الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِعْرَابِ. "هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ". قِرَاءَةُ الْكِسَائِيِّ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ "هَلْ تَسْتَطِيعُ" بِالتَّاءِ "رَبَّكَ" بِالنَّصْبِ. وَأَدْغَمَ الْكِسَائِيُّ اللَّامَ مِنْ "هَلْ" فِي التَّاءِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ، "رَبُّكَ" بِالرَّفْعِ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَشْكَلُ مِنَ الْأُولَى، فَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمَعْنَى هَلْ يُطِيعُكَ رَبُّكَ إِنْ سَأَلْتَهُ "أَنْ يُنَزِّلَ" فَيَسْتَطِيعُ بِمَعْنَى يُطِيعُ، كَمَا قَالُوا: اسْتَجَابَ بِمَعْنَى أَجَابَ، وَكَذَلِكَ اسْتَطَاعَ بِمَعْنَى أَطَاعَ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: هَلْ يَقْدِرُ رَبُّكَ وَكَانَ هَذَا السُّؤَالَ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِمْ قَبْلَ اسْتِحْكَامِ مَعْرِفَتِهِمْ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلِهَذَا قَالَ عِيسَى فِي الْجَوَابِ عِنْدَ غَلَطِهِمْ وَتَجْوِيزِهِمْ عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَجُوزُ: "اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" أَيْ لَا تَشُكُّوا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. قُلْتُ: وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْحَوَارِيِّينَ خُلْصَانُ الْأَنْبِيَاءِ وَدُخَلَاؤُهُمْ وَأَنْصَارُهُمْ كَمَا قَالَ: ﴿مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ﴾ [الصف: ١٤] [[راجع ج ١٨ ص ٨٩.]]. وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: [لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيٌّ وَحَوَارِيِّ الزُّبَيْرُ] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ جَاءُوا بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا يَجِبُ لَهُ وَمَا يَجُوزُ وَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ وَأَنْ يُبَلِّغُوا ذَلِكَ أُمَمَهُمْ، فَكَيْفَ يَخْفَى ذَلِكَ عَلَى مَنْ بَاطَنَهُمْ وَاخْتُصَّ بِهِمْ حَتَّى يَجْهَلُوا قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى؟ إِلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ صَدْرَ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُمْ، كَمَا قَالَ بَعْضُ جُهَّالِ الْأَعْرَابِ لِلنَّبِيِّ ﷺ: اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتَ أَنْوَاطٍ [[ذات أنواط: شجرة بعينها كانت تعبد في الجاهلية قال ابن الأثير: كان المشركون ينوطون بها سلاحهم أي يعلقونه بها، ويعكفون حولها.]]، وَكَمَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى: ﴿اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ [الأعراف: ١٣٨] عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي "الْأَعْرَافِ" [[راجع ج ٧ ص ٢٧٣.]] إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: إِنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَشُكُّوا فِي اسْتِطَاعَةِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ عَارِفِينَ عَالِمِينَ، وَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِكَ لِلرَّجُلِ: هل يستطيع فلان أن يأتي وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ يَسْتَطِيعُ، فَالْمَعْنَى: هَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ؟ وَهَلْ يُجِيبُنِي إِلَى ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَقَدْ كَانُوا عَالِمِينَ بِاسْتِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِذَلِكَ وَلِغَيْرِهِ عِلْمَ دَلَالَةٍ وَخَبَرٍ وَنَظَرٍ فَأَرَادُوا عِلْمَ مُعَايَنَةٍ كَذَلِكَ، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ ﷺ: "رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى "] البقرة: ٢٦٠] عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلِمَ لِذَلِكَ عِلْمَ خَبَرٍ وَنَظَرٍ، وَلَكِنْ أَرَادَ الْمُعَايَنَةَ الَّتِي لَا يَدْخُلُهَا رَيْبٌ وَلَا شُبْهَةٌ، لِأَنَّ عِلْمَ النَّظَرِ وَالْخَبَرِ قَدْ تَدْخُلُهُ الشُّبْهَةُ وَالِاعْتِرَاضَاتُ، وعلم المعاينة لا يدخله شي مِنْ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ: "وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا" كما قال إبراهيم: "وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي" [[راجع ج ٣ ص ٢٩٧.]]] البقرة: ٢٦٠] قُلْتُ: وَهَذَا تَأْوِيلٌ حَسَنٌ، وَأَحْسَنُ مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ قَوْلِ مَنْ كَانَ مَعَ الْحَوَارِيِّينَ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ وَقَدْ أَدْخَلَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمُسْتَطِيعَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ: لَمْ يَرِدْ بِهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ اسْمًا وَقَدْ وَرَدَ فِعْلًا، وَذَكَرَ قَوْلَ الْحَوَارِيِّينَ: "هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ". وَرَدَّهُ عَلَيْهِ ابْنُ الْحَصَّارِ فِي كِتَابِ شَرْحِ السُّنَّةِ لَهُ وَغَيْرُهُ، قَالَ ابْنُ الْحَصَّارِ: وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ مُخْبِرًا عَنْ الْحَوَارِيِّينَ لِعِيسَى: "هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ" لَيْسَ بِشَكٍّ فِي الِاسْتِطَاعَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَلَطُّفٌ فِي السُّؤَالِ، وَأَدَبٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ لَيْسَ كُلُّ مُمْكِنٍ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ وُقُوعُهُ وَلَا [[في ع: وقوعه لكل. إلخ.]] لِكُلِّ أَحَدٍ، وَالْحَوَارِيُّونَ هُمْ [[في هـ: هم هم كانوا.]] كَانُوا خِيرَةَ مَنْ آمَنَ بِعِيسَى، فَكَيْفَ يُظَنُّ بِهِمُ الْجَهْلُ بِاقْتِدَارِ اللَّهِ تَعَالَى على كله شي مُمْكِنٍ؟! وَأَمَّا قِرَاءَةُ "التَّاءِ" فَقِيلَ: الْمَعْنَى هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَسْأَلَ رَبَّكَ هَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ وَمُجَاهِدٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ الْقَوْمُ أَعْلَمَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَنْ يَقُولُوا "هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ"] قَالَتْ: [[من ب وج وك وع.]]] وَلَكِنْ "هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ". وَرُوِيَ عَنْهَا أَيْضًا أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ الْحَوَارِيُّونَ لَا يَشُكُّونَ أَنَّ اللَّهَ يَقْدِرُ عَلَى إِنْزَالِ مَائِدَةٍ وَلَكِنْ قَالُوا: "هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ" وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: أَقْرَأَنَا النَّبِيُّ ﷺ "هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ" قَالَ مُعَاذٌ: وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ مِرَارًا يَقْرَأُ بِالتَّاءِ "هَلْ تَسْطِيعُ رَبَّكَ" وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى هَلْ تَسْتَدْعِي طَاعَةَ رَبِّكَ فِيمَا تَسْأَلُهُ. وَقِيلَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَدْعُوَ رَبَّكَ أَوْ تَسْأَلَهُ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ مَحْذُوفٍ كَمَا قال: "وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ" [[راجع ج ٩ ص ٢٤٦.]]] يوسف: ٨٢] وَعَلَى قِرَاءَةِ الْيَاءِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى حَذْفٍ.
(قالَ اتَّقُوا اللَّهَ) أَيِ اتَّقُوا مَعَاصِيَهُ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا يَحِلُّ بِكُمْ عِنْدَ اقْتِرَاحِ الْآيَاتِ، إِذْ كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا يَفْعَلُ الْأَصْلَحَ لِعِبَادِهِ.
(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أَيْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِهِ وَبِمَا جِئْتُ بِهِ فَقَدْ جَاءَكُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فيه غنى.
{"ayah":"إِذۡ قَالَ ٱلۡحَوَارِیُّونَ یَـٰعِیسَى ٱبۡنَ مَرۡیَمَ هَلۡ یَسۡتَطِیعُ رَبُّكَ أَن یُنَزِّلَ عَلَیۡنَا مَاۤىِٕدَةࣰ مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِۖ قَالَ ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق