الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا﴾ يجوز أن تتعلق (إذ) بمضمر معناه: واذكروا إذ أنتم، كما قال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ﴾ [الأنفال: 26]، فأضمر هاهنا، ويجوز أن تتعلق بالمصدر الذي هو (الفرقان) في قوله: ﴿يَوْمَ الْفُرْقَانِ﴾ المعنى: يوم فرق الله بين الحق والباطل إذ أنتم بهذا الموضع. وأما العدوة: فقال ابن السكيت: عِدوة الوادي وعُدوته: جانبه والجمع عِدىً وعُدَى [["تهذيب إصلاح المنطق" ص 295، و"تهذيب اللغة" (عدا) 3/ 2348.]]، وقال الليث: العُدوة: صلابة من شاطئ الوادي ويقال: عِدوة [["تهذيب اللغة" (عدا) 3/ 2348، والنص في كتاب "العين" (عدو) 2/ 216.]]. وقرئ باللغتين جميعًا [[قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بكسر العين، والباقون بضمها. انظر: كتاب "السبعة" ص 306، و"تحبير التيسير" ص 118.]]. قال الأخفش: الكسر كلام العرب، لم يسمع منهم غير ذلك [["الحجة" 4/ 129، و"تفسير ابن الجوزي" 3/ 361، والفخر الرازي 15/ 167، وأبي حيان 4/ 499، وهو مخالف لقوله في "معاني القرآن" 1/ 350، فقد ذكر اللغتين ورجح القراءة بالضم.]]، قال أحمد بن يحيى: الضم في العُدوة أكثر اللغتين [[انظر: "زاد المسير" 3/ 361، ولم أجده في "فصيح ثعلب".]]. و ﴿الدُّنْيَا﴾: تأنيث الأدنى، وضده القصوى، وهو تأنيث الأقصى، وكل شيء تنحى عن شيء فقد قصى يقصو [[في (ح): (يقصى)، والصواب ما أثبته، إذ في كتب اللغة: كل شيء تنحى عن شيء فقد قصى يقصو قصوًا. انظر: كتاب "العين" (قصو) 5/ 187، و"تهذيب اللغة" (قصا) 3/ 2969، و"لسان العرب" (قصا) 6/ 3657، أما الفعل (يقصى) فهو مضارع (قصي) بالكسر يقال: قصي فلان عن جوارنا يقصى قصًا، أي: بعد، انظر: "لسان العرب" (قص) 6/ 3608.]] قصوًّا، والأقصى والقصوى كالأكبر والكبرى. وأما الكلام في اختلاف (الدنيا) و (القصوى) بالياء والواو وهما من باب واحد، فقال الحراني عن ابن السكيت: ما كان من النعوت مثل العليا والدنيا فإنه يأتي بضم أوله وبالياء؛ لأنهم يستثقلون الواو مع ضمة أوله، وليس [[في "تهذيب اللغة": فليس.]] فيه اختلاف إلا أن أهل الحجاز قالوا: القصوى، فأظهروا الواو -وهو نادر- أخرجوه على القياس إذ سكن ما قبل الواو، وتميم وغيرهم يقولون: القصيا [["تهذيب اللغة" (قصا) 3/ 2969. وانظر: "تهذيب إصلاح المنطق" ص 346.]]، ونحو هذا حكى الليث عن الخليل فقال: كل شيء جاء على (فعلى) من بنات [[يعني: ذوات، كما في "اللسان" 6/ 3657، مادة (قصا).]] الواو فإن العرب تحوله إلى الياء نحو: الدنيا من دنوت، وأشباه ذلك غير القصوى، ويقال: القصيا لغة فيه، وجاءت: الفتوى لغة في الفتيا [[في كتاب "العين": الفتيا لغة في الفتوى.]] لأهل المدينة خاصة [[كتاب "العين" (قصو) 5/ 187، وقد تصرف الواحدي بعبارة الخليل بالحذف والزيادة.]]. قال المفسرون جميعًا: إذ أنتم نزولٌ بشفير [[أي: حده وحرفه، انظر: "مقاييس اللغة" (شفر) 3/ 200.]] الوادي الأدنى إلى المدينة وعدوكم نزولٌ بشفير الوادي الأقصى إلى مكة [[انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 10، والثعلبي 6/ 63 أ، و"الدر المنثور" 3/ 341.]]. وكان الجمعان قد نزلا الوادي الذي ببدر على هذه الصفة قد اكتنفا شفيريه. قال أهل المعاني: معنى [[ساقط من (ح).]] الآية: اذكروا إذ كنتم بشط الوادي الأقرب [[ساقط من (ح).]] إلى المدينة وهم بالشط الأبعد منها، وهذا كان من لطيف صنع الله لهم؛ لأن الرجل كلما كان أقرب من داره كان أربط لجأشه [[لم أقف عليه.]]. وقوله تعالى: ﴿وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ﴾، قال ابن السكيت: الركب أصحاب الإبل، وهم العشرة فما فوقها [["المشوف المعلم في ترتيب الإصلاح" (رك ب) 1/ 309، والنص باختصار في "تهذيب إصلاح المنطق" ص 114.]]. ويقال: سفل يسفل سفاله وسفلًا فهو سافل، نقيض علا يعلو، قال المفسرون: يعني أبا سفيان وأصحابه وهم العير التي خرجوا ليأخذوها، كانت في موضع أسفل منكم إلى ساحل البحر [[انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 10، والثعلبي 6/ 63 أ، والبغوي 3/ 363.]]. قال أبو إسحاق: الوجه أن تنصب (أسفل) -وعليه القراءة- أراد: مكانًا أسفل، ويجوز الرفع على أن تريد: والركب [[ساقط من (ح).]] أشد تسفلًا [["معاني القرآن وإعرابه" 2/ 417 مع التقديم والتأخير والحذف.]]، ونحو هذا قال الفراء سواء [[انظر: "معاني القرآن" 1/ 411.]]. وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ﴾، قال ابن إسحاق: أقبل أبو سفيان في الركب من الشام، وخرج رسول الله ﷺ وأصحابه ليأخذوها، وخرجت قريش تمنعه، فالتقوا ببدر ولم يشعروا [[في "السيرة النبوية" 2/ 319، كلام يشبه هذا من حيث المعنى، ثم تبين لي أن ابن إسحاق هذا ليس صاحب السيرة بل هو عمير بن إسحاق أبو محمد مولى بني هاشم، تابعي متكلم فيه، لينه ابن معين، وقال الحافظ ابن حجر: مقبول. انظر: "الكاشف" 2/ 96 (4282)، و"التقريب" ص 431 (5179)، وأثره هذا رواه ابن جرير 7/ 11 بلفظ مقارب.]]، فقال الله تعالى: ﴿وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ﴾ لكثرتهم وقلتكم، يعني: لو تواعدتم ثم بلغكم كثرة عددهم مع قلة عددكم لتأخرتم وفنقضتم الميعاد، هذا معنى قول المفسرين [[انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 11، والثعلبي 6/ 63 ب، والبغوي 3/ 363، وابن الجوزي 3/ 362.]]. وقيل: لو تواعدتم من غير لطف الله لكم لاختلفتم بالعوائق والقواطع [[هذا قول أحمد بن عمار المهدوي المفسر، انظر. "المحرر الوجيز" 6/ 319 ، وقد ذكر هذا القول أيضًا الماوردي 2/ 322 دون نسبة.]]. وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾ في الكلام حذف واختصار يدل عليه الفحوى، تقديره: ولكن جمعكم الله من غير ميعاد: ﴿لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾ وإن شئت أخرت المقدر فقلت: ﴿وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾ جمعكم من غير ميعاد، قال ابن عباس: يريد: ليتم الله لنبيه وللمؤمنين موعده؛ ليقر عين نبيه وأعين المؤمنين [["تنوير المقباس" ص 182 بمعناه.]]، وقال أهل المعاني: ليفصل [[في (ح): (ليقضي).]] الله أمرًا كان مفعولًا في علمه وحكمه من عز الإِسلام وعلو أهله على عبدة الأوثان بتدبيره ولطفه [[ذكر معنى هذا القول أبو الليث السمرقندي 3/ 341، وابن عطية 6/ 320، وأبو حيان 4/ 501، ولم أجده عند أهل المعاني.]]. قوله تعالى: ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ فهذه اللام مكررة على اللام في قوله: ﴿لِيَقْضِيَ﴾ المعنى: ولكن فعل ذلك ليهلك، وأكثر أهل العلم على أن المراد بالهلاك هاهنا: الكفر والضلال، وبالحياة: الاهتداء والإسلام [[انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 12، و"معاني القرآن" للنحاس 3/ 159، و"تفسير ابن أبي حاتم" 5/ 1708، والسمرقندي 2/ 19، وابن عطية 6/ 321، وابن كثير 2/ 328، وقد ذهب ابن جرير إلى أن المعنى: ليموت من مات عن حجة ويعيش من عاش عن حجة.]]. قال محمد بن إسحاق: ليكفر من كفر بعد حجة قامت عليه وقطعت عذره، ويؤمن من آمن على مثل ذلك [["السيرة النبوية" 2/ 319 مع اختلاف يسير.]]، وقال قتادة: ليضل من ضل عن بينة، ويهتدي [[في (ح): (يهدى)، وهو كذلك في "تفسير البغوي"، وما أثبته موافق لـ"تفسير الثعلبي" وهو أولى لأن الكلمة تفسير لقوله تعالى: ﴿يَحْيَى﴾ ولموافقته لقول قتادة: من اهتدى.]] من اهتدى على بينة [[رواه الثعلبي 6/ 63 ب، والبغوي 3/ 363.]]، قال الزجاج: جعل الله عز وجل المقاصد للحق بمنزلة الحي، وجعل الضال بمنزلة الهالك [["معاني القرآن وإعرابه" 2/ 418.]]. وذهب آخرون إلى أن معنى الهلاك هاهنا: الموت [[انظر: "تفسير ابن جرير" 10/ 12، والماوردي 2/ 322، وابن الجوزي 3/ 363، والبغوي 3/ 363.]]، وقال [[هذا قول الثعلبي، انظر: "تفسيره" 6/ 63 ب.]]: وأفعل ما فعلت يوم بدر ليكون موت من يموت على بينة رآها وحجة قامت عليه، وكذلك حياة من يحيى؛ لما سبق من وعده ببعثة الرسول قبل العذاب في قوله: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: 15]. وقوله تعالى: ﴿وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ﴾ قرئ بيائين، وقرئ بياء واحدة مشددة (حيّ) [[قرأ نافع وأبو بكر، عن عاصم والبزي، عن ابن كثير بالفك وعدم التشديد، وقرأ باقي السبعة بالإدغام والنطق بياء واحدة مشددة انظر "إرشاد المبتدي" ص 347، و"تحبير التيسير" ص 118، و"الوافي في شرح الشاطبية" ص280.]]، قال أبو إسحاق: أما من أدغم فلاجتماع حرفين من جنس واحد، وأما من أظهر فلأن الحرف الثاني ينتقل من [[في "معاني القرآن وإعرابه": عن.]] لفظ الياء تقول: حيي يحيى والمحيا، فعلى هذا يجوز الإظهار [[المصدر السابق 2/ 418.]]، هذا كلامه وشرحه أبو علي فقال: من أدغم فلأن الياء قد لزمتها الحركة، فصار [[يعني الحرف، ولذا ذكّره وهو كذلك في بعض نسخ "الحجة للقراء السبعة"، وجاء في بعضها: فصارت، بالتأنيث، وكذا في موضعين بعده، ونصه: فصارت بلزوم الحركة لها مشابهة ... إلخ. وهذا ما اختاره المحققان للحجة.]] بلزوم الحركة له مشابهًا للصحيح، ألا ترى أن من حذف الياء من (جوار) في الجر والرفع لم [[ساقط من (ح).]] يحذفها إذا تحركت بالفتح لمشابهتها بالحركة سائر الحروف الصحيحة، وقالوا في الوقف: ﴿كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ﴾ [القيامة: 26] فلم تحذف كما حذفت الياء من قوله: ﴿الْكَبِيرُ الْمُتَعَال﴾ [الرعد: 9] وهذا يدلك على أنها بالحركة قد صارت في حكم الصحيح، وإذا صار كذلك جاز الإدغام فيها كما جاز في الصحيح، وعلى هذا جاء ما أنشد من قوله [[البيت لعبيد بن الأبرص كما في "ديوانه" ص 138، و"أدب الكاتب" ص 54، و"الحيوان" 3/ 189، و"شرح أبيات سيبويه" 2/ 430، و"لسان العرب" (حيا) 2/ 1080.]]: عَيُّوا بأمرهم كما ... عيّت ببيضتها الحمامه وقال المتلبس [[هو: جرير بن عبد العزى -أو عبد المسيح- من بني ضبيعة من ربيعة، شاعر جاهلي من أهل البحرين، وهو خال طرفة بن العبد، صاحب المعلقة وكان ينادم ملك العراق عمرو بن هند ويمدحه ثم هجاه فأراد عمرو قتله ففر إلى الشام، وتوفي نحو سنة 50 ق هـ. انظر: "الشعر والشعراء" ص 99، و"الأعلام" 2/ 119.]]: فهذا أوان العرض حي ذبابة ... زنابيره والأزرق المتلمس [[البيت في "ديوانه" ص 123، وانظر: "شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي 2/ 622، و"المعاني الكبير" 2/ 406. قال المرزوقي في الموضع السابق: يروى (جُنّ ذبابه) أي كثر ونشط، والعرض: واد من أودية اليمامة، وكأنه قال: وهذا الذي ذكرت هو في هذا الأوان، وقوله (حيّ ذبابه) أي عاش بالخصب فيه، وزنابيره يرتفع على أنه بدل من الذباب، وذباب الروض قد تسمى زنابير وقوله (والأزرق) إشارة إلى جنس آخر غير الأول، وهو ما كان أخضر ضخمًا، والمتلمس: الطالب اهـ. باختصار.]] فجعلوا هذه الأشياء في الإدغام بمنزلة: شموا وعضوا وعبرة هذا: أن [كل موضع لزمت الحركة الياء الأخيرة التي هي لام جاز الإدغام فيه] [[ما بين المعقوفين نصه في "الحجة" هكذا: كل موضع يلزم ياء يخشى فيه الحركة، جاز الإدغام في اللام من حيي اهـ، ولم يظهر لي معناه، وقد نقل ابن عطية هذا القول بلفظ مغاير أيضًا ونصه: قال أبو علي: وعبرة هذا أن كل موضع تلزم الحركة فيه ياء مستقبلية فالإدغام في ماضيه جائز. "المحرر الوجيز" 6/ 323.]]، فأما قوله: ﴿عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ [القيامة: 40]، فلا يجوز فيه الإدغام؛ لأن حركة النصب غير لازمة، ألا ترى أنها تزول في الرفع وتذهب في الجزم مع الرفع، وإذا لم تلزم لم يجز الاعتداد بها، كأشياء [[في (ح): (شيئًا).]] لم يعتد بها لما لم تلزم، نحو الضمة في: هذه فَخِذٌ، وإن لم يكن في الكلام ضمة قبلها [[في (س): (ما قبلها).]] كسرة لما كانت غير لازمة، وهذا النحو كثير، [وإنما شرطنا لزوم الحركة في المدغم فيه لأن المتحرك لا يدغم في الساكن؛ وذلك أن [[ساقط من (ح).]] المتحرك أقوى من الساكن، ولا يدغم الأقوى في الأضعف، إنما يدغم الأضعف في الأقوى] [[ما بين المعقوفين ليس من كلام أبي علي في "الحجة" كالكلام السابق واللاحق له ، بل ذكره أبو علي في كتابه "الإغفال" ص 827، وقد ذكره الواحدي بمعناه.]]. وأما من أظهر فقال: (حيي) ولم يدغم فلأن حركة اللام في (حيي) تزول لاتصالها بالضمير إذا قلت: حَيِيت، فصار زوال الحركة عن اللام في هذا البناء بمنزلة زوال حركة النصب عن المعرب لحدوث إعراب آخر فيه، ويقوي البيان في هذا ما حكاه يونس عن العرب: أحيياء، وأحييه وفي جمع حي، فبينوا، مع أن الحركة غير مفارقة، فإذا لم يدغموا ما لم تفارقه الحركة فلأن لا يدغموا ما تفارقه الحركة كان [[ساقط من (ح) و (س).]] أولى [["الحجة للقراء السبعة" 4/ 140 - 143، مع تصرف كثير بالحذف والزيادة والتقديم والتأخير.]]. وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، قال ابن عباس: يريد: سميع لدعائكم وابتهالكم وتضرعكم، عليم بنياتكم وحبكم لربكم ونصرتكم لنبيكم وطاعتكم لله [[رواه الفيروزأبادي في "تنوير المقباس" ص 182 مختصراً.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب