الباحث القرآني

ثُمَّ أنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَهم بِفِعْلِ الخَيْرِ شُكْرًا لِما خَصَّهم بِهِ مِنَ النِّعَمِ حَرَّضَهم عَلى ذَلِكَ مِن مَأْخَذٍ آخَرَ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: (p-248)﴿أتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالبِرِّ وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ﴾ والهَمْزَةُ فِيهِ لِلتَّقْرِيرِ مَعَ تَوْبِيخٍ وتَعْجِيبٍ، والبِرُّ سَعَةُ المَعْرُوفِ، والخَيْرُ، ومِنهُ البَرُّ والبَرِّيَّةُ لِلسَّعَةِ، ويَتَناوَلُ كُلَّ خَيْرٍ، والنِّسْيانُ كَما في البَحْرِ السَّهْوُ الحادِثُ بَعْدَ العِلْمِ، والمُرادُ بِهِ هُنا التَّرْكُ، لِأنَّ أحَدًا لا يَنْسى نَفْسَهُ بَلْ يَحْرِمُها، ويَتْرُكُها كَما يَتْرُكُ الشَّيْءَ المَنسِيَّ مُبالَغَةً في عَدَمِ المُبالاةِ، والغَفْلَةِ، فَما يَنْبَغِي أنْ يَفْعَلَهُ، وقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما في أحْبارِ المَدِينَةِ، كانُوا يَأْمُرُونَ سِرًّا مَن نَصَحُوهُ بِاتِّباعِ مُحَمَّدٍ ﷺ، ولا يَتَّبِعُونَهُ، وقِيلَ: إنَّهم كانُوا يَأْمُرُونَ بِالصَّدَقَةِ، ولا يَتَصَدَّقُونَ، فالمُرادُ بِالبَرِّ هُنا إمّا الإيمانُ أوِ الإحْسانُ، وتَرَكَهُ بَعْضُهم عَلى ظاهِرِهِ مُتَناوِلًا كُلَّ خَيْرٍ عَلى ما قالَ السُّدِّيُّ: إنَّهم كانُوا يَأْمُرُونَ النّاسَ بِطاعَةِ اللَّهِ تَعالى، ويَنْهَوْنَهم عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وهم كانُوا يَتْرُكُونَ الطّاعَةَ، ويَقْدَمُونَ عَلى المَعْصِيَةِ، والتَّوْبِيخُ لَيْسَ عَلى أمْرِ النّاسِ بِالبِرِّ نَفْسِهِ، بَلْ لِمُقارَنَتِهِ بِالنِّسْيانِ المَذْكُورِ، ﴿وأنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتابَ﴾ أيِ التَّوْراةَ، والجُمْلَةُ حالٌ مِن فاعِلِ أتَأْمُرُونَ، والمُرادُ التَّبْكِيتُ وزِيادَةُ التَّقْبِيحِ، ﴿أفَلا تَعْقِلُونَ﴾ أصْلُ هَذا الكَلامِ ونَحْوِهِ عِنْدَ الجُمْهُورِ كانَ بِتَقْدِيمِ حَرْفِ العَطْفِ عَلى الهَمْزَةِ، لَكِنْ لَمّا كانَ لِلْهَمْزَةِ صَدْرُ الكَلامِ قُدِّمَتْ عَلى حَرْفِ العَطْفِ، وبَعْضُهم ذَهَبَ إلى أنَّهُ لا تَقْدِيمَ، ولا تَأْخِيرَ، ويُقَدَّرُ بَيْنَ الهَمْزَةِ وحَرْفِ العَطْفِ ما يَصِحُّ العَطْفُ عَلَيْهِ، والعَقْلُ في الأصْلِ المَنعُ والإمْساكُ، ومِنهُ عِقالُ البَعِيرِ سُمِّيَ بِهِ النُّورُ الرُّوحانِيُّ الَّذِي بِهِ تُدْرِكُ النُّفُوسُ العُلُومَ الضَّرُورِيَّةَ والنَّظَرِيَّةَ، لِأنَّهُ يَحْبِسُ عَنْ تَعاطِي ما يَقْبُحُ، ويَعْقِلُ عَلى ما يَحْسُنُ، والفِعْلُ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مُطْلَقًا، أُجْرِيَ مَجْرى اللّازِمِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مُتَعَدِّيًا مُقَدَّرًا لِمَفْعُولٍ، والمَعْنى: أفَلا عَقْلَ لَكم يَمْنَعُكم عَمّا تَعْلَمُونَ سُوءَ خاتِمَتِهِ، ووَخامَةَ عاقِبَتِهِ، أوْ أفَلا تَعْقِلُونَ قُبْحَ صَنِيعِكم شَرْعًا لِمُخالَفَةِ ما تَتْلُونَهُ في التَّوْراةِ، وعَقْلًا لِكَوْنِهِ جَمْعًا بَيْنَ المُتَنافِيَيْنِ، فَإنَّ المَقْصُودَ مِنَ الأمْرِ بِالبِرِّ الإحْسانُ والِامْتِثالُ والزَّجْرُ عَنِ المَعْصِيَةِ، ونِسْيانُهم أنْفُسَهم يُنافِي كُلَّ هَذِهِ الأغْراضَ، ولا نِزاعَ في كَوْنِ قُبْحِ الجَمْعِ بَيْنَ ذَلِكَ عَقْلًا بِمَعْنى كَوْنِهِ باطِلًا، فَعَلى هَذا لا حُجَّةَ لِلْمُعْتَزِلَةِ في الآيَةِ عَلى القُبْحِ العَقْلِيِّ الَّذِي يَزْعُمُونَهُ، بَلْ قَدِ ادَّعى بَعْضُ المُحَقِّقِينَ أنَّها دَلِيلٌ عَلى خِلافِ ما ذَهَبُوا إلَيْهِ، لِأنَّهُ سُبْحانَهُ رَتَّبَ التَّوْبِيخَ عَلى ما صَدَرَ مِنهم بَعْدَ تِلاوَةِ الكِتابِ، وكَذا لا حُجَّةَ فِيها لِمَن زَعَمَ أنَّهُ لَيْسَ لِلْعاصِي أنْ يَأْمُرَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهى عَنِ المُنْكَرِ، لِأنَّ التَّوْبِيخَ عَلى جَمْعِ الأمْرَيْنِ بِالنَّظَرِ لِلثّانِي فَقَطْ، لا مَنعِ الفاسِقِ عَنِ الوَعْظِ، فَإنَّ النَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ لازِمٌ، ولَوْ لِمُرْتَكِبِهِ، فَإنَّ تَرْكَ النَّهْيِ ذَنْبٌ وارْتِكابُهُ ذَنْبٌ آخَرُ، وإخْلالُهُ بِأحَدِهِما لا يَلْزَمُ مِنهُ الإخْلالُ بِالآخَرِ، ثُمَّ إنَّ هَذا التَّوْبِيخَ والتَّقْرِيعَ وإنْ كانَ خِطابًا لِبَنِي إسْرائِيلَ إلّا أنَّهُ عامٌّ مِن حَيْثُ المَعْنى لِكُلِّ واعِظٍ، يَأْمُرُ، ولا يَأْتَمِرُ، ويَزْجُرُ ولا يَنْزَجِرُ، يُنادِي النّاسَ البِدارَ البِدارَ، ويَرْضى لِنَفْسِهِ التَّخَلُّفَ، والبَوارَ، ويَدْعُو الخَلْقَ إلى الحَقِّ، ويَنْفِرُ عَنْهُ، ويُطالِبُ العَوامَّ بِالحَقائِقِ، ولا يُشَمُّ رِيحُها مِنهُ، وهَذا هو الَّذِي يُبْدَأُ بِعَذابِهِ قَبْلَ عَبَدَةِ الأوْثانِ، ويُعَظَّمُ ما يَلْقى لِوُفُورِ تَقْصِيرِهِ يَوْمَ لا حاكِمَ إلّا المَلِكُ الدَّيّانُ. وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ واسِعٍ قالَ: بَلَغَنِي أنَّ أُناسًا مِن أهْلِ الجَنَّةِ اطَّلَعُوا عَلى ناسٍ مِن أهْلِ النّارِ، فَقالُوا لَهم: قَدْ كُنْتُمْ تَأْمُرُونَنا بِأشْياءَ عَمِلْناها فَدَخَلْنا الجَنَّةَ، قالُوا: كُنّا نَأْمُرُكم بِها، ونُخالِفُ إلى غَيْرِها، هَذا ومِنَ النّاسِ مَن جَعَلَ هَذا الخِطابَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وحَمَلَ الكِتابَ عَلى القُرْآنِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِن تَلْوِينِ الخِطابِ كَما في ﴿يُوسُفُ أعْرِضْ عَنْ هَذا واسْتَغْفِرِي﴾ والظّاهِرُ يُبْعِدُهُ،
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب