الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ﴾، قال أهل المعاني: هذا على المجاز كما يقول القائل: هل تستطيع أن تنهض معنا، أي: هل تفعل، وذلك أن المانع من جهة الحكمة قد يُجعَل بمنزلة المنامي للاستطاعة. وقال ابن الأنباري: لا يجوز لأحد أن يتوهم على الحواريين أنهم شكوا في قدرة الله عز وجل، ولا يدل قولهم ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ﴾ على أنهم شكوا في استطاعة الله [["تفسير الطبري" 7/ 129.]]، إذ كان العربي يقول لصحابه: هل تستطيع أن تقوم معي؟ وهو يعلم أنه مستطيع للقيام، إنما يقصد بتستطيع معنى: هل يسهل عليك ويخف عليك، فكذلك هو في الآية هل يقبلُ ربُّك دعاءَك، وهل يسهل لك إنزال هذه المائدة علينا [["زاد المسير" 2/ 456.]]، وهذا الذي ذكرنا معنى قول الفراء [["معاني القرآن" 1/ 325.]]. وقال أبو علي الفارسي: ليس هذا على أنهم شكوا في قدرة القديم [[القديم: مما أدخله المتكلمون في أسماء الله تعالى، وليس هو من الأسماء الحسنى الواردة في الكتاب والسنة. انظر: "الطحاوية" ص 67.]] سبحانه على ذلك، لأنهم كانوا مؤمنين عارفين، ولكن كأنهم قالوا: نحن نعلم قدرته على ذلك، فليفعله بمسألتك إياه؛ ليكون علَمًا لك ودلالةً على صدقك، وكأنهم سألوه ذلك ليعرفوا صدقة وصحة أمره بحيث لا يعترض عليهم منه إشكال ولا ينازعهم فيه شبهة؛ لأن علمَ الضرورة لا تعترض فيه الشبه التي تعترض في علم الاستدلال، فأرادوا علم أمره من هذا الوجه، ومن ثم قالوا: ﴿وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا﴾ [المائدة: 113]، كما قال إبراهيم عليه السلام: ﴿وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: 260] بأن أعلمُ ذلك، من حيث لا يكون لشبهة ولا إشكال عليّ طريقٌ [["الحجة" 3/ 273، 274 بتصرف.]]. وقرأ الكسائي: (تَسْطِّيع) [["الحجة" 3/ 275.]] بالتاء مدغمًا (رَبَّكَ) نصبًا، أما الإدغام فإن التاء قريب المخرج من اللام؛ لأنهما من حروف طرف اللسان وأصول الثنايا، وبحسب قرب الحرف من الحرف يحسن الإدغام، وإذا جاز إدغام اللام في الشين مع أنها أبعد منها من التاء، فأن يجوز في التاء ونحوها من حروف طرف اللسان وأصول الثنايا أجدر، وأنشد سيبويه: تقولُ إذا استهلكتُ مالاً للذَّةٍ ... فُكَيهَةُ هشَّئٌ بكفَّيك لائقُ [[في الكتاب 4/ 458، ونسبة لطريف بن تميم العنبري، قال سيبويه: يريد: هل شيء؟ فأدغم اللام في الشين.]] وأنشد أيضاً: فذَرْ ذا ولكن هَتُّعينُ مُتَيَّمًا ... على ضوء برقٍ آخِرَ الليلِ ناصِبِ [[في "الكتاب" 4/ 459 ونسبه لمزاحم العقيلي.]] أي هل تعين، فأدغم [["الكتاب" 4/ 458، 459، "الحجة" لأبي علي 3/ 273 بتصرف.]]. وأما معنى ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ﴾ هل تستطيع سؤال ربك [["معاني القرآن" للفراء 1/ 325.]]، وذكر الاستطاعة في سؤاله لا لأنهم شكوا في استطاعته، ولكن كأنهم ذكروه على وجه الاحتجاج عليه منهم، كأنهم قالوا: إنك مستطيع فما يمنعك؟ ومثل ذلك قولك لصحابك: أتستطيع أن تذهب عني فإني مشغول، أي: اذهب لأنك غير عاجز عن ذلك [["الحجة" 3/ 273.]]. و (أنْ) في قوله: ﴿يُنَزِّلَ عَلَيْنَا﴾ متعلق بالمصدر المحذوف على أنه مفعول [["الحجة" 3/ 273.]]، واختار أبو عبيد هذه القراءة [[أي قراءة نصب "رَبَكَ" وهي للكسائي كما تقدم قريبًا.]]؛ لأن الأولى تشبه أن يكون الحواريون شاكين، وهذه القراءة لا توهم ذلك، والمعنى في الاستفهام عن استطاعة عيسى السؤال طلب المعجزة منه، أرادوا هل تستطيع بسؤالك إظهار هذه المعجزة التي نطلبها؟ ويحتمل أن يكون مرادهم بالاستفهام التلطف في استدعاء السؤال كما تقول لصحابك: هل تستطيع أن تفعل كذا؟ وأنت عالم أنه يستطيع، ولكن قصدك بالاستفهام التلطف [["تفسير الطبري" 7/ 130.]]، وهذه القراءة [[أي نصب "ربك".]] قراءة ابن عباس، وعائشة [["معاني القرآن" للفراء 1/ 325.]] يروى عنها أنها قالت: كان القوم أعلم بالله من أن يقولوا: (هل يستطيع ربك) [[أخرجه بمعناه الطبري 7/ 131، "معاني القرآن" للفراء 1/ 325.]]. وقال السدي في معنى القراءة الأولى: هل يطيعك ربك إن سألته [[أخرجه الطبري 7/ 131.]]، وهذا على أن استطاع بمعنى أطاع على زيادة السين. وقال أبو إسحاق في معنى القراءة الثانية: ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ﴾ هل تستدعي طاعته وإجابته فيما تسأله من هذا [["معاني القرآن وإعرابه" 2/ 220.]]، قال: ويحتمل وجه مسألة الحواريين عيسى المائدة ضربين: أحدهما: أن يكونوا أرادوا أن يزدادوا تبيينا [[في "معاني الزجاج": تثبيتًا.]] كما قال إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى﴾ [البقرة: 260]. والثاني: أن يكون مسألتهم المائدة قبل علمهم أنه يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى [["معاني القرآن وإعرابه" 2/ 221.]]، وأما معنى المائدة فقال الزجاج: الأصل عندي أنها فاعلة من ماد يميد إذا تحرك، فكأنها تميد بما عليها [["معاني القرآن وإعرابه" 2/ 220.]]، وقال ابن الأنباري: ويقال: إنما سميت مائدة؛ لأنها غياث وعطاء من قول العرب: ماد فلان فلانًا يميده ميدًا، إذا أحسن إليه وأفضل عليه، وأنشد: إلى أمير المؤمنين المُمتاد [[لرؤبة، انظر: "مجاز القرآن" 1/ 159، 182، 183.]] أراد الذي يميد الناس أي: يعطيهم ويحسن إليهم [["غريب القرآن" لابن قتيبة ص 149، "زاد المسير" 2/ 457.]]، فالمائدة على هذا القول فاعلة من الميد بمعنى: معطية، وقال أبو عبيدة: المائدة فاعلة في معنى مفعولة مثل: عيشة وراضية، وأصلها مَمْيَدة، مِيدَ بها صاحبُها أي: أُعطيها وتُفضل عليه بها، وتقول العرب: مادَني فلان يميدني، إذا أحسن إليه [["مجاز القرآن" 1/ 182.]]. وقوله تعالى: ﴿قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ قال المفسرون: اتقوا الله أن تسألوه شيئًا لم تسأله الأمم قبلكم [["تفسير الطبري" 7/ 130، "معاني القرآن" للنحاس 2/ 386، "زاد المسير" 2/ 457.]]، وقال بعض أصحاب المعاني: أمرهم عيسى بالتقوى مطلقًا، كما أمر الله المؤمنين بها في قوله تعالى: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ [المائدة: 35]، وقوله تعالى: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ [الحشر: 18]، ونحوها من الآي. قاله أبو علي، وقول المفسرين أشبه لتعلقه بما قبله من المعنى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب