الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذْ قالَ الحَوارِيُّونَ ياعِيسى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ﴾ فِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: في قَوْلِهِ: (إذْ قالَ) وجْهانِ:
الأوَّلُ: أوْحَيْتُ إلى الحَوارِيِّينَ إذْ قالَ الحَوارِيُّونَ.
الثّانِي: اذْكُرْ إذْ قالَ الحَوارِيُّونَ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ﴾ قَرَأ الكِسائِيُّ (هَلْ تَسْتَطِيعُ) بِالتّاءِ (رَبَّكَ) بِالنَّصْبِ وبِإدْغامِ اللّامِ في التّاءِ، وسَبَبُ الإدْغامِ أنَّ اللّامَ قَرِيبُ المَخْرَجِ مِنَ التّاءِ لِأنَّهُما مِن حُرُوفِ طَرَفِ اللِّسانِ وأُصُولِ الثَّنايا، وبِحَسَبَ قُرْبِ الحَرْفِ مِنَ الحَرْفِ يَحْسُنُ الإدْغامُ، وهَذِهِ القِراءَةُ مَرْوِيَّةٌ عَنْ عَلِيٍّ وابْنِ عَبّاسٍ. وعَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أنَّها قالَتْ: كانُوا أعْلَمَ بِاللَّهِ مِن أنْ يَقُولُوا: هَلْ يَسْتَطِيعُ ؟ وإنَّما قالُوا: هَلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تَسْألَ رَبَّكَ. وعَنْ «مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ: أقْرَأنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ (هَلْ تَسْتَطِيعُ) بِالتّاءِ (رَبَّكَ) بِالنَّصْبِ» . والباقُونَ (يَسْتَطِيعُ) بِالياءِ (رَبُّكَ) بِرَفْعِ الباءِ وبِالإظْهارِ، فَأمّا القِراءَةُ الأُولى فَمَعْناها: هَلْ تَسْتَطِيعُ سُؤالَ رَبِّكَ ؟ قالُوا: وهَذِهِ القِراءَةُ أوْلى مِنَ الثّانِيَةِ لِأنَّ هَذِهِ القِراءَةَ تُوجِبُ شَكَّهم في اسْتِطاعَةِ عِيسى، والثّانِيَةُ تُوجِبُ شَكَّهم في اسْتِطاعَةِ اللَّهِ، ولا شَكَّ أنَّ الأُولى أوْلى، وأمّا القِراءَةُ الثّانِيَةُ فَفِيها إشْكالٌ، وهو أنَّهُ تَعالى حَكى عَنْهم أنَّهم ﴿قالُوا آمَنّا واشْهَدْ بِأنَّنا مُسْلِمُونَ﴾ وبَعْدَ الإيمانِ كَيْفَ يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّهم بَقُوا شاكِّينَ في اقْتِدارِ اللَّهِ تَعالى عَلى ذَلِكَ ؟
والجَوابُ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى ما وصَفَهم بِالإيمانِ والإسْلامِ بَلْ حَكى عَنْهُمُ ادِّعاءَهم لَهُما ثُمَّ أتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ حِكايَةً عَنْهم: ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ﴾ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهم كانُوا شاكِّينَ مُتَوَقِّفِينَ؛ فَإنَّ هَذا القَوْلَ لا يَصْدُرُ عَمَّنْ كانَ كامِلًا في الإيمانِ، وقالُوا: ﴿ونَعْلَمَ أنْ قَدْ صَدَقْتَنا﴾ وهَذا يَدُلُّ عَلى مَرَضٍ في القَلْبِ، وكَذَلِكَ قَوْلُ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَهم: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهم ما كانُوا كامِلِينَ في الإيمانِ.
والوَجْهُ الثّانِي في الجَوابِ: أنَّهم كانُوا مُؤْمِنِينَ إلّا أنَّهم طَلَبُوا هَذِهِ الآيَةَ لِيَحْصُلَ لَهم مَزِيدُ الطُّمَأْنِينَةِ كَما قالَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿ولَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ فَإنَّ مُشاهَدَةَ مِثْلِ هَذِهِ الآيَةِ لا شَكَّ أنَّها تُورِثُ الطُّمَأْنِينَةَ، ولِهَذا السَّبَبِ قالُوا: ﴿وتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا﴾.
والوَجْهُ الثّالِثُ في الجَوابِ أنَّ المُرادَ مِن هَذا الكَلامِ اسْتِفْهامُ أنَّ ذَلِكَ هَلْ هو جائِزٌ في الحِكْمَةِ أمْ لا، وذَلِكَ لِأنَّ أفْعالَ اللَّهِ تَعالى لَمّا كانَتْ مَوْقُوفَةً عَلى رِعايَةِ وُجُوهِ الحِكْمَةِ، فَفي المَوْضِعِ الَّذِي لا يَحْصُلُ فِيهِ شَيْءٌ مِن وُجُوهِ الحِكْمَةِ يَكُونُ الفِعْلُ مُمْتَنِعًا، فَإنَّ المُنافِيَ مِن جِهَةِ الحِكْمَةِ كالمُنافِي مِن جِهَةِ القُدْرَةِ، وهَذا الجَوابُ (p-١٠٨)يَتَمَشّى عَلى قَوْلِ المُعْتَزِلَةِ، وأمّا عَلى قَوْلِنا فَهو مَحْمُولٌ عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى هَلْ قَضى بِذَلِكَ وهَلْ عَلِمَ وُقُوعَهُ ؟ فَإنَّهُ إنْ لَمْ يَقْضِ بِهِ ولَمْ يَعْلَمْ وُقُوعَهُ كانَ ذَلِكَ مُحالًا غَيْرَ مَقْدُورٍ لِأنَّ خِلافَ المَعْلُومِ غَيْرُ مَقْدُورٍ.
الوَجْهُ الرّابِعُ: قالَ السُّدِّيُّ: ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ﴾ أيْ هَلْ يُطِيعُكَ رَبُّكَ إنْ سَألْتَهُ، وهَذا تَفْرِيعٌ عَلى أنَّ (اسْتَطاعَ) بِمَعْنى (أطاعَ) والسِّينُ زائِدَةٌ.
الوَجْهُ الخامِسُ: لَعَلَّ المُرادَ بِالرَّبِّ هو جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ؛ لِأنَّهُ كانَ يُرَبِّيهِ ويَخُصُّهُ بِأنْواعِ الإعانَةِ، ولِذَلِكَ قالَ تَعالى في أوَّلِ الآيَةِ: ﴿إذْ أيَّدْتُكَ بِرُوحِ القُدُسِ﴾ يَعْنِي أنَّكَ تَدَّعِي أنَّهُ يُرَبِّيكَ ويَخُصُّكَ بِأنْواعِ الكَرامَةِ، فَهَلْ يَقْدِرُ عَلى إنْزالِ مائِدَةٍ مِنَ السَّماءِ عَلَيْكَ.
والوَجْهُ السّادِسُ: أنَّهُ لَيْسَ المَقْصُودُ مِن هَذا السُّؤالِ كَوْنَهم شاكِّينَ فِيهِ بَلِ المَقْصُودُ تَقْرِيرُ أنَّ ذَلِكَ في غايَةِ الظُّهُورِ كَمَن يَأْخُذُ بِيَدِ ضَعِيفٍ ويَقُولُ: هَلْ يَقْدِرُ السُّلْطانُ عَلى إشْباعِ هَذا ؟ ويَكُونُ غَرَضُهُ مِنهُ أنَّ ذَلِكَ أمْرٌ جَلِيٌّ واضِحٌ لا يَجُوزُ لِعاقِلٍ أنْ يَشُكَّ فِيهِ، فَكَذا هاهُنا.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ الزَّجّاجُ: (المائِدَةُ) فاعِلَةٌ مِن مادَ يَمِيدُ: إذا تَحَرَّكَ، فَكَأنَّها تَمِيدُ بِما عَلَيْها، وقالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: سُمِّيَتْ مائِدَةً لِأنَّها عَطِيَّةٌ، مِن قَوْلِ العَرَبِ: مادَ فُلانٌ فُلانًا يَمِيدُهُ مَيْدًا: إذا أحْسَنَ إلَيْهِ، فالمائِدَةُ عَلى هَذا القَوْلِ فاعِلَةٌ مِنَ المَيْدِ بِمَعْنى مُعْطِيَةٍ، وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: (المائِدَةُ) فاعِلَةٌ بِمَعْنى مَفْعُولَةٍ، مِثْلُ ﴿عِيشَةٍ راضِيَةٍ﴾ وأصْلُها: مُمِيدَةٌ مِيدَ بِها صاحِبُها، أيْ أُعْطِيها وتَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِها، والعَرَبُ تَقُولُ: مادَنِي فُلانٌ يَمِيدُنِي: إذا أحْسَنَ إلَيْهِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ وفِيهِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: قالَ عِيسى: اتَّقُوا اللَّهَ في تَعْيِينِ المُعْجِزَةِ؛ فَإنَّهُ جارٍ مَجْرى التَّعَنُّتِ والتَّحَكُّمِ، وهَذا مِنَ العَبْدِ في حَضْرَةِ الرَّبِّ جُرْمٌ عَظِيمٌ، ولِأنَّهُ أيْضًا اقْتِراحُ مُعْجِزَةٍ بَعْدَ تَقَدُّمِ مُعْجِزاتٍ كَثِيرَةٍ، وهو جُرْمٌ عَظِيمٌ.
الثّانِي: أنَّهُ أمَرَهم بِالتَّقْوى لِتَصِيرَ التَّقْوى سَبَبًا لِحُصُولِ هَذا المَطْلُوبِ، كَما قالَ: ﴿ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ ﴿ويَرْزُقْهُ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ [الطَّلاقِ: ٢] وقالَ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وابْتَغُوا إلَيْهِ الوَسِيلَةَ﴾ [المائِدَةِ: ٣٥] وقَوْلُهُ: ﴿إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ يَعْنِي إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِكَوْنِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى قادِرًا عَلى إنْزالِ المائِدَةِ فاتَّقُوا اللَّهَ لِتَصِيرَ تَقْواكم وسِيلَةً إلى حُصُولِ هَذا المَطْلُوبِ.
{"ayah":"إِذۡ قَالَ ٱلۡحَوَارِیُّونَ یَـٰعِیسَى ٱبۡنَ مَرۡیَمَ هَلۡ یَسۡتَطِیعُ رَبُّكَ أَن یُنَزِّلَ عَلَیۡنَا مَاۤىِٕدَةࣰ مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِۖ قَالَ ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق