الباحث القرآني

ولَمّا ذَكَرَ لَهم يَوْمَ مُلْتَقاهُمْ، صَوَّرَ لَهم حالَتَهُمُ المُوَضِّحَةَ لِلْأمْرِ المُبَيِّنَةَ لِما كانُوا فِيهِ مِنَ اعْتِرافِهِمْ بِالعَجْزِ تَذْكِيرًا لَهم بِذَلِكَ رَدْعًا عَنِ المُنازَعَةِ ورَدًّا إلى المُطاوَعَةِ فَقالَ مُبْدِلًا مِن: ﴿يَوْمَ الفُرْقانِ﴾ [الأنفال: ٤١] ﴿إذْ أنْتُمْ﴾ نُزُولٌ ﴿بِالعُدْوَةِ الدُّنْيا﴾ أيِ: القُرْبى إلى المَدِينَةِ ﴿وهُمْ﴾ أيِ: المُشْرِكُونَ نُزُولٌ ﴿بِالعُدْوَةِ القُصْوى﴾ أيِ: البُعْدى مِنها القَرِيبَةُ إلى البَحْرِ، والقِياسُ قَلْبُ واوِهِ ياءً، وقَدْ جاءَ كَذَلِكَ إلّا أنَّ هَذا أكْثَرُ كَما كَثُرَ اسْتَصْوَبَ وقَلَّ اسْتَصابَ، والعِدْوَةُ - بِالكَسْرِ في قِراءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ وأبِي عَمْرٍو ويَعْقُوبَ، وبِالضَّمِّ في قِراءَةِ غَيْرِهِمْ: جانِبُ الوادِي وشَطُّهُ، ومادَّتُها - بِأيِّ تَرْتِيبٍ كانَ - تَدُورُ عَلى الِاضْطِرابِ ويَلْزَمُهُ المُجاوَرَةُ والسُّكُونُ والإقْبالُ والرُّجُوعُ والِاسْتِباقُ والمَحَلُّ القابِلُ لِذَلِكَ، فَكَأنَّها المَوْضِعُ الَّذِي عَلا عَنْ مَحَلٍّ فَكانَ السَّيْلُ مَوْضِعًا لِلْعَدُوِّ ﴿والرَّكْبُ﴾ أيِ: العِيرُ الَّذِي فِيهِ المَتْجَرُ الَّذِي خَرَجْتُمْ لِاقْتِطاعِهِ ورَئِيسُ جَماعَتِهِ أبُو سُفْيانَ، ونُصِبَ (p-٢٨٦)عَلى الظَّرْفِ قَوْلُهُ: ﴿أسْفَلَ مِنكُمْ﴾ أيْ: أيُّها الجَمْعانِ إلى جانِبِ البَحْرِ عَلى مَدًى مِن قَرْيَةٍ تَكادُونَ تَقَعُونَ عَلَيْهِ وتَمُدُّونَ أيْدِيَكم إلَيْهِ مَسافَةَ ثَلاثَةِ أمْيالٍ - كَما قالَ البَغَوِيُّ، وهو كانَ قَصْدَهم وسُؤْلَكُمْ، فَلَوْ كانَتْ لَكم قُوَّةٌ عَلى طَرْقِهِ لَبادَرْتُمْ إلى الطَّرَفِ وغالَبْتُمْ عَلَيْهِ الحَتْفَ، ولَكِنْ مَنَعَكم مِن إدْراكِ مَأْمُولِكم مِنهُ مَن كانَ جاثِمًا بِتِلْكَ العُدْوَةِ جُثُومَ الأسَدِ واثِقًا بِما هو فِيهِ مِنَ القُوى والعَدَدِ كَما «قالَ ﷺ لِسَلَمَةَ بْنِ سَلامَةَ بْنِ وقْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمّا قالَ في تَحْقِيرِهِمْ بَعْدَ قَتْلِهِمْ وتَدْمِيرِهِمْ: إنْ وجَدْنا إلّا عَجائِزَ صُلْعًا، ما هو إلّا أنْ لَقِيناهم فَمَنَحُونا أكْتافَهم - جَوابًا لَهُ: ”أُولَئِكَ يا ابْنَ أخِي المَلَأُ لَوْ رَأيْتَهم لِهِبْتَهم ولَوْ أمَرُوكَ لَأطَعْتَهُمْ“» مَعَ اسْتِضْعافِكم لِأنْفُسِكم عَنْ مُقاوَمَتِهِمْ لَوْلا رَسُولُنا يُبَشِّرُكم وجُنُودُنا تُثَبِّتُكُمْ، وإلى مِثْلِ هَذِهِ المَعانِي أشارَ تَصْوِيرُ مَكانِهِمْ ومَكانِ الرَّكْبِ إيماءً إلى ما كانَ فِيهِ العَدُوُّ مِن قُوَّةِ الشَّوْكَةِ وتَكامُلِ العُدَّةِ وتَمَهُّدِ أسْبابِ الغَلَبَةِ وضَعْفِ حالِ المُسْلِمِينَ وأنَّ ظَفَرَهم في مِثْلِ هَذا الحالِ لَيْسَ إلّا صُنْعًا مِنَ اللَّهِ، وما في البَيْضاوِيِّ تَبَعًا لِلْكَشّافِ مِن أنَّ العُدْوَةَ الدُّنْيا كانَتْ تَسُوخُ فِيها الأقْدامُ ولا ماءَ بِها تَقَدَّمَ رَدُّهُ أوَّلَ السُّورَةِ بِأنَّ المَشْهُورَ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ والسِّيَرِ وغَيْرِها أنَّ المُؤْمِنِينَ هُمُ السّابِقُونَ إلى الماءِ، وأنَّ جَمِيعَ أرْضِ ذَلِكَ المَكانِ كانَتْ رَمْلًا تَسُوخُ فِيهِ الأقْدامُ، فَأتى المُسْلِمِينَ بِهِ مِنَ المَطَرِ ما لَبَّدَ لَهُمُ الأرْضَ، (p-٢٨٧)وأتى المُشْرِكِينَ مِنهُ ما لَمْ يَقْدِرُوا مَعَهُ عَلى الحَرَكَةِ ﴿ولَوْ تَواعَدْتُمْ﴾ أيْ: أنْتُمْ وهم عَلى المُوافاةِ إلى تِلْكَ المَواضِعِ في آنٍ واحِدٍ ﴿لاخْتَلَفْتُمْ في المِيعادِ﴾ أيْ: لِأنَّ العادَةَ قاضِيَةٌ بِذَلِكَ لِأمْرَيْنِ: أحَدُهُما بُعْدُ المَسافَةِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها مِنها وتَعَذُّرُ تَوْقِيتِ سَيْرِ كُلِّ فَرِيقٍ بِسَيْرِ صاحِبِهِ، والثّانِي كَراهَتُكم لِلِقائِهِمْ لِما وقَرَ في أنْفُسِكم مِن قُوَّتِهِمْ وضَعْفِكُمْ، وقَدْ كانَ الَّذِي كَرَّهَ إلَيْكم لِقاءَكم قادِرٌ عَلى أنْ يُكَرِّهَ إلَيْهِمْ لِقاءَكُمْ، فَيَقَعُ الِاخْتِلافُ مِن جِهَتِهِمْ كَما كانَ في بَدْرٍ المَوْعِدِ، وأمّا في هَذِهِ الغَزْوَةِ فَدَعاهم مِن حِمايَةِ غَيْرِهِمْ داعٍ لَمْ يَسْتَطِيعُوا التَّخَلُّفَ مَعَهُ، وطَمَسَ اللَّهُ بَصائِرَهم وقَسّى قُلُوبَهم مَعَ قَوْلِ أبِي جَهْلٍ الَّذِي كانَ السَّبَبَ الأعْظَمَ في اللِّقاءِ لِمَن عَرَضَ عَلَيْهِ المَدَدَ بِالسِّلاحِ والرِّجالِ: إنْ كُنّا نُقاتِلُ النّاسَ فَما بِنا ضَعْفٌ عَنْهُمْ، وإنْ كُنّا إنَّما نُقاتِلُ - كَما يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ - اللَّهَ فَما لِأحَدٍ بِاللَّهِ مِن طاقَةٍ، وقَوْلِهِ أيْضًا في هَذِهِ الغَزْوَةِ لِلْأخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ: إنَّ مُحَمَّدًا صادِقٌ وما كَذَبَ قَطُّ، فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ لَمّا عَلِمَ في مُلاقاتِهِمْ لَكم مِن إعْلاءِ كَلِمَتِهِ وإظْهارِ دِينِهِ ﴿ولَكِنْ﴾ أيْ: دَبَّرَ ذَلِكَ سُبْحانَهُ حَتّى تَوافَيْتُمْ إلى مَوْطِنِ اللِّقاءِ كُلُّكم في يَوْمٍ واحِدٍ مِن غَيْرِ مِيعادٍ ولَمْ تَخْتَلِفُوا في مُوافاةِ ذَلِكَ المَوْضِعِ مَعَ خُرُوجِ ذَلِكَ عَنِ العادَةِ لِكَوْنِهِ أتْقَنَ أسْبابَهُ، فَأطْمَعَكم في العِيرِ أوَّلًا مَعَ ما أنْتُمْ فِيهِ مِنَ الحاجَةِ ثُمَّ وعَدَكم إحْدى الطّائِفَتَيْنِ مُبْهَمًا وأخْرَجَ قُرَيْشًا لِحِمايَةِ عِيرِهِمْ إخْراجًا لَمْ يَجِدُوا مِنهُ بُدًّا، ولَمّا نَجَتْ عِيرُهم أوْرَدَهُمُ الرِّياءُ والسُّمْعَةُ (p-٢٨٨)والبَطَرُ بِما هم فِيهِ مِنَ الكَثْرَةِ والقُوَّةِ كَما قالَ أبُو جَهْلٍ: لا نَرْجِعُ حَتّى نَرِدَ بَدْرًا فَنَنْحَرَ بِها الجَزُورَ ونَشْرَبَ الخُمُورَ وتَعْزِفَ عَلَيْنا القِيانُ ونُطْعِمَ مَن حَضَرَنا مِنَ العَرَبِ فَلا يَزالُونَ يَهابُونَنا مَدى الزَّمانِ - ﴿لِيَقْضِيَ اللَّهُ﴾ أيِ: الَّذِي لَهُ جَمِيعُ الأمْرِ مِن إعْزازِ دِينِهِ بِإعْزازِكم وإذْلالِهِمْ ﴿أمْرًا كانَ﴾ كَما تَكُونُ الجِبِلّاتُ والطَّبائِعُ في التَّمَكُّنِ والتَّمامِ ﴿مَفْعُولا﴾ أيْ: مُقَدَّرًا في الأزَلِ مِن لِقائِهِمْ وما وقَعَ فِيهِ مِن قَتْلِهِمْ وأسْرِهِمْ عَلى ذَلِكَ الوَجْهِ العَظِيمِ فَهو مَفْعُولٌ لا مَحالَةَ لِيَتَبَيَّنَ بِهِ أيْمانُ مَن آمَنَ بِاعْتِمادِهِ عَلى اللَّهِ وتَصْدِيقِهِ بِمَوْعِدِهِ وكَفْرُ مَن كَفَرَ. ولَمّا عَلَّلَ ذَلِكَ التَّدْبِيرَ في اللِّقاءِ بِقَوْلِهِ: ﴿لِيَقْضِيَ اللَّهُ﴾ عِلَّلَ تِلْكَ العِلَّةَ بِقَوْلِهِ: ﴿لِيَهْلِكَ﴾ أيْ: لِعَدِّ رُؤْيَةِ ذَلِكَ القَضاءِ الخارِقِ لِلْعادَةِ ﴿مَن هَلَكَ﴾ أيْ: مِنَ الفَرِيقَيْنِ: الكُفّارِ في حالَةِ القِتالِ وبَعْدَها، والمُسْلِمِينَ هَلاكًا مُتَجاوِزًا وناشِئًا ﴿عَنْ﴾ حالَةٍ ﴿بَيِّنَةٍ﴾ لِما بانَ مِن صِدْقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في هَذِهِ الوَقْعَةِ في كُلِّ ما وعَدَ بِهِ وكِذَبِ الكُفّارِ في كُلِّ ما كانُوا يَقُولُونَهُ قاطِعِينَ بِهِ مَعَ أنَّ ظاهِرَ الحالِ يَقْضِي لَهُمْ، فَكانَ ذَلِكَ مِن أعْظَمِ المُعْجِزاتِ ﴿ويَحْيا مَن حَيَّ﴾ أيْ: بِالإسْلامِ حَياةً هي في أعْلى الكَمالِ بِما تُشِيرُ إلَيْهِ قِراءَةُ نافِعٍ والبَزِّيِّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وأبِي بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ بِإظْهارِ الياءَيْنِ، أوْ في أدْنى الكَمالِ بِما يُشِيرُ (p-٢٨٩)إلَيْهِ إدْغامُ الباقِينَ تَخْفِيفًا حَياةً مُتَجاوِزَةً وناشِئَةً ﴿عَنْ﴾ حالَةٍ ﴿بَيِّنَةٍ﴾ أيْ: كائِنَةٍ بَعْدَ البَيانِ في كَوْنِ الكافِرِينَ عَلى باطِلٍ والمُؤْمِنِينَ عَلى حَقٍّ لِما سَيَأْتِي مِن أنَّهم كانُوا يَقُولُونَ: ﴿غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ﴾ [الأنفال: ٤٩] فَحِينَئِذٍ تَبَيَّنَ المَغْرُورُ وكَشَفَتْ عَجائِبُ المَقْدُورِ عَنْ أعْيُنِ القُلُوبِ المَسْتُورِ. ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: فَإنَّ اللَّهَ في فِعْلِ ذَلِكَ لَعَزِيزٌ حَكِيمٌ، عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿وإنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ﴾ أيْ: لِما كُنْتُمْ تَقُولُونَهُ وغَيْرِهِ ﴿عَلِيمٌ﴾ بِما كُنْتُمْ تُضْمِرُونَهُ وغَيْرِهِ فاسْتَكِينُوا لِعَظَمَتِهِ وارْجِعُوا عَنْ مُنازَعَتِكم لِخَشْيَتِهِ،
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب