الباحث القرآني
قوله تعالى: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾. قال المفسرون: الخطاب للأوصياء وأولياء اليتامى [[انظر: "تفسير الطبري" 4/ 228، "تفسير البغوي" 2/ 159.]]. أي أعطوهم أموالهم. وإنما يُعطى إذا بلغ، ولا يُتْمَ بعد البلوغ [[اليتيم هو الذي مات أبوه ويسمى بذلك حتى يبلغ فإذا بلغ زال عنه اسم اليتيم. هذا من ناحية الأحكام الشرعية، أما من الناحية اللغوية فيبقى الاسم لمن مات أبوه وإن كان بالغًا، لأن اليتيم لغة مأخوذ من الانفراد ومنه الدرة اليتيمة: أي المنفردة. انظر "تهذيب اللغة" 4/ 3973، 340 (يتم).]]، ولكن قد يُستَصحب الاسم وإن زال معناه، كقوله: ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46)﴾ [الشعراء: 46]، أي: الذين كانوا سحرة قبل السجود. وقد كان يقال للنبي ﷺ يتيمُ أبي طَالِب [[انظر: "معاني الزجاج" 2/ 7، "تهذيب اللغة" 4/ 3973 (يتم)، "تفسير القرطبي" 5/ 8 ،9، والمقصود أنه كان يقال ذلك بعدما كبر ﷺ.]].
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾.
يقال: تبدل الشيء بالشيء إذا أخذه مكانَه [[انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 294 (بدل).]]، قال العجّاج:
مَن إِنْ تَبَدَّلتُ بِلادِي آدُر [[لم أجده في "ديوان العجاج" برواية الأصمعي وشرحه.]]
قال أكثر المفسرين: كان ولي اليتيم يأخذ الجيّد من ماله ويجعل مكانَه الرديء، بجعل الزائف بدل الجيد، والمهزول بدل السمين، فنهى الله تعالى عن ذلك [[انظر: "تفسير الطبري" 4/ 229 - 230، "زاد المسير" 2/ 5، "تفسير ابن كثير" 1/ 487، "الدر المنثور" 2/ 207 - 208.]].
قال مجاهد وبَاذَان [[باذان ويقال: باذام -بالميم- هو أبو صالح مولى أم هانىء، تقدمت ترجمته.]]: أي: لا تجعل بدل رِزقك الحلال حرامًا تتعجّله، فتأخذه عن مال اليتيم [[في "تفسير مجاهد" 1/ 143 يقول: لا تتبدلوا الحرام من أموال اليتامى بالحال من أموالكم.
وأخرج الأثر عن مجاهد وباذان (أبي صالح) ابن جرير في "تفسيره" 4/ 231 بنحوه، انظر "الكشف والبيان" 4/ 4 ب، "تفسير القرطبي" 5/ 9، "الدر المنثور" 2/ 208.]].
ومعنى هذا ما قال الفراء والزجاج: يقول: لا تأكلوا أموالَ اليتامى بدل أموالكم، وأموالهُم عليكم حرام، وأموالكم حلال [[هذا نص كلام الفراء في "معاني القرآن" 1/ 253، ونحو كلام الزجاج في "معانيه" 2/ 7.]].
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾. قال أكثر المفسرين: لا (تضيفوا) [[في (د): (تضيعوا) بالعين.]] أموالهم في الأكل إلى أموالكم، إن احتجتم إليها فليس لكم أن تأكلوها مع أموالكم [[نص كلام الزجاج في "معانيه" 2/ 7، وانظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 111، "تفسير الطبري" 4/ 230.]].
قال عطاء: يريد تَربَح على يتيمك، بأن يَهوَى دابة عندك أو ثوبًا فتبيعه منه بأكثر من ثمنه، وهو غِرّ [[كأنها في النسختين: (عن) والمُرجَّح ما أثبته لما عند الثعلبي في الحاشية التالية.]] صغير السن [[من "الكشف والبيان" 4/ 4 ب بتصرف، وانظر: "زاد المسير" 2/ 5، "القرطبي" 5/ 10.]].
وهذا الذي ذكره عطاء هو نوع من أكل مال اليتيِم، ولا يجوز ذلك بأي وجهٍ كان.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ [النساء: 2] الكناية تعود إلى الأكل، ودل (تأكلوا) على المصدر [[انظر: "تفسير الطبري" 4/ 230، "الدر المصون" 3/ 557.]]. والحُوب الإثم الكبير، وكذلك الحَوب والحَاب، ثلاث لغات في الاسم والمصدر، يقال: حَاب يحُوب حُوبا، وحَوبا وحَابًا وحيابًة، إذا أَثِم [[انظر: "معاني الفراء" 1/ 253، "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 113، "تفسير ابن جرير" 4/ 230، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 392، "مقاييس اللغة" 2/ 113، "اللسان" 2/ 1036 (حوب).]].
قال الفراء: الحُوب لأهل الحجاز، والحَوب لتميم، ومعناهما الإثم [[ليس في "المعاني"، فقد يكون في كتابه المصادر، وهو مفقود.]].
وقال أمية بن الأسكر الليثي [[أمية بن حُرثان بن الأسْكَر -بالسين المهملة على الصحيح- الكناني الليثي، شاعر مخضرم، له صحبة، كان سيدًا في قومه، توفي - رضي الله عنه - سنة 20 هـ. انظر: "طبقات فحول الشعراء" 1/ 190، "الإصابة" 1/ 64 - 65، "الأعلام" 2/ 22.]] -وكان ابنه قد هاجر بغير إذنه [[ابن أمية هو كلاب، وقصته أنه خرج وأخٌ له في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وتركا أباهما أمية وهو شيخ كبير وكان لا يصبر عن كلاب، فاشتكى أمية إلى عمر وأنشده قصيدةً كان البيت التالي منها، فكتب عمر إلي سعد بن أبي وقاص أن رحل كلاب ابن أمية فرحله، فلما قدم المدينة جمعه عمر بأبيه فجعل أميهَ يشَمُّ ابنَه ويبكي. انظر: "ذيل الأمالي والنوادر" للقالي ص 108، 109، "الإصابة" 1/ 64 - 65.]] -:
وإنَّ مُهَاجِرَينِ تَكنَّفَاهُ ... غَدَاتَئِذٍ لَقَد خَطِئَا وَحَابَا [[البيت في "مجار القرآن" 1/ 113، "تفسير الطبري" 4/ 230، 7/ 529 لكن عجزه في الموضع الأول: لعمر الله قد خطئا وحابا، "ذيل الآمالي والنوادر" ص 109،== وعجزه فيه:
ليترك شيخه خطئا وخابا
"الإصابة" 1/ 65 وجل ألفاظه مغايرة، حيث إنه جاء:
أتاه مهاجران فرنَّخاه ... عباد الله قد عَقَّا وخَابا
والشاهد: حابا أي أثما.]] وحكى الفراء، عن بني أسد أنهم يقولون للقتال: حَائِب [[في "معاني القرآن" 1/ 253.]]. وقال النبي ﷺ: "رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي" [[جزء من دعاء للنبي ﷺ في حديث أخرجه أحمد من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- 1/ 227، وأبو داود (1510) كتاب الوتر، باب: ما يقول الرجل إذا سَلَّم، والترمذي (3551) كتاب الدعوات، باب: في دعاء النبي ﷺ]]، قال أبو عبيد [[في "غريب الحديث" 1/ 220 وقد أخذ عنه المؤلف بتصرف.]]: حَوْبتي يعني: المآثم، قال: وكل مأثم حُوب وحَوب، والواحدة حَوبة، ومِن هذا قوله: ألك حوبة؟ قال: نعم [[جزء من حديث اختصره المؤلف وسياق أبي عبيد: أن رجلًا أتى إلى النبي ﷺ فقال: إني أتيتك لأجاهد معك. فقال: "ألك حوبة؟ " فقال: نعم. قال: "ففيها فجاهد". يُروى عن أشعث ابن عبد الرحمن عن الحسن يرفعه. "غريب الحديث" 1/ 220. ولم أقف على هذا الحديث في دواوين السنة.]].
وهو عندي: كل حرمة تأثم الإنسان بتركها وتضييعها من أُمّ أو أُخت أو بِنت أو غيرهن [["غريب الحديث" 1/ 220، 221 بتصرف.]].
ويقال [[الظاهر أنه من قول أبي عبيد، وليس في "غريب الحديث" وإنما في "تهذيب اللغة" 1/ 690 (حاب)، وفي "الغريب" 1/ 221: وقد يكون التحوب التعبد والتجنب للمأثم.]]: تَحوَّب فلان إذا تعبّد، كأنه يُلقي الحُوب عن نفسه بالعبادة، مثل: تأثم [[انتهى أخذه عن أبي عبيد، وانظر "تهذيب اللغة" 1/ 690 - 691 (حاب).]].
قال الكُميت:
وصُبَّ له شَولٌ من الماء غَائرٌ [[في النسختين: (عابر) بالباء، ولعلها تصحفت عن: غابر.]] ... به كَفَّ عنه الحِيبَةَ المتَحَوِّبُ [[البيت في "تهذيب اللغة" 1/ 691 (حاب)، "اللسان" 2/ 1036. والشَّول: هو الماء القليل. انظر "مقاييس اللغة" 3/ 230. والشاهد: المُتَحوَّب أي المتعبَّد.]]
والحِيبَة ما يُتأثم منه، يصف ذِئبًا سقاه وأطعمه [[من "تهذيب اللغة" 13/ 691 (حاب).]].
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ الآية.
الإقساط: العَدل، يقال أَقسط الرجل إذا عدل [[انظر: "تفسير الطبري" 7/ 541، "تهذيب اللغة" 3/ 2959 (قسط).]]، قال تعالى: ﴿وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الحجرات: 9].
والقسط: العدل والنصفة [[انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2959، "مقاييس اللغة" 5/ 85 (قسط).]]، قال الله تعالى: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾ [النساء: 135].
قال الزجاجي: وأصل قَسَط وأَقْسَط جميعًا من القِسط، وهو النصيب، فإذا قالوا: قسط بمعنى: جار، أرادوا أنه ظلم صاحبه في قِسطه الذي يصيبه. ألا ترى أنهم قالوا: قاسطته فقسطتُه إذا غلبته على قِسطه، فبني قَسَط على بناء ظلم وجار وعسف وغلب، وإذا قالوا: أقسط، فالمراد به أنه صار ذا قسط وعدل، فبُني على بناء أنصف، إذا أتى بالنَّصف والعدل في قوله، وفعله، وقسمه [[الظاهر أن هذا نهاية كلام الزجاجي، ولم أعثر عليه فيما بين يديَ من مصنفاته. انظر "جمهرة اللغة" 2/ 836، "تهذيب اللغة" 3/ 2959 (قسط).]].
واختلف أقوال أهل التأويل في هذه الآية، فرُوي عن عروة أنه قال: قلت لعائشة: قول الله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾؟ فقالت يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حَجرِ وليّها فيرغب في مالها وجمالها ويريد أن ينكحها بأدنى من صداقها، فنُهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق، وأُمِروا أن يَنكحوا ما سِواهن من النساء [[أخرجه البخاري بنحوه (2494) كتاب الشركة، باب: شركة اليتيم وأهل الميراث، ومسلم (3013) كتاب التفسير، وعبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 145، والنسائي في "تفسيره" 1/ 360، 361، والطبري 7/ 531، وغيرهم.]].
وعلى هذا التفسير تقدير الآية: وإن خفتم ألا تُقسطوا في نكاح اليتامى، أي: الإناث منهم، فحذف المضاف؛ لأن قوله بعد: ﴿فَانْكِحُوا﴾ يدل على النكاح [[انظر: "معاني القرآن" للزجاج 2/ 8]].
وقوله تعالى: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ﴾ أي: من غيرهن، وذلك أن قوله: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ﴾ بعد ذكر خوف الحَرج مِن نِكاح اليتامى، يدل على أن المراد به من غيرهن [[انظر: "تفسير الطبري" 4/ 232، "تفسير البغوي" 2/ 160.]].
هذا وجه ما رُوي عن عائشة رضي الله عنها في هذه الآية.
وقال ابن عباس في رواية الوالبي [[هو أبو الحسن علي بن أبي طلحة، تقدمت ترجمته.]] وعطاء، يقول: فكما خِفتم ألا تُقسطوا في اليتامى وَهمَّكم ذلك، فكذلك فخافوا في النساء ألا تعدلوا فيهن ولا تتزوجوا أكثر مما يمكنكم إمساكهن والقيام بحقهن؛ لأن النساء كاليتامى في الضعف، والعجز [[من "الكشف والبيان" 4/ 5 ب، 6 أ، وأشار الثعلبي إلى أن هذه رواية الوالبي عن == ابن عباس، ولم أجد رواية عطاء، وقد أخرجه ابن جرير بمعناه من رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في "تفسير الطبري" 4/ 233، وانظر "أسباب النزول" للمؤلف 146 - 147، "زاد المسير" 2/ 6، "الدر المنثور" 2/ 209.]].
وهذا قول سعيد بن جبير، وقتادة، والربيع، والضحاك، والسدي [[انظر: "تفسير الطبري" 4/ 233، "الكشف والبيان" 4/ 5 ب، 6 أ، "أسباب النزول" 146 - 147، "زاد المسير" 2/ 6، "الدر المنثور" 2/ 209.]]، واختيار الفراء [[انظر: "معاني القرآن" 1/ 253، واختار القول أيضًا ابن جرير في "تفسيره" 4/ 233.]].
وشرح ابن قتيبة هذا القول، فقال: المعنى: أن الله -جل وعز- قال لنا: فكما تخافون أن لا تعدلوا بين اليتامى إذا أكلفتموهم [[هكذا في (أ)، (د) والظاهر أن هذه الكلمة مُصحّفة من (كفلتموهم) بتقديم الفاء على اللام كما عند ابن قتيبة في "مشكل القرآن" ص 72 على أن المعنى يصح على ما هو مذكور في المتن، أي: كلفتم أمرهن والقيام على مصالحهن.]]، فخافوا أيضًا أنْ لا تعدلوا بين النساء إذا نكحتموهن، فانكحوا اثنتين، وثلاثًا، وأربعًا، ولا تتجاوزوا ذلك فتعجزوا عن العدل [[انتهى من "مشكل القرآن" ص 72، والواقع أن المؤلف حذف جملة مهمة من صدر الكلام وذلك أن ابن قتيبة قال: والمعنى: أن الله تعالى قصر الرجال على أربع نسوة وحرّم عليهم أن ينكحوا أكثر منهن، لأنه لو أباح لهم أن ينكحوا من الحرائر ما أباح من ملك اليمين لم يستطيعوا العدل عليهن بالتسوية بينهن، فقال لنا: فكما تخافون .. إلى آخر ما نقله المؤلف.]].
وقال ابن عباس: قُصِر الرجالُ على أربع، مِنْ أجل اليتامى [[أخرجه ابن جرير في "تفسيره" من رواية طاوس 4/ 233، وفيه: من أجل أموال اليتامى، والثعلبي 4/ 5 ب، وانظر "الدر المنثور" 2/ 209.]].
وكان [[هكذا العبارة، ولعل الصواب: ولما كان العدل ..]] العدل في اليتامى شديدًا على كافِلِهم، قصر الرجال على ما بين الواحدة إلى الأربع من النساء، ولم يُطلَق لهم ما فوق ذلك لئلا يميلوا.
وقال مجاهد: معنى الآية: إن تحرجتم من ولاية اليتامى وأموالهم إيمانًا وتصديقًا فكذلك تحرجوا مِن الزنا، فانكحوا النساء الحلال نكاحًا طيبًا ثم بين لهم عددًا محصورًا، وكانوا يتزوجون ما شاءوا من غير عدد [[الأثر بنحوه في "تفسير مجاهد" 1/ 144.
وأخرجه ابن جرير 4/ 236، والأثر عنده إلى (نكاحًا طيبًا) وقد أخذه المؤلف من الثعلبي 4/ 6 أ، وانظره في: "معاني الزجاج" 2/ 8، "معالم التنزيل" 2/ 161، وعزاه السيوطي إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن المنذر كما في "الدر المنثور" 2/ 210.]]، وهذا القول اختيار الزجاج [[لم أر اختيارًا للزجاج لهذا القول الأخير الذي ذهب إليه مجاهد، وإنما ساق أقوالاً، وذكر هذا القول في مقدمتها. انظر: "معاني الزجاج" 2/ 8]].
وهذه أوجهٌ صحيحةٌ من التأويل لهذه الآية [[هذا رأي المؤلف، وبعض المفسرين ساق هذه الأقوال دون ترجيح كالزجاج في المصدر السابق، والبغوي في "معالم التنزيل" 1/ 391، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 12، مما يؤيد احتمال الآية لهذه الأوجه. لكن ابن جرير -كما تقدم- اختار القول الثاني حيث قال: وأولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بتأويل الآية قول من قال: تأويلها: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى، فكذلك فخافوا في النساء فلا تنكحوا منهن إلا ما لا تخافون أن تجوروا فيه منهن ..
"تفسير الطبري" 4/ 235، وقد علل لاختياره كعادته.]].
وقوله تعالى: ﴿مَا طَابَ﴾ ولم يقل: (من) الأصل أن (من) لما يعقل، و (ما) لما لا يعقل [[انظر: "المقتضب" 3/ 63، 4/ 217، "معاني الزجاج" 2/ 8، "حروف المعاني" للزجاجي 54، 55، "شرح شذور الذهب" 189 - 190.]].
ولأهل العربية في هذا قولان: أحدهما: أن (ما) ههنا عبارة عن المصدر، فقال الفراء: معناه فانكحوا الطيب لكم من النساء [[هذا مُؤدَّى رأي الفراء، وليس بنصه. انظر: "معاني الفراء" 1/ 253، 254.]].
وقال مجاهد: فانكحوا النكاح الذي طاب لكم من النساء [[الذي ظهر لي أن هذا معنى كلام مجاهد في الأثر المتقدم عنه قريبًا ص 88 من قوله: (فانكحوا النساء الحلال نكاحا طيبا) لأني لم أجد له هذا الكلام الذي أورده المؤلف هنا بنصه، وانظر: "تفسير الطبري" 4/ 236 - 237 ففيه ما يؤيد أن هذا معنى كلامه.]].
قال الفراء: وهذا كما تقول في الكلام: خُذ من عبيدي ما شئت، أي: مشيئتك فإن قلت: مَن شئت، فمعناه: خذ الذي شئت [["معاني القرآن" للفراء 1/ 254 - بتصرف-، وانظر: "تفسير الطبري" 4/ 236 - 237، "معاني القرآن" للزجاج 2/ 8، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 434.]].
فعلى هذا (ما طاب) بمنزلة الطيب.
والقول الثاني: أن (ما) و (من) ربما يتعاقبان، قال الله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا﴾ [الشمس: 5]، وقال: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ﴾ [[انظر: "المقتضب" 4/ 185، 218، "معالم التنزيل" 1/ 161، "الإملاء بهامش الفتوحات" 2/ 185، "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 12، "الدر المصون" 3/ 561. وقال أبو حيان في "البحر المحيط" 3/ 162: وقرأ ابن أبي عبلة (من طاب) وقرأ الجمهور (ما طاب) فقيل (ما) بمعنى من، وهذا مذهب من يُجَوَّز وقوعَ ما على أحاد العقلاء، وهو مرجوح.]] [النور: 45].
وحكى أبو عَمْرو بن العلاء [[هو زبان بن العلاء بن عمار التميمي البصري أحد القراء السبعة، تقدمت ترجمته.]]، عن العرب: سبحان ما سبح له الرعد [[من "الكشف والبيان" 4/ 6 ب. وقد نسب المبرد فى "المقتضب" 4/ 285 هذا القول لأبي زيد. وانظر: "تفسير القرطبي" 5/ 13.]].
ومعنى قوله (طاب) أي: حلّ [[انظر: "الطبري" 4/ 236، "معاني القرآن" للزجاج 2/ 8، "معالم التنزيل" 2/ 161.]]، وإنما أباح النكاح من اللاتي تحل دون المحرمات اللواتي ذُكِرن في قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ [النساء: 23] إلى آخر الآية [[انظر: "معاني القرآن" للزجاج 2/ 8، 9، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 393.]].
وقوله تعالى: ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾. بدل مما طاب، ومعناه: اثنتَين، وثلاثًا (ثلاثًا [[هذا التكرير ليس في (د). والكلام من أوله للزجاج في "معاني القرآن" 2/ 9.]]) وأربعًا (أربعًا) [[هذا التكرير ليس في (د). والكلام من أوله للزجاج في "معاني القرآن" 2/ 9.]].
قال أبو إسحاق [[أي الزجاج في "معانيه" 2/ 9.]]: إلا أنه لم ينصرف لجهتين لا أعلم أحدًا من النحويين ذكرهما؛ وهي أنه اجتمع فيه علتان: أنه معدول عن اثنتين اثنتين [[عند الزجاج في "المعاني": اثنين اثنين بالتذكير.]] وثلاث ثلاث، وأنه عُدِل عن تأنيث.
قال أصحابنا [[لا يزال الكلام لأبي إسحاق الزجاج، والظاهر أنه يقصد البصريين من النحاة.]]: إنه اجتمع علتان: أنه عَدْل [[في "معاني الزجاج" أنه عُدِل عن تأنيث.]]، وأنه نكرة، والنكرة أصل الأشياء [[عند الزجاج: الأسماء.]]، وهذا [[عند الزجاج: بهذا.]] كان ينبغي أن يخفّفه [[عند الزجاج: نخففه وهو أولى.]]؛ لأنّ النكرة تخفف ولا تعد (فرعًا [[في (د): (نوعًا)، وما أثبته هو الموافق لما في "معاني الزجاج".]]) هذا كلام أبي إسحاق [[في "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 9.]].
وقد أخطا لي [[قد تكون: (لي) زيادة من الناسخ.]] في موضعين من هذا الفصل أصلحهما أبو علي وذكر معنى العدل فقال [[كلام أبي علي من كتابه "الإغفال" فيما أغفله الزجاج 2/ ل 63.]]: اعلم أنّ العدل ضرب من الاشتقاق، فكل معدول مشتق، وليس كل مشتق معدولًا، وإنما صار العدل ثقلًا.
وثانيًا: لأنك تلفظ بكلمة وتريد بها كلمة على لفظ آخر، ألا ترى أنك تريد بعُمَر وزُفَر (عَامِرًا وَزافِرًا) [[فى (د): (زافرًا وعامرًا).]]، فأنت تلفظ بكلمة وتريد أخرى، وليس كذلك سائر المشتقات، لأنك تريد بها نفس اللفظ المسموع، ولست تُحيل بها على لفظ آخر، نحو: ضارب ومضروب؛ فإنهما اشتقا من الضرب، ولا تريد بلفظ واحد منهما لفظًا غيره، كما تريد بُعمَر عامرًا، وبزُفَر زَافِرًا، وبمثنى اثنين اثنين، فصار المعدول بمخالفته سائر المشتقات ثقيِلًا؛ إذ ليس في جنس الاشتقاق شيءٌ على حِدِّهِ.
وقول أبي إسحاق: إن مثنى لا ينصرف لجهتين: وهو أنه معدول عن اثنتين اثنتين، وأنه عُدِل عن تأنيث، مراده بهذا أنه لما عدل عن التأنيث كان ذلك ثقلًا آخر لما لم يكن المعدول عنه هو الأول المذكر، فزاد بذلك ثقلًا انضم إلى المعنى الأول فلم ينصرف.
إلى هذا الوجه ذهب أبو إسحاق، ولو سُلِّم له أنه عُدِل عن تانيث لم يكن ثقلًا مانعًا من الصرف يدل على ذلك أن التعريف ثانٍ، كما أن التأنيث كذلك، ولم يكن العدل عن التعريف ثقلًا معتدًا في منع الصرف، ألا ترى أنه لو كان مُعتَدًا به لوجب أن لا ينصرف (عُمر) في النكرة في قول جميع الناس، دلالة على أن العدل عن التعريف غير معتد به ثقلًا، على أنا لا نسلم أنه معدول عن تأنيث.
وقوله في ذلك دعوى لا دلالة عليها، ألا ترى أنه لا يجد فصلًا بينه وبين من قَلَب هذا عليه، فقال: إنه معدول عن التذكير هو أقرب إلى الصواب؛ لأن الأصل التذكير حتى يُعلم التأنيث، ولم نعلم التأنيث هنا. فإن قال: عَلِمنا التأنيث بقوله: ﴿مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى﴾ فجرى على النساء وهي مؤنثة، قيل: لا يدل هذا على أنّ العدل عن التأنيث، بل العدل يكون عن التذكير، وإنما جرى على النساء، من حيث كان تأنيثها تأنيث الجمع، وهذا الضرب من التأنيث ليس بحقيقي، ألا ترى أنك تقول: هي الرجال، كما تقول: هي النساء، فلما كان تأنيث النساء تأنيث الجمع جرى عليه هذه الأسماء كما جرى على غير النساء مما تأنيثه تأنيث جمع؛ لأنّ تأنيث الجمع ليس بحقيقي، إنما هي من أجل اللفظ، فهو مثل: الدار، والنار، وما أشبه ذلك.
ولو جاز لقائل أن يقول: مثنى وبابُه معدول عن مؤنث لما جرى على النساء وواحدتهن مؤنثة، لجاز لآخر أن يقول: إنه مذكر؛ لأنه جرى صفة على الأجنحة في قوله: ﴿أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى﴾ [فاطر: 1]، وواحدها مُذكّر.
وهذا هو القول والوجه لما بينّا أنّ تأنيث الجمع ليس بحقيقي، على أن هذه الأسماء قد جرت المذكر الحقيقي، قال: ولقد قتلتكم [[في النسختين: (قبلتكم) بالموحدة التحتية، وما أثبته حسب "الإغفال" والمصادر الآتية.]] ثناءَ وَموحَدًا ... وتركتُ مُرَّة مثل أمسِ الدَّابِرِ [[البيت لصَخر بن عمرو بن الشّريد السُلمي.
انظر: "مجاز القرآن" 1/ 115، "أدب الكاتب" ص 458، "تفسير الطبري" 4/ 237، لكن عند أبي عبيدة وابن جرير قافيته: كأمس المدبر، ومال إلى ذلك محمود شاكر في حاشيته على ابن جرير. والشاهد منه كما في "مجاز القرآن" أنه اخرج اثني مخرج ثلاث.]]
فأما ذكره في قول: قال: إنه اجتمع فيه علتان، أنه عَدْل وأنه نكرة، الفصل إلى آخره، فاعلم أنه غلط بين في الحكاية عنهم، وإنما يذهبون في امتناعه من الانصراف إلى أنه معدول، وأنه صفة. وهذا لفظ سيبويه، قال [[أي سيبويه في "الكتاب" 3/ 225.]] عن الخليل في (أحاد، ومثنى): إنما كان حده واحدا واحدا، واثنين واثنين، فجاء (معدولًا [[في "الكتاب" محدودًا.]]) عن وجهه فتُرِك صرفه. قلت: أتصرفه في النكرة؟ قال: لا، لأنه نكرة يوصف به نكرة.
وحكى الخليل، عن أبي عمرو أنه قال في قوله: ﴿أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ [فاطر: 1]: أنها صفة [[انتهى أخذ أبي علي من سيبويه في "الكتاب" 2/ 225، وانظر: "الطبري" 4/ 237.]].
فقد نصوا على الصفة كما ترى، ونحو هذا قال أبو الحسن [[إن كان يريد الأخفش -وهو الظاهر- فإن رأيه مغاير لما ذكر كما سيأتي.]] وغيره من أصحابنا. انقضى كلام أبي علي [[من "الإغفال" 2/ ل 63 - 67 بتصرف.]].
ومن النحويين [[كالأخفش في "معاني القرآن" 1/ 431، والنحاس في "إعراب القرآن" 1/ 393 - 394، وقد تبعهم في ذلك أبو حيان في "البحر المحيط" 3/ 151، والسمين الحلبي في "الدر المصون" 3/ 563، وعبارة الأخيرين لا تختلف عن عبارة المؤلف إلا يسيرًا فيحتمل إفادتهما منه.]] من يذهب إلى أن العلّة المانعة للصرف في (مثنى) وبابه، أن العدل تكرر فيه؛ لأنه عُدِل لفظ (اثنين)، وعُدِل عن معناه أيضًا، وذلك لا يستعمل في موضع يستعمل [[في "البحر"، و"الدر" (تستعمل) بالتاء.]] فيه الأعداد غير المعدولة. ألا ترى أنك تقول: جاءني اثنان وثلاثة، ولا يجوز أن تقول: جاءني مثنى وثلاث، حتى يتقدم قبله جمع؛ لأن هذا الباب جُعِل بيانًا لترتيب الفعل، فإذا قال القائل: جاءني القوم مثنى مثنى، أفاد أن ترتيب مجيئهم وقع اثنين اثنين.
وأما الأعداد غير المعدولة، فإنما الغرض فيها الإخبار عن مقدار المعدود (دون [[في (د): (عن)، وما أثبته مطابق لـ"البحر"، و"الدر".]]) غيره، فقد بان بما ذكرنا اختلافهما في المعنى، فلذلك جاز أن تقوم العلة مقام العلتين، لإيجابها حكمين مختلفين [[انظر: "معاني القرآن" للأخفش 1/ 431، 432، "البحر المحيط" 3/ 151، "الدر المصون" 3/ 563.]].
والواو في قوله: ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ دالة على تفرّق الأنواع، وتجنيس المُباح من الزوجات، فمن تزوج مثنى لم يضم إليهما ثلاثًا، وكذلك من تزوج ثلاثًا لم يضم إليهن أربعًا.
قال الشاعر:
ولَكِنَّمَا أَهْلِي بوادٍ أَنيسُه ... ذئابٌ تَبَغَّى الناس مثْنَى وَموْحَدا [[البيت لساعدة بن جُؤيّة الهذلي كما في "ديوان الهذليين" 1/ 237، "الكتاب" == 3/ 226، "اللسان" 1/ 321 (بغا). وهو من شواهد "مجاز القرآن" 1/ 114، "معاني القرآن" للأخفش 1/ 432، "المقتضب"، "معاني القرآن" للزجاج 2/ 10. وقد اختلفت الرواية في قافية البيت بين الرفع والنصب، فجاءت: موحدا كما عند المؤلف في "مجاز القرآن" "معاني القرآن" للأخفش، "اللسان". وجاءت موحد في "الديوان"، "الكتاب"، "المقتضب"، "معاني القرآن" للزجاج، ولعل هذه أرجح لموافقتها قوافي القصيدة، انظر "ديوان الهذليين" 1/ 236 - 242. أما معنى البيت فجاء في شرحه في "الديوان": يقول: أهلي بواد ليس به أنيس: هم مع السباع والوحش في بلد مقفر. مثنى: اثنان اثنان. وموحدت واحد واحد، ومعنى تبغّى: تطلب. كما في "اللسان".]] فعَنى مثنى في حال، وموحد في حال أخرى، وليس (موحد) مضمومًا إلى (مثنى) في المعنى.
وقال ابن الأنباري: الواو هنا معناها التفرّق، وليست واوًا جامعة، فإذا كانت بهذه الصفة قُدِّر الفعل بعدها، وكان التأويل: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى، وانكحوا ثلاثًا في غير الحال الأول، وانكحوا رباع في غير الحالين [[لم أقف على كلام ابن الأنباري فيما بين يديّ من مصنفاته.]].
وهذا معنى قول النحويين: أن الواو ههنا للبدل [[إذا كان المؤلف -وهو الظاهر- يقصد أن (مثنى وثلاث ورباع) بدل مما قبلها، فهي في موضع نصب على البدل من (ما) في (ما طاب) عند بعض النحاة. انظر "إعراب القرآن" للنحاس (393)، "مشكل إعراب القرآن" 1/ 189، "غرائب التفسير" للكرماني 1/ 281، "الدر المصون" 3/ 562. وإن كان غير ذلك فإني لم أجد -فيما اطلعت عليه من كتب التفسير وإعراب القرآن ومعاني الحروف- أن الواو تأتي بمعنى البدل، والله أعلم.]]، كأنه قيل: وثلاث بدلا من مثنى، ورُباع بدلًا من ثلاث [[انظر: "القرطبي" 5/ 17.]].
وقال صاحب النظم [[أي مصنف كتاب "نظم القرآن" وهو أبو علي الجرجاني.]]: الواو في هذا الفصل بمنزلة (أو)؛ لأنه لما كانت (أو) بمنزلة واو النسق جاز أن تكون الواو بمنزلة (أو) [[انظر: الطبري 4/ 238، "الكشف والبيان" للثعلبي 4/ 6 ب، "معالم التنزيل" 2/ 161، "غرائب التفسير" 1/ 282، واستبعد أبو حيان أن تكون أو بمنزلة الواو، لأن أو لأحد الشيئين أو الأشياء، والواو لمطلق الجمع فيأخذ الناكحون من أرادوا نكاحها على طريق الجمع. انظر: "البحر" 3/ 163. وما ذكره المؤلف حول الواو هنا أقوال متقاربة من حيث المعنى.]].
ولا تدل هذه الآية على إباحة التسع [[يشير المؤلف إلى بطلان رأي الشيعة الرافضة في ذلك. وانظر: "معاني القرآن" للزجاج 2/ 10، والبغوي 2/ 161، والقرطبي 5/ 17، و"البحر المحيط" 3/ 163، وابن كثير 1/ 488.]]؛ لأن الله تعالى خاطب العرب بأفصح اللغات وأبلغها، وليس من شأن الخطيب البليغ أَنْ يُفرِّق العدد في مثل هذه الحال، يقول: أعط زيدًا درهمين وثلاثة وأربعة؛ لأنه يصير أعيا كلام [[من "معاني القرآن" للزجاج 2/ 10 بتصرف. وانظر: "غرائب التفسير" للكرماني 1/ 282.]].
وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا﴾، أي: في الأربع، بالحب والجماع [[هذا رأي الضحاك كما عند الطبري 4/ 239، والفراء في "معاني القرآن" 1/ 255. انظر: القرطبي 5/ 20. والظاهر أن العدل إنما هو بالنفقة والقسمة ونحوهما، وليس الزوج مُطالبًا بالعدل في الأمور القلبية والنفسية كالحب، ويدل على ذلك أن الله -عز وجل- يقول: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ [النساء: 129]، قال الطبري 5/ 313 في معناه: لن تطيقوا أيها الرجال أن تسووا بين نسائكم وأزواجكم في حبهن بقلوبكم حتى تعدلوا بينهن في ذلك، فلا يكون في قلوبكم لبعضهن من المحبة إلا مثل ما لصواحبها؛ لأن ذلك مما لا تملكونه وليس إليكم.== وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله ﷺ يقسم فيعدل، ويقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك. قال أبو داود: يعني القلب أخرجه أبو داود (2134) كتاب: النكاح، باب: في القسم بين النساء، والنسائي 7/ 64 كتاب: عشرة النساء، باب: ميل الرجل إلى بعض نسائه، والترمذي (1140) كتاب النكاح، باب: ما جاء في التسوية بين الضرائر، وابن ماجه (1971) كتاب النكاح، باب: القسمة بين النساء، وابن حبان في "صحيحه" 10/ 5 (4205).
وأشار ابن حجر إلى أن فيه مقالًا، انظر: "التلخيص الحبير" 3/ 139.]].
﴿فَوَاحِدَةً﴾ أي: فلينكح كل واحد منكم واحدة [[هذا التقدير على قراءة النصب وهي قراءة الجمهور من العشرة انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 394، "المبسوط" / 153، "النشر" 2/ 247، "إتحاف فضلاء البشر" ص 186.]].
ومن قرأ بالرفع [[وهو أبو جعفر وحده من العشرة. انظر: "المبسوط" / 153، "النشر" 2/ 247، "الإتحاف" / 186.]] أراد: فواحدةٌ مقنَع، أو فواحدةٌ رضا [["معاني القرآن" للفراء 1/ 255، وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 394، "الإتحاف" ص 186.]].
وقوله تعالى: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾. يريد من الجواري [[أخرج الطبري 4/ 239 عن السدي أنه قال: السراري، وانظر: القرطبي 5/ 20.]]؛ لأنه لا يلزم فيهن من الحقوق كالذي يلزم في الحرائر، ولا قسمة فيهن باليوم والليلة [[من "الكشف والبيان" 4/ 7 أبتصرف. وهذا ما دلت عليه الآية أنه لا يجب للإماء ما يجب للحرائر، ولكن الظاهر أنه يستحب. انظر: البغوي 2/ 162، القرطبي 5/ 20، ابن كثير 1/ 490.]].
ومعنى الأيمان ههنا بيان، تقديره: أو ما ملكتم [["الكشف والبيان" 4/ 7 أ، وانظر: "تفسير البغوي" 2/ 162.]].
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ [النساء: 3] الإشارة في ﴿ذَلِك﴾ تعود إلى قوله: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ﴾ [[لعل هذا وهم من المؤلف، فالذي يظهر أنّ اسم الإشارة يعود إلى قوله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾، يؤيد هذا بقية كلامه. وانظر: الطبري 4/ 238.]] أي: نكاحكم هؤلاء النسوة على قلة عددهن أقرب إلى العدل وأبعد من الظلم والجور.
ومعنى ﴿تَعُولُوا﴾: تميلوا (وتجورا) [[هكذا في (أ)، (د). والصواب: (تجوروا).]]، عن جميع أهل التفسير واللغة [[سيأتي تفصيلٌ وتعدادٌ لمن ذهب إلى ذلك من أهل التفسير والعربية قريبًا عند المؤلف، وارجع إلى مظانه هناك.]]، وروي ذلك مرفوعًا.
روت عائشة، عن النبي ﷺ في قوله: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ قال: "لا تجوروا". ورُوي: "أن لا تميلوا" [[أخرج الحديث بالروايتين الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 27، قال ابن أبي حاتم: قال أبي: هذا حديث خطأ، الصحيح، عن عائشة موقوف، "تفسير القرآن العظيم" لابن أبي حاتم 3/ 860 بتحقيق حكمت بشير بابين (رسالة دكتوراه في أم القرى)، وانظر "تفسير ابن كثير" 1/ 490.]]. كلا [[في (أ): (كلى).]] اللفظين مرويّ.
قال ابن المظفر: العَول المَيل في الحكم إلى الجور [["تهذيب اللغة" 3/ 2288 (عال)، وابن المظفر هو المعروف بالليث، وتقدمت ترجمته.]].
وقال أبو عبيدة، عن الأصمعي: وعال الميزان إذا مال، وإنما هو مأخوذ من الجور [[من "تهذيب اللغة" 3/ 2288 (عال)، وانظر: "مجاز القرآن" 1/ 117.]]، وأنشد لأبي طالب [[هو عبد مناف بن قصي بن هاشم القرشي، أبن عم النبي ﷺ تقدمت ترجمته.]]: بِميزانِ قسط لا يُعِلّ شَعيرةً ... ووزَّانُ صدقٍ وزنُه غيرُ عائلِ [[البيت من قصيدة طويلة مشهورة بيّن فيها أبو طالب وقوفه مع النبي ﷺ لما خشي قومه ودهماء العرب كما في "سيرة ابن هشام" 1/ 286 - 298، وهو في الطبري 4/ 240، "الزاهر" لابن الأنباري 1/ 141، "تهذيب اللغة" 3/ 2288 (عال)، وابن كثير 1/ 490. وقوله: "لا يعل" يبدو أنه بالغين (يغل) كما عند الطبري، وفي "السيرة": يخس بدل يغل، والمعنى كما في حاشية الطبري: أي: لا ينقص. و (وزان) عند الطبري وابن الأنباري بلفظ (ووازن). وعجز هذا البيت في "السيرة"، "تهذيب اللغة"، و"ابن كثير":
له شاهد من نفسه غير عائل
قال ابن الأنباري: معناه: غير مائل، وهذا هو الشاهد من البيت هنا.]]
وقال الفراء: عال الرجل يعول عَولًا وعِيالةً، إذا مال وجار [[ليس في "معاني القرآن"، وإنما الذي فيه: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾: ألا تميلوا، وهو أيضًا في كلام العرب: قد عال يعول.]].
وعلى هذا القول ابن عباس، والحسن، وإبراهيم، وقتادة، والربيع، والسدي، وأبو مالك [[هو: غَزوان الغِفاري الكوفي، تقدمت ترجمته.]]،
وعكرمة [[انظر: "تفسير الطبري" 4/ 240، و"البغوي" 1/ 163، و"ابن كثير" 1/ 490، و"الدر المنثور" 2/ 211.]]، والفراء [[في "معاني القرآن" 1/ 255.]]، والزجاج [[في "معاني القرآن" وإعرابه 2/ 1.]]، وابن قتيبة [[في "غريب القرآن" ص 119.]]، وابن الأنباري [[انظر: "غريب القرآن" لابن عزيز ص 33.]].
وأخبرني العروضي قراءةً، وسعيد بن العباس القرشي كتابةً، عن الأزهري، قال: أخبرني عبد الملك [[لم أعرفه.]]، عن الربيع [[هو أبو محمد الربيع بن سليمان بن عبد الجبار المُرادي المَصري المُؤَذَّن، صاحب الشافعي وراوي كتبه، ثقة، أخرج له أصحاب السنن، توفي -رحمه الله- سنة 270 هـ. انظر: "طبقات الفقهاء" للشيرازي ص 109، "سير أعلام النبلاء" 12/ 587، "التقريب" ص 206 رقم (1894).]]، عن الشافعي - رضي الله عنه - [[السند من الأزهري إلى الشافعي في "تهذيب اللغة" 3/ 2287 (عال).]] أنه قال: معناه ألّا يكثر عيالكم [["تهذيب اللغة" 3/ 2287 (عال)، وانظر: "تفسير البغوي" 2/ 162، "تفسير القرطبي" 5/ 21.]].
وإلى هذا القول ذهب من المفسرين عبد الرحمن بن زيد بن أسلم [[أخرجه الطبري 1/ 241 بلفظ: أهون عليك في العيال. وانظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2287 (عال)، "زاد المسير" 2/ 10، "الدر المنثور" 2/ 211.]]، وليس قول من خطّأ الشافعي في هذا بشيءٍ، فقد روى لنا الفسوي أبو الحسين، عن حَمْد بن محمد الفقيه، عن أبي عمر [[السند من أبي عمر إلى آخره في "تهذيب اللغة" 3/ 2287 (عال).]] محمد بن عبد الواحد، عن أحمد بن يحيى، عن سَلَمة [[أبو محمد سلمة بن عاصم النحوي، تقدمت ترجمته عند تفسير [البقرة: 102].]]، عن الفراء، عن الكسائي [[هو أبو الحسن علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي.]]، أنه قال: ومن العرب الفُصَحاء من يقول: عال يعول، إذا كثر عياله [["تهذيب اللغة" 3/ 2287 (عال).]].
قال الكسائي: وهي لغة فصيحة سمعتُها من العرب [[هذا القول للكسائي ليس في "تهذيب اللغة".]].
قال الأزهري [[في "تهذيب اللغة" 3/ 2287 (عال).]]: وهذا يدل على أن الشافعي لم يخطئ من جهة اللغة؛ لأن الكسائي ثقة مأمون [[معنى كلام الأزهري وليس نصه.]].
قال [[أي الأزهري، وهو في "تهذيب اللغة" 3/ 2287 (عال) متقدم على قوله السابق.]]: والمعروف من كلام العرب: عال الرجل يعول، إذا جار ومال [[ومال ليس في "التهذيب".]]، وأعال [[في "التهذيب": وأعال يعيل.]]، إذا كثر عياله [[انتهى من "تهذيب اللغة" 3/ 2287 (عال). وانظر: "الزاهر" 1/ 140 ، 141.]].
وقال ابن الأنباري: وهذا القول -على قلة القائلين به- له مخرج في اللغة، وهو أن العرب تقول: قد عالت الفريضة، إذا زادت سهامها، وأعلتها أنا (إذ أردت [[هكذا في (أ)، (د). ولعل الصواب: إذا زدت.]]) في سهامها [[انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد 2/ 396، "تهذيب اللغة" 3/ 2278 (عال).]]. فكذلك قوله: ﴿أَلَّا تَعُولُوا﴾ معناه ألا يزداد عيالكم فتضيعوا الواجب والمفترض لهم [[لم أقف على قول ابن الأنباري هذا، لكن قال في "الزاهر" 1/ 140: ويقال: قد أعال الرجل يعيل فهو معيل: إذا كثر عياله.]].
وهذا القول وإن صح، فالاختيار القول الأول [[هذا الأسلوب من الترجيح حسن من المؤلف، لما فيه من التأديب مع أئمة علم الشريعة والعربية، كالشافعي والكسائي، عكس ما نهج الزجاج -رحمه الله- في هذا، حيث رد هذا القول بشدهَ، بل وتجاهل القائلين به فلم يصرح بأسمائهم. انظر "معاني القرآن" وإعرابه 2/ 11.]]، لقوله: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ فأطلق الآية من ملك اليمين، والأقل والأكثر منها [[انظر: "معاني القرآن" للزجاج 2/ 11.]]، وهن كلهن عيال تتصل بهن المؤونة، وسواء كثر العيال من الحرائر أو الإماء، فلا معنى إذًا أن يقول: ذلك أدنى أن لا يكثر عليكم [[هكذا ولعل الصواب: عيالكم.]] بعد إباحة الكثير من السراري.
ودليل آخر، وهو أنه قال: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ ولم يقل: أن تفتقروا، فكان الجواب معطوفًا على هذا الشرط، ولا يكون جوابه إلا بضد العدل وهو الجور، لا لكثرة العيال. ذكر هذا صاحب النظم [[أي "نظم القرآن" وهو الجرجاني، تقدمت ترجمته.]].
ورُوي عن مجاهد أنه قال: معنى قوله: ﴿أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ ألا تضلوا [[رواه الثوري في "تفسيره" ص 87 بسنده عن مجاهد، وأورده الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 7 ب. انظر: "تفسير البغوي" 2/ 162، "زاد المسير" 2/ 10.]]. وهذا راجع إلى الأول [[أي: تميلوا وتجوروا، قال الهواري لما ذكر القولين: وهو واحد، "تفسير كتاب الله العزيز" للهواري 1/ 347.]]، لأن الميل عن الحق ضلال.
قوله تعالى: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ فيه قولان:
أحدهما: أن هذا خطاب لأولياء النساء، وذلك أنّ العرب كانت في الجاهلية لا تُعطي النساء من مهورها شيئًا، ولذلك كانوا يقولون لمن وُلدت له ابنة: هنيئًا لك النافجة. ومعناه أنك تأخذ مهرها إبلًا فتضمها إلى إبلك فتنفج مالك، أي تعظمه [[انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 115، 120، "تهذيب اللغة" (نفج) 4/ 3624، "الكشف والبيان" 4/ 8 أ.]].
وقال ابن الأعرابي: النافجة ما يأخذه الرجل إذا زَوّج ابنته من الحُلوان فنهى الله عز وجل عن ذلك، وأمر بدفع الحق إلى أهله [[لم أقف عليه.]].
وهذا قول الكلبي [[انظر: "الكشف والبيان" 4/ 8 أ، "معالم التنزيل" 2/ 162.]]، وأبي صالح [[أخرج قوله ابن جرير 4/ 241.]]، واختيار الفراء [[في "معاني القرآن" 1/ 256.]]، وابن قتيبة [[في "غريب القرآن" ص 115.]].
القول الثاني: أن الخطاب للأزواج، أُمِروا بإيفاء النساء مهورهن.
وهذا قول إبراهيم [[لم أقف على قول إبراهيم وهو النخعي.]]، وعلقمة، وقتادة [[انظر: "الدر المنثور" 2/ 213.]]، وابن زيد [[أخرج ابن جرير في "تفسيره" 4/ 241، عن قتادة في معنى (نخلة): يقول فريضة، يعني على الزواج.]]، واختيار الزجاج؛ قال: لأنه لا ذكر للأولياء ههنا، وما قبل هذا خطاب للناكحين وهم الأزواج [[أخرجه ابن جرير 4/ 241 بنحو قول قتادة.]].
والصدقات والمهور، واحدتها صَدُقَة، وفيها لغات هذه أعلاها وهي لغة أهل الحجاز [[انظر: "معاني الزجاج" 2/ 12. وهذا ما اختاره ابن جرير -رحمه الله- كما في "تفسيره" 4/ 242، والبغوي 2/ 163، وهناك قول ثالث: وهو أن المراد النهي عن نكاح الشَّغار وهو رأي الحضرمي. انظر: "تفسير الطبري" 4/ 242، "الكشف والبيان" 4/ 8 أ، "معالم التنزيل" 2/ 163.]].
وذكرنا أن موضوع (ص د ق) على هذا الترتيب، للإكمال والصحة في قوله: ﴿لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ﴾ [[انظر: "معاني القرآن" للزجاج، 2/ 12، "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 494، "الكشف والبيان" 4/ 8 ب.]] [البقرة: 264]، وعلى هذا الأصل سُمي المهر: صداقًا وصَدُقة؛ لأن عقد النكاح يتم ويكمل.
وقوله تعالى: ﴿نِحْلَةً﴾. قال ابن عباس [[أخرجه ابن جرير بسنده من طريق ابن أبي طلحة 4/ 241. وانظر: "الدر المنثور" 2/ 212.]]، وقتادة، وابن جريج، (وأبي زيد) [[هكذا في (أ)، (د) وقد يكون تصحيفًا كما هو ظاهر، والصواب: وابن زيد.]]: فريضة [[أخرج أقوالهم الطبري 4/ 241، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 8 ب، والبغوي 2/ 163، و"الدر المنثور" 2/ 212.]]. وإنما فسروا النحلة بالفريضة؛ لأن النحلة معناها في اللغة: الديانة والمِلّة والشِرعة والمَذهب.
قال الزجاج، عن بعضهم في قوله: ﴿نِحْلَةً﴾ أي: ديانة [["معاني القرآن" 2/ 12.]]، ومثله رُوي [[الراوي الأزهري، عن ثعلب، عن ابن الأعرابي. انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3532 (نحل).]] عن ابن الأعرابي: نحلة: أي: دينًا وتدينًا [["تهذيب اللغة" 5/ 65 (نحل).]]. يقال: فلان ينتحل كذا، إذا كان يتدين به، ونِحْلَتُه كذا أي: دينه ومذهبه [[انظر: "معاني القرآن" للزجاج 2/ 12، "تهذيب اللغة" 5/ 64 (نحل).]].
فقوله: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ﴾ أي آتوهن مهورهن، فإنها نِحلة، أي دين وشريعة ومذهب في الدين، وما هو ديانة فهو فريضة.
قال ابن الأنباري: يقال: فلان (مُنْتَحِلٌ [[في (د): (ينتحل).]]) كذا، إذا كان يتدين به ويجعله فَرضًا على نفسه [[انظر: "الزاهر" 2/ 254.]].
وقال الكلبي: أي: عطية وهبة [["الكشف والبيان" 4/ 8 ب، وانظر: "معالم التنزيل" 2/ 163، "البحر المحيط" 3/ 166، "تنوير المقباس" بهامش المصحف الشريف ص 77.]]، يقال نحلت فلانًا شيئًا أنحله نِحلة ونُحلاً. قال الفراء، والنحلة العطية [[انظر: "معاني القرآن" 1/ 256.]].
ومعنى هذا القول: أن الله تعالى جعل الصداق نِحلةً للنساء، بأن جعل على الرجال الصداق، ولم يجعل على المرأة شيئًا من الغُرم، فتلك نحلة من الله -عز وجل- للنساء. وهذا القول اختيار الفراء [[في "معاني القرآن" 1/ 256، وقد حكى الفراء هذا القول ولم يذكر غيره.]].
وقال أبو عبيدة: معنى قوله: ﴿نِحْلَةً﴾ أي: عن طيب نفس [["مجاز القرآن" 1/ 117، وانظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 115.]]، وذلك أن النحلة في اللغة العطية من غير أخذ عوض، كما يَنحَل الرجلُ ولدَه شيئًا من ماله، وما أعطي من غير طلب عوض لا يكون إلا عن النفس، فأمر الله تعالى بإعطاء مهور النساء من غير مُطالبة منهن ولا مُخاصمة فيه؛ لأن ما يؤخذ بالمحاكمة لا يقال له نِحلة [[انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 115 "الزاهر" 2/ 254.]].
قال ابن الأنباري: وهذا القول هو المختارة لأن النَّحلة بالهبة أشهر منها بالفريضة، وحمل الشيء على الأشهر والأعرف فيه أولى [[هذا الترجيح من ابن الأنباري لم أقف عليه، بل وقفت على خلافه حيث قال -بعد أن أشار إلى القولين-: والقولان متقاربان، "الزاهر" 2/ 254.]].
وانتصابها على المصدر في قوله [[هكذا ولعل الصواب: (قول).]] من جعلها مصدرًا بمعنى: الهبة [[انظر: "مشكل إعراب القرآن" 1/ 188، "البيان في غريب إعراب القرآن" 1/ 242، "البحر المحيط" 3/ 166، "الدر المصون" 3/ 571.]]، وفي قول الآخرين على أنه مفعول له [[انظر: "البحر المحيط" 3/ 166، "الدر المصون" 3/ 571.]]، كما تقول: افعل هذا أجرًا واحتسابًا.
وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا﴾. قال الفراء [[في "معاني القرآن" 1/ 256.]] والزجاج: المعنى فإن طابت أنفُسهن لكم عن شيء من الصداق [[من الصدقات زيادة على الفراء.]]، فنقل الفعل من الأنفس إليهن، فخرجت النفس مُفسّرة كما قالوا: أنت حسنٌ وجهًا، والفعل في الأصل للوجه، فلما حُوّل إلى صاحب الوجه خرج الوجه مفسّرًا لموقع الفعل. (ومثله: قررتُ به عينًا، وضقتُ به ذرعًا) [[ما بين القوسين زيادة على ما عند الفراء.]]
ووحد النفس [[عبارة الفراء: ووحد النفس، ولو جمعتَ لكان صوابًا، وقد جاء بقية العبارة عند المؤلف في آخر كلامه كما سيأتي.]]؛ (لأن المراد به بيان موقع الفعل وتفسير له، وذلك يعرف بالواحد دون الجميع. ومثله: عشرون درهما) [[ما بين القوسين زيادة على ما عند الفراء.]].
قال الفراء: ولو جمعت كان صوابًا [[انتهى من "معاني الفراء" 1/ 256، وانظر: "معاني الزجاج" 2/ 12، والشاهد بعد ذلك إضافة من المؤلف، والله أعلم. وانظر "الكف والبيان" 4/ 29.]]، كقوله: ﴿بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا﴾ [الكهف: 103]، وقوله تعالى: ﴿مِنْهُ﴾ (مِن) ليست ههنا للتبعيض، بل هي للتجنيس، والتقدير: عن شيء من هذا الجنس الذي هو مهر، كقوله: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ﴾ [الحج: 30]، وذلك أن المرأة لو طابت نفسُها عن جميع المهر حل للزوج أخذه كله.
والخطاب في: ﴿لَكُمْ﴾ يجوز أن يكون للأولياء، ويجوز أن يكون للأزواج، على ما ذكرنا من القولين في قوله: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ﴾ [[من "معاني القرآن" للزجاج 2/ 13 بمعناه.]].
وقوله تعالى: ﴿فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾. قال الفراء [[ليس في "معاني القرآن".]]: يقال هَنَأني الطعام، ومَرأَني (يهيئني [[هكذا ويبدو أن الصواب: يهنئني.]]) ويمرئني هَنأً وَمرءًا. ومنهم من يقول: هنئني ومرئني -بالكسر- وهي قليلة، يَهْنَأني وَيْمَرأني فإذا أفردوا قالوا: أمرأني هذا الطعام [[انظر: "تفسير الطبري" للطبري 4/ 244، "معاني القرآن" للزجاج 2/ 12، "تهذيب اللغة" 4/ 3803 (هنا)، "الكشف والبيان" 4/ 9 أ.]]، ولا يقولون: أهنأني. وقد مَرُؤ هذا الطعام مَرْأاة، وهنؤ هُنْأة. الليث [[انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3803 (هنأ).]]: ما كان مريئًا، ولقد مرؤ، واستمرأته، وهذا يُمرئ الطعام.
وقيل: إن أصل الهنيء من الهناء وهو معالجة الجَرَب بالقَطران [[انظر: "تفسير الطبري" 4/ 244، "تهذيب اللغة" 4/ 3803 (هنأ)، "مقاييس اللغة" 6/ 68 (هنأ)، "الكشف والبيان" 4/ 9 أ.]]، فالهنيء شفاء من المرض كالهناء شفاء من الجرب [[انظر: "تفسير الطبري" 4/ 244، "النكت والعيون" للماوردي 1/ 451.]].
قال المفسرون: معنى الهنيء: الطيب المَساغ الذي لا يُنغِّصه شيء، والمريء: المحمود العاقبة التامّ الهضم الذي لا يضر ولا يُؤذي. يقول: لا تخافون في الدنيا به مطالبة، ولا في الآخرة تبعة [[ما نسبه للمفسرين هو ما حكاه شيخه الثعلبي في "الكشف والبيان" 4/ 9أ، ب.]].
ورُوي عن ابن عباس، عن النبي ﷺ: أنه سئل عن هذه الآية، فقال: "إذا جادت لزوجها بالمهر طائعة، غير مُكرَهة لا يَقْضي به عليه سلطان، ولا يؤاخذه الله به في الآخرة" [[من "الكشف والبيان" 4/ 9 ب، وقد أورده الثعلبي بسنده، ولم أقف عليه عند غيره.]].
قال الحضرمي [[لعله أبو بحر عبد الله بن زيد الحضرمي، انظر التعليق الآتي ص 347.]]: إن ناسًا كانوا يتأثَّمون أَنْ يرجع أحدهم في شىِء مما ساق إلى امرأته، فقال الله تعالى: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ [[أخرجه ابن جرير 4/ 243، وانظر: "الكشف والبيان" 4/ 9 أ.]].
{"ayah":"وَءَاتُوا۟ ٱلۡیَتَـٰمَىٰۤ أَمۡوَ ٰلَهُمۡۖ وَلَا تَتَبَدَّلُوا۟ ٱلۡخَبِیثَ بِٱلطَّیِّبِۖ وَلَا تَأۡكُلُوۤا۟ أَمۡوَ ٰلَهُمۡ إِلَىٰۤ أَمۡوَ ٰلِكُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبࣰا كَبِیرࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق