ ص ١٢٠) وتفسير الفخر الرازي (ج ١ ص ٤٩٦). وفي الأصول: (من أمتك).]] يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا يَعْقِلُونَ) وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ (إن الَّذِينَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ يَجُرُّونَ قَصَبَهُمْ [[سيأتي معنى (القصب).]] فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُقَالُ لَهُمْ مَنْ أَنْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ نَحْنُ الَّذِينَ كُنَّا نَأْمُرُ النَّاسَ بِالْخَيْرِ وَنَنْسَى أَنْفُسَنَا). قُلْتُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ لِينٌ، لِأَنَّ فِي سَنَدِهِ الْخَصِيبَ بْنَ جَحْدَرٍ كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ يَسْتَضْعِفُهُ وَكَذَلِكَ ابْنُ مَعِينٍ يَرْوِيهِ عَنْ أَبِي غَالِبٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ صُدَيِّ بْنِ عَجْلَانَ الْبَاهِلِيِّ وَأَبُو غَالِبٍ هُوَ فِيمَا حَكَى يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ حَزَوَّرُ الْقُرَشِيُّ مَوْلَى خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ابن أَسِيدٍ وَقِيلَ: مَوْلَى بَاهِلَةَ وَقِيلَ: مَوْلَى عَبْدِ الرحمن الحضرمي كان يختلف إلى الشَّامِ فِي تِجَارَتِهِ. قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: هُوَ صَالِحُ الْحَدِيثِ فَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ بِمَعْنَاهُ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ (يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ [بِالرَّحَى] [[الزيادة من صحيح مسلم.]] فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ يَا فُلَانُ مَا لَكَ أَلَمْ [تَكُنْ] [[الزيادة من صحيح مسلم.]] تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ فَيَقُولُ بَلَى قَدْ كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ. الْقُصْبُ (بِضَمِّ الْقَافِ) الْمِعَى وَجَمْعُهُ أَقْصَابٌ. وَالْأَقْتَابُ: الْأَمْعَاءُ وَاحِدُهَا قِتْبٌ. وَمَعْنَى "فَتَنْدَلِقُ": فَتَخْرُجُ بِسُرْعَةٍ. وَرُوِّينَا "فَتَنْفَلِقُ". قُلْتُ: فَقَدْ دَلَّ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ وَأَلْفَاظُ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ عُقُوبَةَ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِالْمَعْرُوفِ وَبِالْمُنْكَرِ وَبِوُجُوبِ الْقِيَامِ بِوَظِيفَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَشَدُّ مِمَّنْ لَمْ يَعْلَمْهُ وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَالْمُسْتَهِينِ بِحُرُمَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَمُسْتَخِفٍّ بِأَحْكَامِهِ وَهُوَ مِمَّنْ لَا يَنْتَفِعُ بِعِلْمِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ (أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ. الثَّالِثَةُ- اعْلَمْ وَفَّقَكَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ التَّوْبِيخَ فِي الْآيَةِ بِسَبَبِ تَرْكِ فِعْلِ الْبِرِّ لَا بِسَبَبِ الْأَمْرِ بِالْبِرِّ وَلِهَذَا ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ قَوْمًا كَانُوا يَأْمُرُونَ بِأَعْمَالِ الْبِرِّ وَلَا يَعْمَلُونَ بِهَا وَبَّخَهُمْ بِهِ تَوْبِيخًا يُتْلَى عَلَى طُولِ الدَّهْرِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَقَالَ "أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ" الْآيَةَ. وَقَالَ مَنْصُورٌ الْفَقِيهُ فَأَحْسَنَ: إِنَّ قَوْمًا يَأْمُرُونَا ... بِالَّذِي لَا يَفْعَلُونَا لَمَجَانِينٌ وَإِنْ هُمْ ... لَمْ يَكُونُوا يُصْرَعُونَا وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ: وَصَفْتَ التُّقَى حَتَّى كَأَنَّكَ ذُو تُقًى ... وَرِيحُ الْخَطَايَا مِنْ ثيابك تسطع وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ: لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمٌ وَابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا ... فَإِنِ انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ فَهُنَاكَ يُقْبَلُ إِنْ وَعَظْتَ وَيُقْتَدَى ... بِالْقَوْلِ مِنْكَ وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنِ مَطَرٍ: حَضَرْتُ مَجْلِسَ أَبِي عُثْمَانَ الْحِيرِيِّ الزَّاهِدِ فَخَرَجَ وَقَعَدَ عَلَى مَوْضِعِهِ الَّذِي كَانَ يَقْعُدُ عَلَيْهِ لِلتَّذْكِيرِ، فَسَكَتَ حَتَّى طَالَ سُكُوتُهُ، فَنَادَاهُ رَجُلٌ كَانَ يُعْرَفُ بِأَبِي الْعَبَّاسِ: تَرَى أَنْ تَقُولَ فِي سُكُوتِكَ شَيْئًا؟ فَأَنْشَأَ يَقُولُ: وَغَيْرُ تَقِيٍّ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالتُّقَى ... طَبِيبٌ يُدَاوِي وَالطَّبِيبُ مَرِيضُ قَالَ: فَارْتَفَعَتِ الْأَصْوَاتُ بِالْبُكَاءِ وَالضَّجِيجِ. الرَّابِعَةُ- قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: إِنِّي لَأَكْرَهُ الْقَصَصَ لِثَلَاثِ آيَاتٍ، قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ﴾ [البقرة: ٤٤] الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾[[راجع ج ١٨ ص ٧٧.]] [الصف: ٢]، وَقَوْلِهِ: ﴿وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ﴾[[راجع ج ٩ ص ٨٩.]] [هود: ٨٨]. وَقَالَ سَلْمُ بْنُ عَمْرٍو [[كذا في الأصول. والصحيح أن الأبيات للجماز، وهو ابن أخت سلم بن عمرو الخاسر. يراجع الأغاني (ج ٤ ص ٧٦) طبع دار الكتب المصرية.]]: مَا أَقْبَحَ التَّزْهِيدَ مِنْ وَاعِظٍ ... يُزَهِّدُ النَّاسَ وَلَا يَزْهَدُ لَوْ كَانَ فِي تَزْهِيدِهِ صَادِقًا ... أَضْحَى وَأَمْسَى بَيْتُهُ الْمَسْجِدُ إِنْ رَفَضَ الدُّنْيَا فَمَا بَالُهُ ... يَسْتَمْنِحُ النَّاسَ وَيَسْتَرْفِدُ وَالرِّزْقُ مَقْسُومٌ عَلَى مَنْ تَرَى ... يَنَالُهُ [[كذا في الأغاني. وفي الأصول: (يسعى له).]] الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ وَقَالَ الْحَسَنُ لِمُطِّرِفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: عِظْ أَصْحَابَكَ، فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ أَنْ أَقُولَ مَا لَا أَفْعَلُ، قَالَ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ! وَأَيُّنَا يَفْعَلُ مَا يَقُولُ! وَيَوَدُّ الشَّيْطَانُ أَنَّهُ قَدْ ظَفِرَ بِهَذَا، فَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدٌ بِمَعْرُوفٍ وَلَمْ يَنْهَ عَنْ مُنْكَرٍ. وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يَقُولُ: لَوْ كَانَ الْمَرْءُ لَا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ حتى لا يكون فيه شي، ما أمر أَحَدٌ بِمَعْرُوفٍ وَلَا نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ. قَالَ مَالِكٌ: وَصَدَقَ، مَنْ ذَا الَّذِي لَيْسَ فِيهِ [[في نسخة: (عليه).]] شي!. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿بِالْبِرِّ﴾ الْبِرُّ هُنَا الطَّاعَةُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ. وَالْبِرُّ: الصِّدْقُ. وَالْبِرُّ: وَلَدُ الثَّعْلَبِ. وَالْبِرُّ: سَوْقُ الْغَنَمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: "لَا يَعْرِفُ هِرًّا مِنْ بِرٍّ" أَيْ لَا يَعْرِفُ دُعَاءَ الْغَنَمِ مِنْ سَوْقِهَا. فَهُوَ مُشْتَرَكٌ، وَقَالَ الشَّاعِرُ: لَا هُمَّ رَبِّ إِنَّ بِكْرًا [[كذا في البحر المحيط لابي حيان. وفي الأصول: (بكوا) بالواو. وفي تفسير الشوكاني: (إن يكونوا).]] دُونَكَا ... يَبَرُّكَ النَّاسُ وَيَفْجُرُونَكَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ "يَبَرُّكَ النَّاسُ": أَيْ يُطِيعُونَكَ. وَيُقَالُ: إِنَّ الْبِرَّ الْفُؤَادُ فِي قَوْلِهِ: أَكُونُ مَكَانَ الْبِرِّ مِنْهُ وَدُونَهُ [[كذا في الأصول واللسان مادة (برر). وفي شرح القاموس: يكون مكان البر مني ودونه]] ... وَأَجْعَلُ مَالِي دُونَهُ وَأُوَامِرُهُ وَالْبُرُّ (بِضَمِّ الْبَاءِ) مَعْرُوفٌ، وَ (بِفَتْحِهَا) الْإِجْلَالُ وَالتَّعْظِيمُ، وَمِنْهُ وَلَدٌ بَرٌّ وَبَارٌّ، أَيْ يُعَظِّمُ وَالِدَيْهِ وَيُكْرِمُهُمَا. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾ أَيْ تَتْرُكُونَ. وَالنِّسْيَانُ (بِكَسْرِ النُّونِ) يَكُونُ بِمَعْنَى التَّرْكِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَفِي قوله تعالى: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾[[راجع ج ٨ ص ١٩٩.]] [التوبة: ٦٧]، وقوله: ﴿فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ﴾[[راجع ج ٦ ص ٤٢٦.]] [الانعام: ٤٤]، وقوله: ﴿وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾[[راجع ج ٣ ص ٢٠٨.]] [البقرة: ٢٣٧]. وَيَكُونُ خِلَافَ الذِّكْرِ وَالْحِفْظِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: (نَسِيَ آدَمُ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ). وَسَيَأْتِي. يُقَالُ: رَجُلٌ نَسْيَانٌ (بِفَتْحِ النُّونِ): كَثِيرُ النِّسْيَانِ لِلشَّيْءِ. وَقَدْ نَسِيتُ الشَّيْءَ نِسْيَانًا، وَلَا تَقُلْ نَسَيَانًا (بِالتَّحْرِيكِ)، لِأَنَّ النَّسَيَانَ إِنَّمَا هُوَ تَثْنِيَةُ نَسَا الْعِرْقِ. وَأَنْفُسُ: جَمْعُ نَفْسٍ، جَمْعُ قِلَّةٍ. وَالنَّفْسُ: الرُّوحُ، يُقَالُ: خَرَجَتْ نَفْسُهُ، قَالَ أَبُو خِرَاشٍ: نَجَا سَالِمٌ وَالنَّفْسُ مِنْهُ بِشِدْقِهِ ... وَلَمْ يَنْجُ إِلَّا جَفْنَ سَيْفٍ وَمِئْزَرًا أَيْ بِجَفْنِ سَيْفٍ وَمِئْزَرٍ. وَمِنَ الدليل في أَنَّ النَّفْسَ الرُّوحُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها﴾[[راجع ج ١٥ ص ٢٦٠]] [الزمر: ٤٢] يُرِيدُ الْأَرْوَاحَ فِي قَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ التأويل على ما يأتي. وذلك بَيِّنٌ فِي قَوْلِ بِلَالٍ لِلنَّبِيِّ ﷺ فِي حَدِيثِ ابْنِ شِهَابٍ: أَخَذَ بِنَفْسِي يَا رَسُولَ اللَّهِ الَّذِي أَخَذَ بِنَفْسِكَ. وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ (إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَنَا وَلَوْ شَاءَ لَرَدَّهَا إِلَيْنَا فِي حِينٍ غَيْرِ هَذَا). رَوَاهُمَا مَالِكٌ وَهُوَ أَوْلَى مَا يُقَالُ بِهِ. وَالنَّفْسُ أَيْضًا الدَّمُ يُقَالُ سَالَتْ نَفْسُهُ قَالَ الشَّاعِرُ [[هو السموأل.]]: تسيل على حد السيوف [[في اللسان: (حد الظبات).]] نُفُوسُنَا ... وَلَيْسَتْ عَلَى غَيْرِ الظُّبَاتِ تَسِيلُ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ فَإِنَّهُ لَا يُنَجِّسُ الْمَاءَ إِذَا مَاتَ فِيهِ. وَالنَّفْسُ أَيْضًا الْجَسَدُ قَالَ الشَّاعِرُ [[هو أوس بن حجر يحرض عمرو بن هند على بني حنيفة وهم قتلة أبيه المنذر بن ماء السماء. أي حملوا دمه إلى أبياتهم. (عن اللسان).]]: نُبِّئْتُ أَنَّ بَنِي سُحَيْمٍ أَدْخَلُوا ... أَبْيَاتَهُمْ تَامُورَ نَفْسِ الْمُنْذِرِ وَالتَّامُورُ أَيْضًا: الدَّمُ. السَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ﴾ تَوْبِيخٌ عَظِيمٌ لِمَنْ فَهِمَ. "وتَتْلُونَ": تَقْرَءُونَ. "الْكِتابَ": التَّوْرَاةَ. وَكَذَا مَنْ فَعَلَ فِعْلَهُمْ كَانَ مِثْلَهُمْ وَأَصْلُ التِّلَاوَةِ الِاتِّبَاعُ وَلِذَلِكَ اسْتُعْمِلَ فِي الْقِرَاءَةِ لِأَنَّهُ يُتْبِعُ بَعْضَ الْكَلَامِ بِبَعْضٍ فِي حُرُوفِهِ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى نَسَقِهِ يُقَالُ: تَلَوْتُهُ إِذَا تَبِعْتُهُ تُلُوًّا وَتَلَوْتُ الْقُرْآنَ تِلَاوَةً. وَتَلَوْتُ الرَّجُلَ تُلُوًّا إِذَا خَذَلْتُهُ. وَالتَّلِيَّةُ وَالتُّلَاوَةُ (بِضَمِّ التَّاءِ): الْبَقِيَّةُ يُقَالُ: تَلِيَتْ لِي مِنْ حَقِّي تُلَاوَةٌ وَتَلِيَّةٌ أَيْ بَقِيَتْ. وَأَتْلَيْتُ: أَبْقَيْتُ. وَتَتَلَّيْتُ حَقِّي إِذَا تَتَبَّعْتُهُ حَتَّى تَسْتَوْفِيَهُ قَالَ أَبُو زَيْدٍ: تَلَّى الرَّجُلُ إِذَا كَانَ بِآخِرِ رمق. الثامنة- قوله تعالى: (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أَيْ أَفَلَا تَمْنَعُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ مُوَاقَعَةِ هَذِهِ الْحَالِ الْمُرْدِيَةِ لَكُمْ. وَالْعَقْلُ: الْمَنْعُ وَمِنْهُ عِقَالُ الْبَعِيرِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ عَنِ الْحَرَكَةِ وَمِنْهُ الْعَقْلُ لِلدِّيَةِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ وَلِيَّ الْمَقْتُولِ عَنْ قَتْلِ الْجَانِي وَمِنْهُ اعْتِقَالُ الْبَطْنِ وَاللِّسَانِ وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْحِصْنِ: مَعْقِلٌ. وَالْعَقْلُ. نَقِيضُ الْجَهْلِ وَالْعَقْلُ ثَوْبٌ أَحْمَرُ تَتَّخِذُهُ نِسَاءُ الْعَرَبِ تُغَشِّي بِهِ الْهَوَادِجُ قَالَ عَلْقَمَةُ: عَقْلًا وَرَقْمًا تَكَادُ الطَّيْرُ تَخْطَفُهُ ... كَأَنَّهُ مِنْ دَمِ الْأَجْوَافِ مَدْمُومُ الْمَدْمُومُ (بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ) الْأَحْمَرُ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا. وَالْمَدْمُومُ الْمُمْتَلِئُ شَحْمًا مِنَ الْبَعِيرِ وَغَيْرِهِ وَيُقَالُ: هُمَا ضَرْبَانِ مِنَ الْبُرُودِ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَالْعَقْلُ مِنْ شِيَاتِ الثِّيَابِ مَا كَانَ نَقْشُهُ طُولًا وَمَا كَانَ نَقْشُهُ مُسْتَدِيرًا فَهُوَ الرَّقْمُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْعَاقِلُ مَنْ عَمِلَ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ فَهُوَ جَاهِلٌ. التَّاسِعَةُ- اتَّفَقَ أَهْلُ الْحَقِّ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ كَائِنٌ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِقَدِيمٍ وَلَا مَعْدُومٍ لِأَنَّهُ لو كان معدوما لما اختص بالإنصاف بِهِ بَعْضُ الذَّوَاتِ دُونَ بَعْضٍ وَإِذَا ثَبَتَ وُجُودُهُ فَيَسْتَحِيلُ الْقَوْلُ بِقِدَمِهِ، إِذِ الدَّلِيلُ قَدْ قَامَ عَلَى أَنْ لَا قَدِيمَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ صَارَتِ الْفَلَاسِفَةُ إِلَى أَنَّ الْعَقْلَ قَدِيمٌ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ صَارَ إِلَى أَنَّهُ جَوْهَرٌ لَطِيفٌ فِي الْبَدَنِ يَنْبَثُّ شُعَاعُهُ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ السِّرَاجِ فِي الْبَيْتِ يَفْصِلُ بِهِ بَيْنَ حَقَائِقِ الْمَعْلُومَاتِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ جَوْهَرٌ بَسِيطٌ أَيْ غَيْرُ مُرَكَّبٍ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مَحَلِّهِ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: مَحَلَّهُ الدِّمَاغُ لِأَنَّ الدِّمَاغَ مَحَلُّ الْحِسِّ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مَحَلَّهُ الْقَلْبُ لِأَنَّ الْقَلْبَ مَعْدِنُ الْحَيَاةِ وَمَادَّةُ الْحَوَاسِّ. وَهَذَا الْقَوْلُ فِي الْعَقْلِ بِأَنَّهُ جَوْهَرٌ فَاسِدٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْجَوَاهِرَ مُتَمَاثِلَةٌ فَلَوْ كَانَ جَوْهَرٌ عَقْلًا لَكَانَ كُلُّ جَوْهَرٍ عَقْلًا. وَقِيلَ: إِنَّ الْعَقْلَ هُوَ الْمُدْرِكُ لِلْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ حَقَائِقِ الْمَعَانِي. وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ أَقْرَبُ مِمَّا قَبْلَهُ فَيَبْعُدُ عَنِ الصَّوَابِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْإِدْرَاكَ مِنْ صِفَاتِ الْحَيِّ وَالْعَقْلُ عَرَضٌ يَسْتَحِيلُ ذَلِكَ مِنْهُ كَمَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مُلْتَذًّا وَمُشْتَهِيًا وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الأشعري والأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْمُحَقِّقِينَ الْعَقْلُ هُوَ الْعِلْمُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُقَالُ عَقَلْتُ وَمَا عَلِمْتُ أَوْ عَلِمْتُ وَمَا عَقَلْتُ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْعَقْلُ عُلُومٌ ضَرُورِيَّةٌ بِوُجُوبِ الْوَاجِبَاتِ وَجَوَازِ الْجَائِزَاتِ وَاسْتِحَالَةِ الْمُسْتَحِيلَاتِ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْمَعَالِي فِي الْإِرْشَادِ وَاخْتَارَ فِي الْبُرْهَانِ أَنَّهُ صِفَةٌ يَتَأَتَّى بِهَا دَرْكُ الْعُلُومِ وَاعْتَرَضَ عَلَى مَذْهَبِ الْقَاضِي وَاسْتَدَلَّ عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِهِ وَحُكِيَ فِي الْبُرْهَانِ عَنِ الْمُحَاسِبِيِّ أَنَّهُ قَالَ الْعَقْلُ غَرِيزَةٌ وَحَكَى الأستاذ أَبُو بَكْرٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُجَاهِدٍ أَنَّهُمَا قَالَا الْعَقْلُ آلَةُ التَّمْيِيزِ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الْقَلَانِسِيِّ أَنَّهُ قَالَ الْعَقْلُ قُوَّةُ التَّمْيِيزِ وَحُكِيَ عَنِ الْمُحَاسِبِيِّ أَنَّهُ قَالَ الْعَقْلُ أَنْوَارٌ وَبَصَائِرُ ثُمَّ رَتَّبَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَحَمَلَهَا عَلَى مَحَامِلَ فَقَالَ وَالْأَوْلَى أَلَّا يَصِحَّ هَذَا النَّقْلُ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَلَا عَنِ ابْنِ مُجَاهِدٍ فَإِنَّ الْآلَةَ إِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْآلَةِ الْمُثْبَتَةِ [[في بعض نسخ الأصل: (في الآلة المبنية).]] وَاسْتِعْمَالُهَا فِي الْأَعْرَاضِ مَجَازٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ قُوَّةٌ فَإِنَّهُ لَا يُعْقَلُ مِنَ الْقُوَّةِ إِلَّا الْقُدْرَةُ وَالْقَلَانِسِيُّ أَطْلَقَ مَا أَطْلَقَهُ تَوَسُّعًا فِي الْعِبَارَاتِ وَكَذَلِكَ الْمُحَاسِبِيُّ. وَالْعَقْلُ لَيْسَ بِصُورَةٍ وَلَا نُورٍ وَلَكِنْ تُسْتَفَادُ بِهِ الْأَنْوَارُ وَالْبَصَائِرُ وَسَيَأْتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ بَيَانُ فَائِدَتِهِ فِي آيَةِ [[راجع ج ٢ ص ١٩١.]] التَّوْحِيدِ إِنْ شَاءَ الله تعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب